13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    سوسة: الاطاحة بمنحرف خطير من أجل ترويج المخدرات    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    العاصمة: وقفة احتجاجية لعدد من اصحاب "تاكسي موتور"    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    600 سائح يزورون تطاوين في ال24 ساعة الأخيرة    الوكالة الفنية للنقل البري تصدر بلاغ هام للمواطنين..    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    متابعة/ فاجعة البحارة في المهدية: تفاصيل جديدة وهذا ما كشفه أول الواصلين الى مكان الحادثة..    الإعداد لتركيز مكتب المجلس العربي للاختصاصات الصحّية بتونس، محور اجتماع بوزارة الصحة    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    فاجعة المهدية: الحصيلة النهائية للضحايا..#خبر_عاجل    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    صدور قرار يتعلق بتنظيم صيد التن الأحمر    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    عاجل/ منخفض جديد وعودة للتقلّبات الجويّة بداية من هذا التاريخ..    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. من أجل تحقيق التأهل إلى المونديال    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    جندوبة : اندلاع حريق بمنزل و الحماية المدنية تتدخل    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    "ألفابت" تتجه لتجاوز تريليوني دولار بعد أرباح فاقت التوقعات    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    الإعلان عن نتائج بحث علمي حول تيبّس ثمار الدلاع .. التفاصيل    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    تواصل نقص الأدوية في الصيدليات التونسية    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    قرابة مليون خبزة يقع تبذيرها يوميا في تونس!!    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سقوط الإسلاموية :التجربة التونسية: زرع الخوف ومحاربة الأمل


الاستاذ حسن الطرابلسي
لعلّ من أهم التجارب التي يجب أن لا تفوت الباحث في مجال الصحوة أو التيار الإسلامي عموما دراسة التجربة التونسية لثرائها من حيث فعلها ولعنف تعاطي السلطة معها، حتى غدت بمثابة النموذج لقمع التيار الإسلامي وحصاره في التاريخ الحديث.
فالتجربة الإسلامية التونسية وجدت نفسها منذ نشأتها وجها لوجه مع سلطة علمانية شبيهة بالتجربة التركية كما أسسها أتاتورك. ولكن شكل الدولة العلماني في تونس، ولئن استمد إطاره النظري من التجربة العلمانية الفرنسية وتأثر بفلاسفة الأنوار، إلا أنه حافظ على ميزة خاصة، تمثلت أساسا في حضور كاريزماتي للزعيم، “المجاهد الأكبر” أيّام البورقيبية و”صانع التغيير” منذ 1987، وكلا الصفتين أدّيتا إلى اختزال مشروع الدولة في الشخص، وهو ما أدى عند بعض النخب التونسية إلى التشكيك في مقولة الدولة نفسها1.
في عهد الرئيس الحالي زين العابدين بن علي حصل تحالف بين جهاز أمني قوي وتيار ظل مهمشا أيام البورقيبية، وبرز للوجود منذ 1988 بشكل واضح وتمثل في غلاة اليسار الذي دعمته ماديا فئة من أصحاب المصالح الخاصة والمنفعة الآنية، هذا التحالف الغريب بين “الأمني والثقافي والمالي”، يمكن تشبيهه بحالة عشائرية يسود فيه رئيس القبيلة وفارسها ليحتل أعلى الهرم ويخدمه بقية الفرسان والعبيد والحريم. ثم يأسس كل فارس من الفرسان عائلته الصغيرة ليجعل لها حلفاء، ويبدأ التنافس مع سائر عائلات العشيرة، ليس لخدمة العشيرة، وإنما لتثبيت مصالح كل عائلة من هته العائلة من خلال خدمة فارس الفرسان وكسب رضاه وفي هذا الخضم تخبوا مصلحة العشيرة وتخفت. أدى هذا التحالف إلى إفناء الحياة السياسية ومحاصرة المجتمع المدني الذي شهد أوج تطوره في الثمانينات، وكان يمكن ان يكون نموذجا في المنطقة المغاربية لو كتب له النجاح ولم ينتكس منذ تزييف الإنتخابات سنة 1989.
منذ أوائل التسعينات اتسم الوضع في تونس بسمة بارزة لم نجدها في غيرها من البلدان العربية والإسلامية، وهي أنّ الأزمة تجاوزت الصراع مع تيار أو حزب سياسي معين إلى إجتثاث هوية البلاد والقضاء على المجنمع المدني الشيء الذي قاد إلى إعدام الحياة السياسية ومحاربة الأمل عند المواطن التونسي لإرغامه على الخضوع وكسر أنفه والقضاء على كلّ مبادرة يطمح إليها.
ولكن رغم هذا الواقع المتسم بخنق الأنفاس وقتل كل بادرة أمل للحرية فإن التجربة السياسية التونسية ظلت بعيدة عن العنف والإسلاموية وهو ما يضفي عليها ميزة خاصة تعود إلى الأسباب التالية:
الوحدة المذهبية والعقائدية والتوجه المقاصدي للإسلام التونسي الذي يلتقي في هذا المستوى مع نظيره المغربي فلئن كتب علال
الفاسي في المقاصد ووجه العقل المغربي نحو هذا الخط، فإن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتب هو الآخر كتابا قيما في هذا
المجال وهو جهد تابعه فيه المفكر والباحث التونسي الدكتور عبد المجيد النجار.
دور الزيتونة التاريخي والذي حفظ للبلاد وحدتها المذهبية والعقائدية.
انفتحت تونس منذ الإستعمار الفرنسي على التجربة البنيوية الفرنسية وساهم هذا الإنفتاح في القدرة على تأسيس عمل إسلامي تمكن
من بسهولة من الفصل بين السياسي والدعوي بشكل مبكر، قياسا مع الحركة الإسلامية ككل التي بقيت تتعثر من أجل تحقيق بعض
الأقدار في هذا المستوى.
كان للإحتكاك الكبير بين التيار الإسلامي واليساري، خاصة من خلال النقاشات الجامعية، ظلاله على الحياة السياسية إذ ساهم بشكل
غير مباشر في دفع الإسلاميين إلى التشبع بالخطاب الحداثي، فكانت مطالعة كتابات ماركس، وهيجل، وسارتر وديركايم وفرويد
وغيرهم من الفلاسفة، مألوفة لدى الطالب2 الإسلامي في تونس، كما كان له دور آخر تمثل في قدرة اليسار على ضرب الحركة
عندما تولوا مناصب هامة في الدولة وقاموا على تنفيذ خطة "تجفيف منابع التدين"3 في تونس لمعرفتهم بالإسلامييين وطريقة تفكيرهم
منذ أيام الجامعة.
نشأ تيار التجديد والإحياء الإسلامي المعاصر في قوة واحدة ومركزية وهي حركة النهضة التي سادت وجعلت التيارات الإسلامية
الأخرى مثل حزب التحرير والسلفية والدعوة والتبليغ تكاد تكون عديمة التأثير.
ويطمح هذا البحث إلى دراسة ظاهرة الإسلاموية دون التركيز على التتبع التاريخي للأحداث، إلا بالقدر الذي يفرضه توضيح منهج أو تبين فكرة، ولذلك فهو سيهتم بمتابعة الفاعلين الحقيقين والأساسين في الحياة السياسية خاصة منذ نهاية الستينات تاريخ تأسيس التيار الإسلامي في شكله المعاصر على يد الشيخ راشد الغنوشي والمحامي الشيخ عبد الفتاح مورو.
ولتحقيق هدف الدراسة رأينا ضرورة تقسيم مراحل تطور الحركة الإسلامية في تونس إلى ثلاث فترات أساسية وهي:
الفترة الأولى وتمتد من 1969 إلى 1981 وسِيمَتها المركزية التحولات الجذرية في تونس داخل الصحوة من الجماعة الإسلامية إلى الإتجاه الإسلامي، وداخل الفاعلين الأساسيين للمعارضة اليسار والنقابة العمالية والسلطة من التعاضد إلى اللبرالية الكلية، وأما الفترة الثانية فتمتد من 1981 إلى 1991 وسمتها الأساسية أنها تجمع بين مفهومين هما التأسيس والمحنة: التأسيس داخل النهضة والتأسيس لمجتمع مدني وليد، وأما المحنة فهي ردّ فعل السلطة على تطلعات التأسيس التي تعددت خاصة 1981 و84 و86 و87 و89 و90/91 ألخ
وأما الفترة الثالثة فإنها تمتد منذ 1991 إلى اليوم والجامع الأساسي لها هو محاولة أعادة الأمل وإحياء الحياة السياسية في البلاد بعد أن تم اغتيالها منذ 1991
1 من 1969 إلى 1981: تحولات جذرية
في أواخر الستينات التقى الشيخ راد الغنوشي العائد من فرنسا، بعد رحلة دراسية في المشرق، متشبعا بتجربة الإخوان المسلمين، في بعدها النظري، وبطريقة الدعوة والتبليغ في بعدها العملي ومتشبعا بفكر النهضويين العرب بما فيهم التجربة القومية التي كان الغنوشي معجبا بها ومن أنصارها4، مع المحامي عبد الفتاح مورو، صاحب التوجه الصوفي، وبدآ سلسة من النشاطات جلبت لها العديد من الشباب والطلبة وتدرجيا تشكل فعل دعوى لم تكن له أبعاد سياسية واضحة.
ميزة هذا العقل التأثر بالعقل الإخواني في بعده التنظيمي5، حسن البنا وسيد قطب وكذلك أبو الأعلى المودودي ولكنه كان لا يخلوا من مشاكسات مع الفكر الزيتوني الذي كان يعتبره الشيخ الغنوشي وأصحابه فكرا رسميا قاصرا وتقليديا، فهؤلاء الشباب لم يروا في الفكر الزيتوني عامل إفادة لأنه كما يصفه الغنوشي "منغمسا في التاريخ"6 فالشيخ الغنوشي لم يقرأ لعلماء الزيتونة إلا في الثمانينات، حيث بدأ يقرأ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (18791970) ثم بدأ منذ ذلك العهد يعدّل من مواقفه تجاه الفكر الزيتوني وبدأت الحركة تبتعد عن الفكر النافي تدريجيا وتعود إلى التصالح مع الفكر الزيتوني. كما كان موقف الحركة قائم على النفي المطلق للآخر ولكل ما هو غربي7 اتباعا لفكر سيد قطب القائم أساسا على ثنائية الجاهلية والإسلام. وهكذا تميزت هذه الفترة بحالة "رفض للمجتمع القائم، أي للبورقيبية بكل أبعادها، وللتدين التقليدي لصالح التدين الإسلامي المشرقي الوافد"8 قاد هذا الفكر إلى تحديد خصومه الأسايين المتمثلين في اليسار الذي كان يسيطر على الفعل السياسي في الجامعة واتحاد الشغل أساسا.
كانت السلطة تغض الطرف عن هذا التطور الحاصل في الفكر الإسلامي لأنها كانت تطمح، بعد تجربة التعاضد الفاشلة لسنة 1969 ان تلمع من صورتها الدينية خاصة وأنها لم تعد تعتبر الزيتونيين الورقة الرابحة لسببين:
أن بورقيبة، مؤسس الجمهورية في تونس، قضى على فاعلية هذه المؤسسة التي كانت بطبيعتها تعيش حالة من الترهل
وثانيا لأن بعض الزواتنة كانوا قد تحالفوا مع خصوم بورقيبة السياسيين أيام صالح بن يوسف الذي اغتيل في فرانكورت لاحقا والذي احتفل بورقيبة باغتياله بشكل علني كما تحالفوا مع خصومه في محاولة الإنقلاب الفاشلة سنة 1962.
فكان هذا التدين الذي لم تتوضح بعد معالمه والذي يفتقد إلى الخبرة السياسية بديلا جديا للسلطة استطاعت أن توجهه نحو اليسار9 ليكون تيارا إسلامويا نافيا إلا أنه اصطدم أمام انتفاضة سنة 1978 بأن المجتمع ليس مقسما بطريقة تبسيطية إلى جبهتين جبهة للكفر وأخرى للإيمان وإنما هناك قضايا أخرى تشغل المواطن، وهو ما يعترف به الشيخ راشد الغنوشي نفسه بقوله "شعرنا أن هناك صراعا آخر في المجتمع غير الصراع العقائدي بين الشيوعية والإسلام، صراعا آخر لا يقل أهمية عنه، وهو الصراع بين فقراء معدمين مستغلين وبين فئة قليلة مستغلة متحالفة مع الدولة، بل هي الدولة" ثم يضيف "كنا في المرحلة الأولى عندما يدعو اليسار في الجامعة وفي النقابات إلى الإضرابات نعمل على كسرها وندعو إلى إفشالها باعتبار أن عملا يقوده شيوعيون كفارا لا بد أن يقاوم. لقد تغيرت نظرتنا إلى الأمور وصرنا نعي أن الله لم يخلقنا لنقاوم الشيوعية وإنّما لنحقق أهداف الإسلام التي قد تلتقي مع الشيوعية وأي مذهب آخر في بعض النقاط"10
ونلاحظ في هذا الإستشهاد أن المفردات التي استعملها الغنوشي نفسها قد بدأت تتغير بحيث أنها لم تعد تنتمي إلى مفردات الخطاب الإسلامي التقليدي الدعوي الأحادي البعد وإنما نجد هذا النص مشحونا بكلمات ينتمي بعضها إلى القاموس الماركسي نفسه كمصطلح "الصراع" و"مستغلين" وبين مفاهيم توائم بين الفهم الإسلامي والماركسي مثل "فئة قليلة مستغلة" والفئة هو مصطلح ضارب في جذوره الإسلامية والقرآنية "كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَة بِإِذْنِ الله" (البقرة، 247) ومفردتا "مستغِلة ومستغَلة" تحيلنا إلى مفهوم الصراع الطبقي الماركسي ذي البنية الفوقية والبنية التحتية كما وصفها في كتاباته. وفي أماكن أخرى نجد استعمال مصطلحات مثل "مستضعفين" وما شابهها وهي ولا شك وافد من قاموس الثورة الأيرانية التي كان لا تأثير مفاهيمي ومصطلحي كبير على الصحوة التونسية. إننا لا نريد أن نتتبع التطور المصطلحي لفكر الشيخ راشد الغنوشي، مع ما لذلك من أهمية، وإنما نريد أن نؤكد على أن بداية الجماعة الإسلامية، وهكذا كانت تطلق على نفسها، بدأت كأغلب التيارات الإسلامية منغلقة، منعزلة، ونافية للآخر أي إسلاموية. ولكنها شهدت، خاصة، منذ أحداث 1978 حوار داخليا قاد إلى تطوير خطابها وهو ما حدث فعلا في المرحلة الثانية من عمر الحركة.
2 من 1981 إلى 1991: من التأسيس إلى المحنة
كانت ثورة 1978 في بعدها الإجتماعي الصدمة المعرفية والسياسية الأولى التي مهدت "للقطيعة" مع المنهج القديم، إذا استعرنا بعض ألفاظ باشلار، إلا أن هذا الحدث أعقبه أحداث أخرى في المستوى العالمي والإسلامي والعربي عجلت بالدخول في المرحلة الثانية من عمر الصحوة في تونس.
ويمكن ان نجمل هذه الأحداث فيما يلي :
إلى جانب انتفاضة جانفي/كانون الثاني 1978، قامت الثورة الأيرانية، هذا الزلزال الذي ضخ الشعور الإسلامي بشحنات حرارية ومعنوية كبيرة، بتزويد الإسلاميين التونسيين بزخم مصطلحي كبير كانت تحتاج إليه في مرحلتها الجديدة، كما كان لتجربة الجبهة القومية الإسلامية في السودان تأثير كبير على الصحوة في تونس خاصة في تدعيم دور المرأة في العمل الإسلامي، إضافة إلى تأثير المفكر والحكيم الجزائري مالك بن نبي11 في بعده الإجتماعي والحضاري.
هذه العوامل المشتركة ساهمت منذ نهاية السبعينات في بلورة خطاب سياسي جديد للحركة لم تعد تتسع له الجماعة الإسلامية مما جعل الشباب الإسلامي النشيط والمنتشر في أرجاء تونس يطمح إلى التغيير، إضافة إلى اعتقال صالح كركر، الذي كان يحمل معه وثائق مهمة في التعجيل بالإعلان عن تأسيس "حركة الإتجاه الإسلامي" يوم 6 جوان/حزيران1981 في ندوة صحفية عقدتها قيادة الحركة في مكتب المحامي الشيخ عبد الفتاح مورو.
امتدت هذه المرحلة المهمة من تاريخ الحركة ومن تاريخ تونس حوالي عشر سنوات من سنة 1981 إلى حدود سنة 1991 وسوف ندرسها ضمن فترتين تارخيتين وهما:
الفترة الأولي وتمتد من 6/6/1981 تاريخ تأسيس حركة الإتجاه الإسلامي إلى 7/11/1987 تاريخ التحول السياسي الأول في تونس ما بعد الإستقلال والثانية تبدأ من تاريخ هذا التحول إلى سنة 1991
أ من 6/6/81 إلى 7/11/1987: من "التأسيس" إلى "التغيير"
السبب الأساسي الذي يجعلنا نعتمد هذا التقسيم هو الوحدة المعنوية سياسيا وإجتماعيا وثقافيا التي تميز هذه الفترة لأنها شهدت نواة تأسيس مجتمع مدني راق في تونس كما شهدت حوارا ثقافيا وسياسيا بين مختلف الفاعلين الأساسيين في الفضاء السياسي بما فيهم السلطة، على عهد الوزير الأول محمد مزالي، ولكنها شهدت أيضا بدايات الإهتزاز لنظام شاخ مع شيخوخة مؤسسه تمثلت في عدد من الإنتفاضات أهمها ماعرف بانتفاضة الخبز سنة 1984 وأحداث اتحاد الشغل 1986 لتختتم باحداث 1987 والتي أدت عمليا إلى سقوط عهد بورقيبة.
أهم ما يعنينا في هذه المرحلة هو إعلان التأسيس لحركة النهضة والذي يمثل بيانها التأسيسي أهم وثيقة تعرفنا بهذا المولود الجديد. تضمن البيان التأسيسي مطالب لم يتعودها الفضاء السياسي، ليس في تونس فحسب، وإنما أيضا خارجها مطالب لم يتعود الخطاب الإسلامي إنتاجها، فنحن نجد من المطالب الواردة في هذا البيان ما يلي:
"لا تقدم حركة الإتجاه الإسلامي نفسها ناطقا رسميا باسم الإسلام في تونس" ويضيف البيان أن مهام حركة الإتجاه الإسلامي تتجه لتحقيق الأهداف التالية "بعث الشخصية الإسلامية لتونس...تجديد الفكر الإسلامي...أن تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها...إعادة بناء الحياة الإقتصادية … والمساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام" ويرى البيان أن تحقيق ذلك يتم بالوسائل التالية "إعادة الحياة إلى المسجد...تنشيط الحركة الفكرية والثقافية... دعم التعريب... رفض العنف كأداة للتغيير... رفض مبدأ سلطة الفرد... الإنحياز إلى صفوف المستضعفين... دعم العمل النقابي واعتماده ... اعتماد التصور الشمولي للإسلام..."12
كان هذا البيان ثورة تجديدية في الخطاب الإسلامي لأنه عكس في المطالب والوسائل التي حددها توجهات حزب سياسي مدني يجمع بين الأصالة والمعاصرة من خلال تجديده لمؤسسات تقليدية كالمسجد وتحويل الأخوة الإسلامية إلى مؤسسة إجتماعية وتحصين هذا التوجه الجديد ضد الإسلاموية والعنف باعتبار رفض الحركة لهذين الأصلين كمبدإ للتغيير وللتبادل السياسي وتقر من ثمة بالتعدّية الحزبية والتبادل الديمقراطي للسلطة.
أتجه التأسيس إلى تأكيد ثلاثة أبعاد، الأول هو الحسم مع الطريقة التقليدية في العمل الإسلامي على طريقة الدعوة والتبليغ وفيه أيضا حسم مع التوجه الإخواني، الذي لم يكن متحمّسا لهذا التوجه13، والذي قام الشيخ الغنوشي بنقده نقدا قويا في أحد تصريحاته بقوله "هناك خطأ سياسي شنيع ارتكبته حركة البنا ولا يزال متواصلا وهو أن الحركة الإسلامية تقدم نفسها وصيا على المجتمع وليس طرفا سياسيا أو فكريا يستمدّ مشروعيّته من قوة الحجة وإقناع الجماهير ببرامجه.."14 فهو يعتبر بذلك تجربة الإخوان تجربة نافية إسلاموية.
الثاني توجه إلى المعارضة والفضاء السياسي التونسي حيث اعتبر أن الجميع في زورق واحد يدافع عن الحريات ويعارض سياسية الحزب الواحد والرئيس الأبدي والملهم.
والثالث موجه إلى السلطة ويدعوها فيه إلى رفع التعسف السياسي والحيف الإجتماعي وإقرار التعدّدية الحزبية.
هذه الخلفية الفكرية والسياسية جعلت من الإسلاميين التونسيين يبادرون مبكرا إلى اعتماد الحوار مع الآخر والنظر إليه كشريك في سفينة واحة، فمبجرد بوادر الإنفتاح السياسي سنة 1981 طلب الإتجاه الإسلامي (النهضة حاليا) اعتماده حزبا سياسيا، لكنه ووجه بالرفض واعتقال قيادته.
أما في مستوى التوجه الفكري والأصولي فإن الحركة نجحت مبكرا في كتابة "الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي للحركة الإسلامية التونسية" وهذه أثبت تميزها عن الخط الإخواني والخط السلفي ومثلت خطوة تجديدية في مستواها العقائدي والتأصيلي.
سياسيا انخرطت الحركة في النضال السياسي اليومي مع المعارضة وكانت لها حوارات ولقاءات مع أحزاب المعارضة بما فيه الحزب الشيوعي التونسي وشاركت بجماهيرها الغفيرة في أحداث الخبز لسنة 1984، ثم تبنت الدفاع عن الإتحاد العام التونسي للشغل، أقدم المنظمات العمالية العربية، كما نجحت في حسم الصراع الجامعي لصالحها خاصة بعد تأسيس الإتحاد العام التونسي للطلبة15 وتوجت هذه المرحلة بمعركة الحريات ضد نظام بورقيبة، الذي بلغ الشيخوخة، وهو ما أدى إلى سقوطه وانقلاب زين العابدين بن علي عليه في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987.
ب من "التغيير" إلى "تجفيف منابع التدين"
بوعود براقة بدأ الرئيس التونسي الحالي فترة حكمه سنة 1987 وهو ما ضخ في التونسيين أملا كبيرا في القطع مع سياسة الحزب الواحد والزعيم الواحد فحصل على تأييد ومسادنة كل فصائل المجتمع المدني، بما فيها حركة الإتجاه الإسلامي التي غيرت بعد مدة وجيزة من التحول من أسمها إلى "حركة النهضة" بعد أن أطلق سراح أبنائها أو أغلبهم، وفعلا أصبحت تونس محل اهتمام المتابعين لأن الواقع كان يؤذن بولادة تجربة سياسية رائدة في العمل السياسي المدني ، خاصة مع الوعود المقدمة بإجراء انتخابات نزيهة وديمقراطية يشارك فيها الجميع والإعتراف القانوني بحركة النهضة.
بالتوازي مع هذا المخاض السياسي الذي بدأ يتشكّل والذي أهم ميزاته الإنفتاح، والحوار وتجنب الإسلاموية كانت الحياة السياسية تشهد حركة مريبة تمثلت في إثارة قضايا حساسة منها الموقف من المرأة وقضية الهوية ومسألة التعددية وتوجه عدد كبير من النخب اليسارية المعروفة بمعارضتها لبورقيبة إلى الدخول في التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم وتصدّرها لأماكن حساسة في الدولة كان أبرزها محمد الشرفي، الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الذي تولّى وزارة التعليم .
لم تكن النهضة بعيدة عن هذا السجال الثقافي والسياسي فساهم فيه عدد من أبنائها من خلال مقالات نشرت على أعمدة الصحافة وخاصة في "مجلة حقائق" وتعد مساهمة الدكتور النجار في مؤلفه "صراع الهوية في تونس"16 أهم هذه الإسهامات. كما أمضى المحامي نور الدين البحيري على مشروع الميثاق الوطني وكرر الشيخ راشد الغنوشي تأكيده في كل فرصة سنحت له على أن "مشروع الحركة، هو مشروع مجتمع مدني يقوم على التعدّدية السياسية والتعدّدية الثقافية، والإنتصار للفئات الضعيفة والمحرومة دون قمع للمبادرة الفردية وللمؤسسات الخاصة. وهذا المشروع يركز على المسألة الإجتماعية متمثّلة في دعم المؤسسات النقابية والمجتمع المدني، حتى تخرج الجماهير من وضعية الهامشية إلى وضعية الكيانات، وضعية المجتمع المؤطر في أحزاب وصحف ونقابات تستطيع الظغط على السلطة، وأن تعيق الإستبداد السلطوي، وتفرض الحرية"17
وأما في موضوعة المرأة فلقد أثبت الحركة توجها منفتحا سمح للمرأة بالمشاركة في عملية التغيير وفي الفعل السياسي، فلقد تضمن طلب الترخيص للحركة في العمل العلني والقانوني سنة 1981 أسماء 25 شخصا من مؤسسي الحركة بينهم ثلاث نساء وتواصلت المشاركة الريادية للإسلامية التونسية في كل مراحل حياة الحركة. وقد أسست النهضة هذا التوجه على قاعدة نظرية لخصها الشيخ الغنوشي في قوله "المرأة نصف المجتمع وهي التي يربى النصف الآخر على يديها. وبقدر ما تأخذ المرأة مكانتها في عملية التغيير بقدر ما تتسارع هذه العملية"18
ومن هنا كانت مشاركة الحركة في انتخابات 1989 مسألة تتويج لخيار سياسي نعتبره طبيعيا وسليما وتتويجا للمسار المدني الذي كانت تعيشه البلاد وساهمت الحركة بقسط مهم في التأسيس له، ولذلك فنحن لا نتفق مع الباحث فريد خدومة، رغم تقييماته وتحليلاته المفيدة، في اعتبار المشاركة في الإنتخابات كانت تجربة مخطئة.19 ولكننا نقر أيضا أنها لم تكن مدروسة وغلبت عليها الحماسة أكثر من الحنكة السياسية. فالحركة توسعت فيها بشكل كبير وكان الأجدر أن تكون مشاركتها محدودة، وهي نتيجة تعترف بها الحركة أيضا في تقييمها20 التي أصدرته سنة 1996 ولكننا لا نتفق على النتائج التي بنت عليها الحركة بقولها ان الإنتخابات "كشفت عن التعاطف الشعبي الكبير الذي تتمتع به الحركة"21 لأن ما اعتبرته الحركة تعاطفا لا يعدوا أن يتجاوز حالة من التفاعل التونسي مع توجه إسلامي يتصالح مع الهوية دون أن يكون لهذا الشارع وعي كاف بطبيعة هذا التوجه، وأما الحفاوة وحسن الإستقبال الذي كان يلقاه أبناء الحركة أثناء الحملة الإنتخابية فلا يعدوا أن يكون حالة من الإعجاب بالحركة التي استطاعت، كما شاع في المخيال الشعبي التونسي، إسقاط بورقيبة.
ولكن رفض الترخيص القانوني للنهضة ثمّ تزوير الإنتخابات أدى إلى حالة تشاؤم ويأس22 من الوضع السياسي في تونس عموما وكشف الغطاء عن التحركات المريبة وأطل يساريون متطرفون تولوا إدارة البلاد بعدما أعدوا خطة "تجفيف منابع التدين" وقرروا فرضها مستعينين بالجهاز الأمني والمالي للدولة.
وهنا اختلفت التجربة التونسية عن التجربة الجزائرية، فلئن انتفضت الجزائر وسقطت في الإسلاموية، رغم مشروعية مطلبها، كما رأينا في عنصر سابق، آثرت النهضة مواصلة العمل السياسي، والمطلبية السياسية وجنبت البلاد خطر الإسلاموية.23 ولكن هذه السياسة لم تفدها لأن السلطة قد قررت حسم الأمر لصالحها بشكل نهائي إضافة إلى خطأ النهضة في عدم قدرتها على التخفيف من حدة الإستقطاب الذي شهدته الساحة السياسية أواخر الثمانينات مما جعل المعارضة، التي كانت تعاني من مشاكل هيكلية وسياسية، تنفض عنها وتسلك الصمت أو الإنحياز إلى السلطة التي بعد أن فرغت من النهضة إنقلبت على الجميع.

لو قيمنا نتائج هذا العنصر لوجدنا أن هذه الفترة من عمر البلاد، رغم ما اعتراها من تعثر، تعتبر أثراها سياسيا إذ تجسدت فيها نواتات مجتمع مدني وولدت بشائر حياة سياسية تونسية متطورة ولكنها وئدت وهي لا تزال في طور تشكّلها. وأما جهد حركة النهضة التي ظلت تصارع من أجل العلنية، فيمكن أن نتابعه من خلال سعيها المتواصل إلى الندماج في الحياة المدنية أساسا في المحطات الهامة التالية 1981 ثم 1989 ثم 1990 وكان لديها حرص نحو ما أطلق عليه الفيلسوف وعالم الإجتماع الألماني يورغن هابرماس "الإنفتاح"24. فهابرماس دعى إلى أهمية الإنفتاح السياسي وأكد على دور المجتمع المدني في الواقع المعاصر. هذا الإنفتاح الذي يفهمه هابرماس على أنه "شبكة جدّية لتبادل مضامين ومواقف وبالتالي لتوصيف أفكار مما يؤدي إلى تنقيتها ومنهجتها لتقود إلى موضوعات مميزة تقوي الرأي العام" ويؤكد هابرماس أن الإنفتاح لن يحصل إلا عبر تحرير العلاقات والتعاطي الموضوعي مع الإشكاليات العامة، وأما في الممارسة اليومية فلكي يتم التواصل يجب العمل على البناء المتواصل للثقة.25
إلا أن التجربة التونسية لم تشهد انفتاحا من السلطة على المجتمع بل إن هذه العلاقة قامت على مناخ عدم الثقة التي أسست له السلطة من خلال مركزة المعلومة في جهاز واحد يصدر عنها ويخضع لمراقبتها فمنع ذلك وجود قنوات تواصل بين مكوّنات المجتمع المدني المختلفة، وكرس هذا البعد الأحادي لسريان المعلومة مناخا من عدم الثقة والشك اسفادت منه السلطة ووظفته، وما كانت النهضة وسائر ممثلي المجتمع المدني إلا ضحايا لهذا النظام التوتاليتاري المغلق، فالنهضة كانت كما يقول الباحث الدكنور توفيق المديني "في كل مرة كانت تتقدم فيها الحركة الإسلامية التونسية في تيارها العريض (الجماعة، الاتجاه، النهضة ) بطلب اعتمادها حزبا سياسيا يعمل في نطاق الشرعية و القانون، كانت السلطة التونسية ترفض ذلك. ويعود السبب في ذلك إلى خوف الطبقة الوسطى وممثليها في المجتمع المدني وفي السلطة من الموقف العدائي للحركة الإسلامية التونسية في المراحل الأولى من نشأتها من الدولة البورقيبية، والنخبة العلمانية المسيطرة عليها، والموغلة في تطرفها العلماني بالمعنى الإيديولوجي، إذ تبنت الفكر و المناهج الغربية دون إعادة قراءاتها قراءة نقدية تأخذ بعين الاعتبار واقع المجتمع العربي التونسي و هويته القومية العربية والإسلامية.‏26، إلا أن هذا التخوف كان يمكن للسلطة تجاوزه لو أنها انفتحت على المجتمع المدني أكثر، وأما أن تفرض عليه "حالة حصار" فإنه أدى عمليا إلى قتل الحياة السياسية منذ 1991.
3 من1991 إلى اليوم : الإنتكاسة وموت الحياة السياسية في تونس
تعتبر هذه الفترة من أشد الفترات تعقيدا في عمر البلاد إذ تداخلت فيها الموضوعات وتسارعت فيها الأحداث وتقلبت فيها المواقف السياسية، ليس للنهضة فقط، وإنما أيضا للتيارات والأحزاب السياسية الأخرى، كحركة الديمقراطيين الإشتراكيين التي تذبذبت بين الإنتصار إلى الحريات والمجتمع المدني أو الإنحياز إلى السلطة خوفا من الإسلاموية التي كانت السلطة تنفخ في صورتها وتهدد بها المعارضة، أو كحزب العمال الشيوعي التونسي الذي انحاز الى السلطة التي انقلبت في النهاية على الجميع ولم تسلم منها أيضا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
هذا المشهد العام الذي ساد في تونس بعد 1991 تميز بتعقده وتشابكه ورغم الزخم الهائل من المعلومات حوله إلا أنه يبقى مستعصيا على الإستقصاء لأنّ هذه المعلومات متضاربة ومتناقضة بحيث أن التمييز فيها بين الغث والسمين، بين الحقيقة والوهم ، بين الصدق والزيف صعب جدّا، كما كان لهذه المرحلة تأثيرات عميقة وخلفت لدى العديد ممن عايشها ضغطا نفسيا واجتماعيا لم يستطع البعض الخروج منه إلى الآن. وأدى إلى تغول السلطة وحصول شرخ هائل صعب رتقه بين السلطة والمعارضة ككل.
هذه العوائق تجعل دراسة هذه المرحلة صعبة كما تقود متتبعها إلى السير على طريق غير ممهدة ولم يتم بعد تناولها، فيما نعلم، بالشكل العلمي الدقيق. إضافة إلى أن كاتب هذه الورقات هو نفسه جزء من هذه المرحلة لأنه اعتقل وعذب وجند في الصحراء27.
هذه العوامل مجتمعة تجعل الذاتي والموضوعي يتداخلان ويصعب الفصل بينهما وهو ما يجعل مهمتنا صعبة، بل لا تخلوا من المغامرة، ولكننا آثرنا أن نتابع منهجنا الذي دأبنا عليه في كتاباتنا وهو اتباع الحق ما استطعنا إلى ذلك سبيلا بحيث أننا لن نجامل ولن نعادي وإنما سنسلك سبيل الحق ما استطعنا، سائلين الله التوفيق، ولهذا فإنّنا سنحاول دراسة هذه الفترة من خلال تحديد الفاعلين الأساسيين ثم نتعقب الإشكاليات السياسية والفكرية التي من خلالها يمكننا معرفة الحد الفاصل بين الوسطية والمغالات، بين الإعتدال والتطرف، بين الإسلام والإسلاموية28.
ويمكن أن تقسم هذه الفترة إلى أربعة محطا ت أساسية كالتالي :
من 1991 إلى 1996
من 1996 إلى 2001
من 2001 إلى 2004
منذ 2004 إلى اليوم
وعند التحليل سوف نبرر اختيارنا لهذه الفترات الزمنية ونبين الحجج التي اعتمدنا عليها في تحديد ذلك.
ولكن قبل أن نبدأ تتبع المراحل الزمنية نريد أن نشير إلى أهم القضايا والملفات التي اصطدمت بها النهضة في المهجر، والتي تتطلب حلا عاجلا، باعتبار أن هذه الملفات تعتبر الخلفية الأساسية التي ستساعدنا على تتبع ونقد هذه المراحل:
آلاف من المساجين، عائلات فقدت معيلها فتشردت، قطاع كبير من المتعاطفين إن لم يسجن فإنه فقد موطن عمله، آلاف من المهجرين الغاضبين والمهزومين سياسيا والمشتتين في بلاد كثيرة، وقيادة شابة طلابية أساسا ليس لها الخبرة ولا تحوز على الإجماع، وسلطة متشددة وعنيفة... هذه بعض ملامح وضعية النهضة كما رأيناها عشية التهجير أي بداية التسعينات من القرن الماضي.
داخليا اعتمدت الحركة خطابا تسكينيا تربويا وعضيا يحاول إقناع المهجرين بالصبر واعتبار أن ما حدث ابتلاء يجب القبول به وتسليم الأمر إلى الله، ورغم ما في هذا الخطاب من معقولية ووجاهة إلا أنه فشل لأن القائمين عليه لم تكن تتوفر فيهم الشرعية التاريخية والقيادية ويفتقدون إلى الكاريزما الكافية للإقناع ولأن الشباب كان متعطشا لمعرفة ما حدث إضافة إلى أن بعض قيادات الحركة التقليدية التي لم تنخرط في المكاتب المهجرية أو "سحب من تحتها البساط" كانت تتصل بالشباب وتروج لخطاب مناقض لما يمكن أن أصفه بالخطاب الرسمي للحركة وهو ما زاد الطين بلة.
خارجيا اعتمدت النهضة سياسة التظلم والعمل الحقوقي والذي يركز على الدفاع عن المساجين للحيلولة دون إعدامهم وفي هذا المستوى سجلت الحركة أقدارا كبيرة من النجاح.
يضاف إلى هذه الصعوبات استحالة أو صعوبة القيام بتقييم جاد، رغم الجهود التي بذلت في هذا المجال، لأن عددا من المعطيات لم تكن متوفرة وأهمها أن الفاعلين الحقيقيين كانوا في السجون أو في مناف متشتة جعل الإتصال بهم صعبا أو رفضوا المشاركة. كما أن عقل الحركة القيادي نفسه لم يكن منسجما ولم يكن متجانسا وحصل فيه تجاذب كبير وانشغل إلى فترة طويلة بتبادل الإتهام حول مسؤولية ما حدث مما أثار بلبلة لدى القواعد الشابة. وفي الأخير استطاع تيار الشيخ راشد أن يحسم الأمور لصالحه وتتأسست قيادة مهجرية لم تحظ بإجماع تام وهو ما جعل حالات الإستقالة المعلنة وغير المعلنة تتوالى.
ويمكن تتبع هذه الوضعية في فكر أهم قيادات ومنظري الحركة، الشيخ راشد الغنوشي والأستاذ صالح كركر والدكتور عبد المجيد النجار، ففكر الغنوشي يمكن قراءته ضمن ثلاث مستويات أو يمكن وصفه بثلاث فضائل بلغة مسكويه (توفي 1030م)
أ فضيلة الفيلسوف السياسي في هذا المستوى نجد أن الشيخ راشد حافظ على كفاءته وقدرته التحليلية وتشبعه بالفقه السياسي الإسلامي المقاصدي وكذلك فهمه الدقيق لنظريات الدولة والعقد الإجتماعي وكتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" يعد جوهرة نفيسة في الفكر الإسلامي.29
ب فضيلة الأصولي والفقيه وفيها كانت له أيضا أنجازات مهمة أهمها جهوده في المجلس الأروبي للإفتاء وكذلك كتاب "القدرعند ابن تيمية"30 الذي يناقش فيه الشيخ راشد اشكالية القدر والانسان في ثلاثة مباحث شكلت رؤية أهل السنة والجماعة في معالجة قضية القضاء والقدر والكسب أو ما يعرف في الفلسفة بإشكالية حرية التصرف الانساني. ويستعرض الكاتب آراء الفرق الكلامية والفلسفية المختلفة ثم ينتصر لعقائد السلف وليبرز أن شيخ الإسلام ابن تيمية أحسن من تكلّم في قضية القدر. وفي هذا المستوى أيضا وجدنا أن الشيخ راشد حافظ على تميزه الفكري والأكاديمي.
ج فضيلة القائد والزعيم وهنا كان الإشكال. فالشيخ الغنوشي وجد نفسه بعد 1991 في وضع جديد، فهو قائد يريد أن يلملم صفوف جنوده بعد الخروج من معركة طويلة خاسرة أتت على الأخضر واليابس في سابقة لم تشهد لها حركته مثيلا وبين صحوة تجتث من جذورها وسلطة تعدم الحياة السياسية وتفقد الدولة قيمتها، و"عزلة" داخل الفضاء الإسلامي الحركي، إذا استثنينا التعاطف السوداني، فالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الذي كان الغنوشي ينتقده أثناء حقبة الثمانينات، والذي هو في أمس الحاجة إليه الآن، لم ينس "تمرد" الشيخ الغنوشي عليه31، فكان مترددا في التعاطف مع الملف التونسي32.
من ناحية اخرى كان قطاع كبير من أبناء النهضة المهجرين يتهم الغنوشي بأنه هو المسؤول عما حدث للحركة والبلاد، ولذلك كانت لقاءاته مع المهجرين لا تخلوا من كثير من التطاول قد يخرج أحيانا عن حدود الأدب.
هذه التحديات جعلت الشيخ الغنوشي يراوح بين دوره كباحث ومفكر وزعيم سياسي . كان يَنْتَظِركزعيم أن يطاع ولكن الشباب الغاضب والساخط والفقير والوحيد في بداية التسعينات لم يعد يقبل الخطاب التقليدي المُسكِّن ولم يعد معظمه يرى من جدوى للتنظيم أو النشاط فيه ويطالب بالتقييم ويتهم الغنوشي. وهنا بالضبط كانت معضلة الشيخ راشد لأنه وجد صعوبة في التوفيق بين الحكيم والفقيه ذو الإشعاع العالمي وبين القائد والزعيم القطري لحركة مهرسلة ولشباب متمرّد33، وقد تجلى ذلك في موقفه من الهاشمي الحامدي كأكثر ما يكون التجلي حيث أنه في اللقاء الذي جمع بينهما في برنامج "الإتجاه المعاكس" الذي تبثه قناة الجزيرة ويديره الدكتور فيصل القاسم رفض تبادل الحوار مع الدكتور الهاشمي الحامدي، الذي كان في يوم من الأيام تلميذه النجيب، وقصر الحديث فقط مع الدكتور فيصل القاسم، وهو ما علقت عليه الصحافة.
وأما مقالات الشيخ حول تونس فإننا نفتقد فيها غالبا روح الباحث والحكيم الذي أشرنا إليه سابقا وإنما نجد أن هذه المقالات تقوم في الغالب على الهجوم والإتهام والتحريض.
إننا نعتقد أنه من الأفضل للشيخ الغنوشي ولقيادة حركة النهضة أن يتخلّى الشيخ الغنوشي عن تولي المسؤولية الأولى داخل حركة النهضة ليتفرّغ هذا العقل الجبار للصحوة فإنه هناك يفيد أفضل لأنه يتخلص من تكبيله في قضايا قطرية، كما أننا نعتقد أنه من المناسب للنهضة أن يتولى امرها القيادي شخص جديد يزرع في هذه المؤسسة نفسا جديدا وروحا جديدة. ونحن نعلم أنه يشاع أن الشيخ الغنوشي نفسه طلب في آخر المؤتمر الثامن للحركة سنة 2006 أن يعفى من رئاستها ولكنه أجبر على ذلك لعدم وجود إجماع حول شخصية أخرى!! إلا أن هذا الكلام لا مبرر له في الفكر المؤسساتي والمدني المعاصر، فالشيخ الغنوشي انتخب في هذا المؤتمر بنسبة تزيد عن 60 بالمائة وهي نسبة مرتفعة وعالية في العقل السياسي المدني المعاصر الذي لم يعد يتحدث عن نسبة 99,99 بالمائة السائدة عند العرب، فالعديد من كبار الساسة في أروبا يسوسون بلادهم بنسب تقل أحيان عن الخمسين بالمائة بكثير مما يدفعهم إلى عقد تحالفات مع خصوم سياسيين. ولعل المثال الألماني الذي أعيش فيه منذ حوالي العشرين سنة وعايشت فيه تولي ثلاث قناصل: هلموت كول (19821998)، غرهارد شرودر (19982005) وأنجيلا ماركيل (منذ 2005) ولم يكن أي واحد من هؤلاء قد حاز على أغلبية ساحقة ولكنهم قادوا دولة إقتصادية كبرى، ولعل المستشارة الألمانية الحالية أنجيلا ماركيل، والتي وصلت إلى دفة الحكم بنسبة ضعيفة، مما جعلها تتحالف مع الحزب الإشتراكي الديمقراطي، لم يمنعها ذلك من أن تحوز على إجماع كبير بعد توليها لأنها أثبتت قدرة وكفاءة عالية واستطاعت أن تشحن الألمان بالأمل بشكل لم أجد له مثيلا عند سياسي آخر، فيما أعلم، بحيث انه يمكن وصفها ب"باعثة الأمل" أو "صانعة الأمل". من خلال هذا السرد للتجربة الألمانية والتي يمكن وجود ما يشابها في العالم الحر، نود الخلوص إلى أن حجة الإجماع حول القائد واهية ولا أساس لها، ولا أريد في هذا المستوى الدخول في الإشكالات الفقهية، التي سوف تدعم نظريتنا بلا شك. أما إن كان هناك من يعتقد بأن تونس لم تنجب أكفأ من الشيخ الغنوشي فإن هذا القول يدعم نظرية أن الأحزاب العربية، الإسلامية وغيرها، لا تعدوا أن تكون نسخا مصغرة من الأنظمة العربية.
إن الشيخ الغنوشي لا بد أن يتجاوز القطري إلى الإشعاع على الصحوة فيكون ملكا للصحوة وليس للقطر، لأن بقاءه في وضع قيادي سوف يؤدي إلى تأسيس ثنائية الحكيم والزعيم، ولا بد تطغى إحداهما على الأخرى يوما ما، وعادة ما تطغى الزعامة على الحكمة، وتقود لا قدر الله إلى الإسلاموية وهو ما لا نتمناه لحركة لها أقدار كبيرة من الريادة في العقل الإسلامي.
على النقيض من الشيخ راشد الغنوشي نجد الاستاذ صالح كرر، وهو من الجيل المؤسس لحركة النهضة وينتمي إلى صفها الأول، وهو أحد رموزها الفكريين الأساسيين ومثّل الحركة وتولى رءاستها لفترة قصيرة، وهو يقيم في فرنسا في منفاه وقد تعرض منذ سنوات لمرض ألزمه الفراش. اختلف في التسعينات مع الخط العام للحركة في المهجر مما أدى في النهاية إلى تجميد عضويته.
والأستاذ صالح كركر شهد تقلبات فكرية مهمة ولكنه استقر في الأخير على القول بأن كثيراً من الخلل القائم في تصورات الإسلاميين يعود إلى عاملين أساسيين:
1 التنظيم الذي هو للتنفيذ لا للتفكير والبحث والتنظير وفي ذلك يقول "إن الحركات الإسلامية نشأت على شعور أنها تستند للإسلام وتراثه الثري وهي بذلك لا تحتاج إلى مزيد من البحث والتنظير بقدر حاجتها إلى الحركة والإنجاز ولذلك لم تحتفظ في سلم أولوياتها بمسألة العقل وتحريره وترويضه ومسألة البحث وإثراء الفكر كما وكيفا، ولم تستطع إقامة مؤسسات علمية وثقافية ولا انفتحت كما ينبغي على المؤسسات القائمة مثل مراكز الأبحاث الجامعية حتى إن القلة من المفكرين من بين أعضائها يعيشون داخلها غربة بصفتهم تلك، لا هي قدمتهم وأولتهم مكانتهم ولا تركتهم ليفيدوا في مواقع أخرى زد على ذلك أن التنظيم أرهق أصحابه بكثرة الأشغال و التكاليف العملية ولم يترك لهم فرصة القراءة والتأمل. إن الفرد لا يخرج من اجتماع أو لقاء إلا ليلتحق بآخر ولا يعود من سفر إلا ليتهيأ لسفر جديد وهكذا يتحول التنظيم إلى مؤسسة تجهيلية تعود بأصحابها إلى الوراء.“34
2 الصفة السياسية والحزبية، وفي هذه الأخيرة يقول كركر: "والحزبية على أساس الصفة الإسلامية قسّمت أفراد نفس المجتمع المسلم بين إسلامي وغير إسلامي، ولا يخفى ما لهذه الإزدواجية من سلبيات شديدة الخطورة. فقد قسمت المجتمع إلى فريقين وعمقت الهوة وجذرت القطيعة بينهما في وقت تجد فيه مجتمعاتنا نفسها في أشد الحاجة إلى رص الصفوف ولمّ الشتات وتوحيد الأرضية الفكرية التي تقوم عليها. وقد ساهمت هذه الحزبية في مزيد عزل غير الإسلاميين عن الإسلام وفي مزيد تشنّج النخبة المثقفة العلمانية ضد الإسلام وفي مزيد البعد عنه ومعاداته»35 وبناء على هذا التحليل يدعو كركر إلى الإنتماء لأحزاب علمانية لمن أن أراد ممارسة السياسة.
وقد لاقت هذه الأفكار رفضا من قيادة الحركة إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تجد تجاوبا مع عدد من النهضويين الذين انضووا إلى أحزاب غير إسلامية منها أساسا "المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي يتزعّمه الدكتور منصف المرزوقي.
وأما الدكتور عبد المجيد النجار فهو أكثر منظري الحركة توازنا وموضوعية في قراءاته، سواء في المقالات التي كتبها أو الكتب التي نشرها وأهمها كتاب "الشهود الحضاري للأمة الإسلامية"36 الذي كان فيه الدكتور النجار الباحث الأصولي والمثقف المحيط بواقع الحياة الفكرية والثقافية والسياسية، فلم نجد له ارتباكا ولا ترددا كما رأينا مع الغنوشي أو كركر وإنما كانت كتاباته مستقرة وإنتاجها تراكميا وإيجابيا وحافظت على نفس الخط المعتدل والوسطي الذي أسسه منذ الثمانينات في كتبه التي نذكر منها "خلافة الإنسان بين الوحي والعقل". " ولعل ذلك يعود غلى بعده النسبي عن العمل التنظيمي اليومي وما من تبعات أشار إليها الأستاذ كركر في استشهاد سابق أوردناه.
ولكننا لو رأينا سقف المطالب التي يدعوا إليها الدكتور النجار لوجدنا أنها تقتصر على تحقيق الحد الأدنى من الحريات وهو ما يختلف فيه كثيرا مع الشيخ راشد.
بعد هذه الإطلالة القصيرة على العقل السياسي والنظري لحركة النهضة نعود الآن لدراسة الفترات الأربعة التي أشرنا إليها سابقا مستحضرين معها المعطيات النظرية والموضوعية التي قمنا بعرضها لحد الآن لأنها ستساعدنا على فهم الكثير من الإشكاليات.
أولا: من 91 إلى 1996: من السجن والتهجير إلى مايكل جاكسون
أعتمدنا هذا التقسيم لأننا نعتبر أن سنة 1996 سنة فاصلة في حياة النهضة والسلطة على حد سواء، وهي كذلك فاصلة في الوضع العام للحياة المدنية والسياسية في تونس.
ففي سنة 1996 أصدرت حركة النهضة كتيبا صغيرا ولكنه مهم وهو "حركة النهضة في الذكرى الخامسة عشر لتأسيسها: دروس الماضي وإشكالات الحاضر وتطلعات المستقبل" وهو مهم لأنه أراد الإجابة عن أسئلة وأراد أن يبلغ رسائل:
فهو أراد أن يقول أن حركة النهضة لا تزال موجودة ولا تزال حية، بعدما أشاعت السلطة في خطابها الرسمي أنها قضت على "الأصولية" في تونس.
صدر الكتيب بعد أحداث داخلية مهمة عاشتها الحركة نفسها وهي أساسا عقدها لمؤتمرها السادس37 وانتخاب قيادة مهجرية جديدة فيما يمكن أن نطلق عليه بالفترة الثانية من عمر النهضة
علمنا من الكتيب أن النهضة قامت بتقييم للمرحلة السابقة وأنها رأت فيها بعض الأخطاء التي ستسعى إلى تجاوزها في المستقبل.
كما وجدنا أن النهضة لم تغير من استراتيجتها بل حافضت عليها كما أشرنا إليها في بيانها التأسيسي لسنة 1981
وقد استطاعت الحركة أن تنجح بشكل كبير في تبليغ هذه الرسائل إلى أبنائها والمتعاطفين معها من حقوقيين وإعلاميين وسياسيين وكذلك إلى السلطة.
فأما المهجرين فإنهم تفاعلوا مع الحدث بمنهجيتين، فهناك من بارك هذا التأسيس الجديد واعتبره عودة إلى الأصل. ولكن هناك من اعتبر هذه القيادة لا شرعية لها، خاصة أن أغلبها قيادة شبابية طلابية ، إذا استثنينا بعض الرموز التاريخيين على رأسهم الأستاذ الغنوشي، وبالتالي فإنهم قرروا الإنفصال نهائيا عن الحركة والعيش ضمن دائرة الإسلاميين التونسيين المهجرين.
هذه الفترة تميزت بتوسع دائرة الإعتقالات والتعذيب المفرط والحملة الإعلامية الكبيرة التي تقودها السلطة، فبعث التأسيس الثاني للنهضة، نوعا من الأمل لدى العائلات ولدى بعض المسرحين من السجون.
كما تعتبر هذه الفترة حاسمة بالنسبة للسلطة لأنها اعتبرت أن مشروعها في "تجفيف منابع التدين" قد نجح وأنها استأصلت التيار الأصولي ولذلك أصبح جهازها الإعلامي يبشر بأن الحل الأمني الجذري هو الطريق الأمثل في مواجهة "الإسلام السياسي".
ولذلك شهدت هذه الفترة المحاكمات، خاصة المحكمة العسكرية سنة 1992 والتي وإن نجحت في تسليط أحكام طويلة وقاسية على عدد كبير من أبناء الحركة إلا أنها فشلت في أن تحقق طموح السلطة في إعدام قيادة الحركة نظرا للضغط الحقوقي الذي لم يقتنع بالرواية الرسمية ورفض في مجمله أن تكون حركة النهضة تيارا إسلامويا خطيرا على الحياة السياسية.
وأمّا في المستوى الثقافي والتعليمي فقد واصلت السلطة سياسية تجفيف ينابيع التدين من خلال إصلاحات متوالية لبرامج التعليم وتكثيف نشاط ثقافي يخدم هذا الهدف فتم إنتاج أفلام سينمائية أثارت كثيرا من الجدل أشهرها "عصفور السطح" والقيام بحفلاة ضخمة "النوبة"38 و"الحضرة"39 والقيام بحملات صحفية لربط الحركة بالإسلاموية والعنف ومراقبة خطب الجمعة وصاحب ذلك سعي جاد من الحكومة لترسيخ بديل ثقافي وديني في تونس تمثل في نزع تونس من فضائها العربي الإسلامي وربطها بهوية متوسطية كبديل عن الهوية العربية الإسلامية فكثرت المقالات والندوات التي تتحدث عن هذا الإنتماء المتوسطي الذي يجعل تونس بلا هوية مميزة وخاصة، فهو خليط من البربر والفنيقيين والوندال والرومان والمسلمين وخير ممثل للحداثة، وفي هذه الفترة كان الإنتاج الفكري أحادي الجانب، موجه أساسا من يسار متطرف، فلم توجد نصوص أو كتابات تذكر كتبت في الداخل تساهم برأي مخالف لهذا التوجه كما كان في آخر الثمانينات. كما نشط السلك الدبلوماسي خاصة في باريس مع الحكومة اليمينية آنذاك للضغط على المهاجرين وهو ما أدى إلى تعطيل ملف اللجوء السياسي. وبهذه الإجراءات اعتقدت السلطة أن المعركة حسمت لصالحها بشكل نهائي فأرادت الإحتفال بهذا النصر فتم دعوة مايكل جاكسون ليكون التتويج النهائي لهذه المرحلة40،
وأما الحياة السياسية والحقوقية التونسية فإن السلطة بعد التفرّغ من النهضة ارتدت على "حلفائها" فتم اعتقال قيادات حزب العمال الشيوعي التونسي وهرسلة حركة الديمقراطيين الإشتراكيين ليختتم هذا المشهد بالإنقلاب على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهو ما أدى إلى انسحاب رئيسها الدكتور منصف المرزوقي مرفوع الرأس وتفرغه بعد ذلك للنشاط السياسي.
ولعل النتيجة الأساسية التي نخرج بها لهذه المرحلة هو أن القيادة النهضوية الجديدة ، رغم ما صاحب نشاطها من تعثر، ورغم ما يمكن أن نسجله من اعتراضات على مقولة انجاز التقييم، إلاّ انه لا بد من الإقرار بأن الشيخ الغنوشي، وقيادة المهجر رغم العثرات والهنات، استطاعت أن تحافظ على خطاب الحركة الوسطي وأن تعيد نوعا من الأمل إلى قطاع كبير من أبنائها والمتعاطفين معها في الداخل وفي الخارج، وأن تحد من سيادة خطاب السلطة التسلّطي كما أنها لم تسقط في الإسلاموية وظلت الغائب الحاضر في السجال السياسي التونسي
ثانيا: من 1996 إلى 2001 النشاط الإعلامي والحقوقي
أهم ما ميز هذه الفترة هو النشاط الحقوقي المتزايد والممنهج فلئن اقتصر النشاط الحقوقي في المرحلة الأولى على الدفاع عن المعتقلين لتجنيب أحكام الإعدام فإنه في هذه الفترة أصبح يتناول قضايا حقوقية لها أبعاد سياسية واجتماعية مثل الدفاع عن الحريات عموما وعن حرية الصحافة والتعبير وعن العائلات والمطالبة بلحاق الأزواج والأبناء بعائليهم في المنافي كما تبنت النهضة في هذه المرحلة الدفاع عن سياسييين وحقوقيين وقانونيين تونسيين كان أبرزهم تبني الدفاع عن القاضي المختار اليحياوي وعن حمة الهمامي ومحمد مواعدة والدكتور المنصف المرزوقي وشهدت هذه الفترة اتصالا حيا وإيجابيا مع شخصيات حقوقية مثل السيدة سهام بن سدرين وغيرهم.
استطاعت النهضة أن تصدر قناة الزيتونة الفضائية التي كانت منبرا إعلاميا جمع بين الإعلام السياسي والثقافي والديني والحقوقي ونجح في أن ينفتح على فصائل المعارضة فكان من ضيوف الزيتونة شخصيات سياسية معارضة أبرزها مواعدة والمرزوقي وشخصيات حقوقية كسهام بن سدرين كما تعاونت مع مثقفين مستقلين منهم السيد أحمد المناعي الذي كان له حوار تاريخي مع البروفسور محمد الطالبي الذي تحدث في هذا اللقاء كمؤرخ ومسلم تونسي غير مسيس عن موقفه من واقع تونس السياسي والديني. واستطاعت القناة أن تبتعد عن الإسلاموية وأن يكون خطابها عقلانيا رصينا خرج عن نمط القنوات الإسلامية التقليدية إلى قناة تجمع بين الديني والسياسي بشكل ناجح إلا أن المشروع بقي مرتبطا بالنهضة وكان في آخر الأمر حزبيا، ومعلوم أن القنوات الحزبية لا تستطيع النجاح، وهو ما عملت عليه السلطة ونجحت في مضايقة القناة مما أدى إلى إغلاقها. كما شهدت هذه المرحلة محاولة مصالحة قادها الدكتور الهاشمي الحامدي ولكنها فشلت.
في هذه الفترة خرج عدد لا بأس به من معتقلي النهضة واستطاع البعض منهم مغادرة تونس وفي نفس الأثناء كانت الحالة الإسلامية، رغم المراقبة المفروضة والتي أشرنا إليها سابقا، تتفلت تدريجيا من رقابة السلطة فتقدمت السلطة خطوة إلى الأمام محاولة توجيه هذا التدين قطعا للطريق أمام عودة النهضة، التي رفعت في مؤتمرها السادس شعار عودة الصحوة إلى البلاد، فاتجهت السلطة إلى مغازلة حزب الله من أجل إشاعة حالة من التشيع في تونس بعد أن فشلت في ترسيخ الإسلام الدراويشي الذي كانت الحضرة أهم سماته.
وتواصل هذا المدّ والجزر بين السلطة والنهضة، فالسلطة كانت تخسر الكثير من إشعاعية خطابها الإستئصالي، الذي لم يجد له أنصارا كثر، خاصة بعد دخول العديد من الجماعات الإسلاموية العنيفة فترة المراجعات النقدية، كما هو الحال في مصر والجزائر أساسا منذ سنة 1997. وأما النهضة فإنها لملمت صفوف من بقي معها، وشهدت هذه الفترة انفتاحا أكبر على فصائل المجتمع المدني تواصل حتى احداث 11 سبتمبر 2001
ثالثا من 2001 إلى 2004: من أحداث سبتمبر إلى الإنتخابات
بعد أحداث سبتمبر المروّعة نشطت الديبلوماسية والإعلام التونسي في إيجاد رابط بين النهضة والقاعدة وغيرها من التيارات العنيفة من أجل حصار النهضة في المهجر والحسم النهائي في عودة الحركة أو فكرها إلى البلاد ولتوجيه الصحوة التي أنفلتت عن مراقبة السلطة ولم تنجح في إضفاء صفة التشيع عليها فظلت إسلامية وسطية تميزت بتأثير الفضائيات التي عوضت الخسارة الحاصلة في الغذاء الروحي للشعب.
كما ساهمت كتابات بعض النخب التونسية في التعبير عن موقف عام لا يتصادم مع الهوية وحسم بشكل واضح مع كتابات نشرت في أوائل التسعينات تصب في اتجاه تجفيف ينابيع التدين وأدماج تونس ضمن هوية المتوسطية.
ولعل أبرز هؤلاء الباحثين هو الدكتور أبو يعرب المرزوقي في كتابيه : وحدة الفكرين الدين والفلسفي41، وشروط نهضة العرب والمسلمين42
ففي مؤلفه "وحدة التفكير الديني والفلسفي يذكِّرنا الكتاب بمشروع الإمام ابن تيمية الكبير المسمى " درء تعارض العقل والنقل "، والدكتور المرزوقي يستلهم بالفعل هذا المشروع ، فيدرس المؤلف فيه العلاقة بين الفكر الديني (النقل) والفكر الفلسفي (العقل) تاريخياً وماهيّةً . ويحاول أن يبين المنطق الداخلي الذي يحكم الفكر العربي الإسلامي وفضله على الفكر الفلسفي، وذلك من خلال المبدأ المؤسس لتحقيق الوحدة بين الفكرين الديني والفلسفي وهو يتساءل لماذا أهملت النخب الفكرية والإسلامية، والعربية خاصة العلمانيين الدور الذي لعبه الفكر الإسلامي في الفكر الفلسفي؟ وغيره من القضايا.
وأما في مؤلفه "شروط نهضة العرب والمسلمين" فإنه يتساءل إلى أي مدى تبقى النهضة العربية تراوح مكانها وإلى أي مدى يبقى الوضع على حاله؟ وكيف يمكن التخلّص من الخطإ الذي وقعت فيه النهضة العربية الإسلامية عندما اندرجت ضمن النمط الحضاري والفكري السائد في شكله الرأسمالي اللبرالي أو الإشتراكي؟ ويحاول الإجابة على هذه الأسئلة إنطلاقا من دراسة مأزق العقل الإنساني ككل من حيث أن هذه الصفة دالة على التأزم السائد على التاريخ الكوني.
وعودة هذا الخطاب، الذي كان "ممنوعا" أو على الأقل غير مرغوب فيه لفترات طويلة ساهم في عزلة السلطة وقرب النهضة من المثقف التونسي أكثر.
ولكن السلطة حاولت من جديد توجيه هذا التدين ولكن هذه المرة ليس إلى التشيع الذي لم تنجح تجربته وإنما إلى نوع من الإسلام التقليدي المهادن والرعوي فكان أن غضت الطرف عن وجود تيار سلفي لا يهتم بالسياسة وإنما يوغل في التدقيقات النصّية. ولكن شكل التدين الذي اشرنا إليه والحراك الديني والعقلي الذي شهد إنطلاقة جديدة وموفقة بعيدة عن الإسلاموية وعن التطرف جعل الجهاز الثقافي يعمل على تلميع توجه السلطة الديني ومحاولة إبراز تصالحها مع الهوية فلم تعد توجد المقالات التي تتحدث عن الإنتماء المتوسطي لتونس ولم تعقد مجددا ندوات واختزل الحديث في هذا المجال في قضايا التعاون الإقتصادي فيما عرف بمجموعة 5+5، بل إن السلطة أقتربت أكثر نحو الوسطية الإسلامية توجت بدعوة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى تونس.
رابعا من 2004 إلى اليوم : لا بديل عن الحريات
منذ الإنتخابات التشريعية لسنة 2004 لم يحصل في تونس تغيير يذكر بل على العكس زادت نسبة البطالة لحاملي الشهادات العليا وارتفعت الأسعار واحتدت الأزمة الإجتماعية مما أدى إلى انتفاضات شعبية أهمها كان انتفاضة الحوض المنجمي كما إن السلطة وجدت نفسها في محطات كبيرة محاصرة ومضغوط عليها فقمة الإعلامية التي عملت السلطة أن تلمّع بها من صورتها فشلت بل وأدت إلى إدانة السلطة وحصول تقارب كبير بين ممثلي المعارضة أدى إلى تشكيل لجنة 18 أكتوبر كما حصل تواصل مهم بين الحقوقيين.
وأما على مستوى النهضة والمهجرين فلقد تميزت هذه الفترة بنجاح الحركة في دحض خطط السلطة في ربطها بالإرهاب والتطرف وبالتعاون أكثر مع المعارضة وكذلك بإنجاز المؤتمر الثامن، كما وصل المهجرون بصفة عامة إلى حالة من الإستقرار والتوازن الفكري، فبعد حالات التوتر والأعصاب المشدوة في منتصف التسعينات والتي بلغت حد التهجم على الشيخ الغنوشي وكل من ينشط داخل التنظيم، بدأ الإسلاميون التونسيون في المهجر إلى الوصول إلى درجة كبيرة من التوازن والوضوح في تحليلاتهم وهذا ما نلاحظه في الكتابات على الإنترنت التي أصبحت تتجه بشكل ملفت نحو الجدية والعمق وصلت في بعض الحالات إلى درجة الإحتراف، ولكن البعض منها لا يزال يتعثر إلى اليوم43
ونتمنى أن يلتفت الكتاب إلى الإرتقاء أكثر بنصوصهم حتى تعم الفائدة ويكمن التأريخ لمرحلة سابقة والتبشير بمرحلة جديدة قائمة على الإعتدال والوسطية والإبتعاد عن النفي والإقصاء والإسلاموية والمحافظة على دور الصحوة التونسية في السبق إلى بناء حوار سياسي مدني ومتجذر في هويته.
في هذه الفترة فشلت السلطة في ربط الحركة بالإرهاب والإسلاموية وفي توجيه التدين إلى الوجهة التي تريدها مما جعلها تتودد إلى التيار الوسطي، وأدى ذلك إلى تأسيس قناة للقرآن الكريم وإمكانية تأسيس مصرف إسلامي وقناة فضائية دينية44 وتوّج بدعوة الدكتور يوسف القرضاوي وغيره من الدعاة والمفكرين مثل الدكتور سلمان بن فهد العودة، الذي غاب عنه هذا التطور السياسي والفكري الحاصل في تونس فقام بمجرد زيارته لبعض المؤسسات الدينية بتزكية النظام وخالف المبدأ الأساسي لنظريته حول "فقه الموقف"45 التي يبشر بها منذ سنين.
لو أردنا أن نلخص بعض النتائج التي وصلنا إليها في هذا الجزء من بحثنا فإنه يمكن القول بأنّ:
النهضة التي أنطلقت إنطلاقة دعوية/تبليغية استطاعت أساسا منذ بداية الثمانينات أن تؤسس لفكر إسلامي وتجربة قطرية تجاوزت في إشعاعها تونس ولكنها منذ تعرضها إلى محنتها في بداية التسعينات شهدت اهتزازات داخلية كادت أن تعصف بها لولا أنها نجحت منذ مؤتمرها السادس أن تعديد تأسيس الحركة من جديد وتبعثها إلى الحياة.
نجحت التجربة السياسية التونسية في أن تخرج بالحركة الإسلامية من تيار دعوي تقليدي إلى تأسيس حزب سياسي مدني متصالح مع الهوية ومنفتح على الشركاء السياسيين والحقوقيين والمثقفين وجنبت البلاد خطر الإرهاب والعنف والإسلاموية التي عملت السلطة إلى الدفع إليه واستطاعت أن تأسلم الحداثة.
مثلت السلطة في تونس عامل إعاقة أمام تطوير الحياة السياسية ووأدت في الثمانينات إمكانية ميلاد مجتمع مدني في مهدها ولم تتوقف عن محاربة الأمل في قلوب التونسيين فكان أن قضت على محاولة القاضي السيد المختار اليحياوي في ترسيخ قضاء نزيه ومستقل، كما لم يسلم منها الناشطون الحقوقيون وأحبطت محاولات الإصلاح المتعدّدة التي أطلقها كل من الدكتور الهاشمي الحامدي أواخر التسعينات والإعلامي مرسل الكسيبي سنة 2009.
خاتمة ونتائج
رأينا في ثنايا هذا البحث أن الحدّ الفاصل بين الإسلامية والإسلاموية رقيق دقيق يعز على السياسي، بل على الباحث المتخصص تبيّنه ولهذا نجد في المعاجم فوضى مفاهمية كبيرة.
سادت في السبعينات ظاهرة الإسلاموية ومست تيارات الصحوة جميعها لأن هذه المرحلة تميزت بالنفي للآخر وإقصائه، سواء كان معاديا كالسلطة أو العلمانيين أو اليساريين، أو كان إسلاميا بحرمانه من حق قراءة أخرى وممارسة سياسية مغايرة، فكان أن تبرأ الإخوان من التيارات الإسلامية التي شقت طريقا جديدا، ومنهجا مختلفا. وأما في الثمانينات فقد حدث فيها تطورات مهمة فبادرت الحركة الإسلامية التونسية إلى الإنفتاح على الآخر وواصلت الحركة في السودان تجربتها مع نميري، وحافظت التجربة المصرية على حالة النفي خاصة بعد اغتيال السادات وتداخلت لديها الأوراق حتى نهاية العقد إذ حصلت تغييرات كبيرة في العالم بعد انهيار الشيوعية وسيادة علاقة جديدة مع الإسلام كما شهدت انفتاحا سياسيا على الحركة الإسلامية في الكويت واليمن والأردن والجزائر فشاركت الحركة الإسلامية في العديد من الدول في انتخابات وأصبح لها ممثلوها البرلمانيون، كما شهدت أيضا انفتاحا من الإخوان على غيرهم من الإسلاميين وإقرارهم بالتعدّدية والعودة إلى فكر الإحياء كما نشأ مع حسن البنا وريث الأفغاني وعبده، ودخلت السودان تجربة جديدة سيطرت فيها الجبهة على السلطة إلا أن نهاية الثمانينات وبداية التسعينات شهدت الحالة السياسية انتكاسة خطيرة بدأت بتزوير الإنتخابات في تونس في نيسان/أفريل 1989 لتبدأ مرحلة جديدة تدخلت فيها السلط لوأد كل محاولة انفتاح ولتدفع الصحوة إلى الإسلاموية من جديد ولو عبر تحالفات مشبوهة مع انتهازيين ويسار متطرّف، كما تدخّل الجيش وألغى إرادة الشعب في الجزائر ووضع بعض رموز التيار الإسلامي في المغرب في السجون أو تحت الإقامة الجبرية.
وقد ساعد على تعميق هذه الإنتكاسة سيطرة تيار معاد للإسلام في الولايات المتحدة تمثل في المسيحيين الجدد، الذين صمتوا عن حرب البلقان وقادوا الحرب على العراق وأقاموا قواعد في عدد من الدول الخليجية أدت إلى اهتزاز عنيف في تلك المنطقة التي انقسمت فيها الآراء إلى صنفين: صنف يبرر وصنف انغلق على نفسه وأعلن الحرب على الكلّ وكان كلا الموقفين أسلامويين وخاطئين.
أمام هذا الوضع الجديد وجد داخل تيار الصحوة خطان أساسيان أحدهما اعتمد الإقتصاد في الدين وتفطّن للخطر المحدق بالأمة فانحاز إلى خيار الحوار والتواصل رغم تعرض أطراف له للإستئصال كما كان في تونس وللضغوط وسجن العديد من القيادات المركزية للإخوان في مصر وفرض التضييقات أو الإقامة الجبرية في المغرب إلخ وتيار رأى أن على الأمة الإنتفاض والدفاع عن حقها بدعوى الجهاد فكانت الحرب الأهلية في الجزائر وتصاعد وتيرة العنف في مصر باغتيالات ومحاولات اغتيال وتفجيرات وأزمة حادة في المملكة العربية السعودية أدت لفقدان الفكر السلفي، خاصة الوهابي منه للكثير من المتعاطفين معه. فسادت الإسلاموية وانتعشت وبررت ضرب "الإسلام السياسي" ككل إلا أن نهاية التسعينات شهدت فترة مراجعات هامة أدت إلى التراجع عن خيار الإسلاموية والعنف في العديد من الأماكن ، فكان أن أعلنت الجماعات الإسلامية عن إيقاف العنف والعمل المسلح ودخول الجزائر في مسار من المصالحة الوطنية أدى إلى التراجع النسبي لحضور الجيش في الحياة السياسية، كما شهدت مشاركة لعدد من التيارات والأحزاب الإسلامية في عدد من الدول العربية والإسلامية. على الجانب المقابل خفت نسبيا غلوّ بعض الحكومات في التصدي للتيار الإسلامي، باستثناء المثال التونسي الذي ظل سادرا في غيه بعيدا عن الأحداث العالمية والعربية الإسلامية في محاولة منه للقضاء على الأمل في حياة سياسية متعددة.
وهكذا يمكن الخروج بالتائج التالية:
جهود الإحياء الإسلامي قامت على الدعوة إلى العودة إلى الإسلام مع ما يصاحب ذلك من إقتباس وإصلاح ضروري فكانت
أصلاحية توفيقية ولكنها بعيدة عن الإسلاموية.
أثبت الخيار الأمني والعسكري الذي انتهجته بعض الدول العربية فشله فلم يقض على الحركة الإسلامية في تونس بل دفع بها إلى
السجون أو إلى الهجرة، كما أثبتت تجربة الجزائر أن الجيش لا يمكن أن يكون بديلا عن الحياة المدنية السياسية وأثبتت تجربة
المغرب وبدرجة أقل مصر أن الحوار والعمل السياسي هو الخيار الأنسب الذي يجنب البلاد والعباد الإنزلاق إلى الإسلاموية
والتطرف.
وعلى صعيد آخر يجب على التيار الإسلامي التخلي عن العمل السري والقبول الجاد باللعبة الديمقراطية والخضوع لها كما في تجربة تركيا، ثمّ اعتماد تنسيق وتعاون أسلامي/إسلامي وإسلامي/وطني كمنهج لحل العديد من الإشكالات السياسية والدينية، ثم اعتماد برامج سياسية واضحة تتجاوز دائرة تملك الدين.
تدعيم خيار عقل سياسي يتسم بالإنفتاح على الآخر كما أسس له فكر الإحياء وتابعته حركة النهضة التونسية منذ الثمانيات من القرن
الماضي وهو ما يعني التأسيس لثقافة التعدد فكرا وممارسة.
لا بديل عن الحرية وأن خيار القمع هو خيار أثبت فشله لأن التعامل الأمني مع التيار الإسلامي قد يقود إلى انتصارات ميدانية وقد
ينجح في تحجيم هذا التيار إلا أنه لا يستطيع أن يلغي حضوره بل إنه يقود إلى تعميق التيار المتشدد والعنيف يقود إلى إرهاب
مشترك بين السلطة ونماذج من التيار الإسلامي يكون الضحية فيها الإسلام، كهوية وكحضارة وكتاريخ، والدولة كمؤسسة مركزية
تحفظ النظام وتنظم المجتمع، ويقضى على المجتمع المدني كعامل توازن يحفظ الحياة السياسية والمجتمعية ويسهم في تطويرها.
وفي الأخير لا بد من التأكيد على أنّه آن الأوان للتعامل مع التيار الإسلامي لأن إقصائه يقود إلى انتعاش الإسلاموية التي ستكون له
عواقب سلبية على العالم وهو ما يدعو الساسة وأصحاب القرار في الغرب وأمريكا إلى اعتماد سياسة أكثر انفتاحا على هذا التيار والتعامل معه كشريك سياسي أساسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.