بعد الفوز العريض لحزب العدالة والتنمية، الذي أفرزه مطبخ الداخلية المؤتمن الوحيد على سير العملية الانتخابية من ألفها إلى يائها ، بدأت الأسئلة تتناسل عن حقيقة اللعبة السياسية وطبيعة الاستراتيجة الجديدة التي انتهجها القصر خلال المرحلة الحالية ، فبين متفائل متيقن من تحقق الانتقال الدمقراطي ، وبين مترقب حذر ، ورافضة للعبة المخزن من أساسها ، ترى هل شكل فوز الحزب اختراقا لآليات وبنيات التحكم المخزنية ؟ أم أنه فصل جديد من مسلسل التوظيف السياسي للواجهة الحزبية ينصب هذه المرة على حزب بكر لم تتلطخ يده بعد بأي مسؤليات سياسية ؟ ليست هذه أول انتخابات يخوضها المغرب في ظل حكم محمد السادس ، فكل الانتخابات السابقة ظلت موضع شك وريبة بسبب ما شابها من التزوير العمد والتدخل السافر للإدارة عبر أعيانها وأعوانها ، لكن الجديد هذه المرة هو السماح لحزب العدالة والتنمية بالفوز بنسبة كبيرة نسبيا لم يعتد عليها المغاربة ، ورغم أن العدالة والتنمية هو من الأحزاب الاكثر ولاء للملك إلا انه ظل غير مرغوب فيه من القصر ، ويعزو أكثر الملاحظين تقرب القصر من الحزب إنما أملته ظروف الربيع العربي وتوسع الحركة الاحتجاجية بالمغرب ، مما جعل مطبخ الانتخابات يشتغل جيدا: لانجاح "العدالة والتنمية"، بموازاة مع ضمان حضور وازن للأحزاب "الليبرالية" السلطوية على حد تعبير الأمير هشام ، وأخيرا أفرج عن حزب العدالة والتنمية بعدما استهلك جهدا كبيرا في تقديم شهادات حسن السلوك ، فلم يترك لسيد بنكيران مدينة ولا قرية جالها قبل الانتخابات إلا وطلب من الجمهور أن يرددوا معه "عاش الملك" وكثيرا ما قدم الرجل نفسه على أنه خادم الأعتاب الشريفة ، مما جعل تقارب القصر معه في هذه المرحلة حتمي , إن السياقات التي جاء فيها قرار الإفراج عن حزب العدالة والتنمية ليلتحق بقافلة أحزاب الدولة ليس يثير الكثير من التساؤل ، و على فرض نزاهة الانتخابات رغم كل المؤشرات والتوابل التي تحيل على مطبخ الداخلية ، فإن الحزب سيدرك مع مرور الايام بعد أن تزول نشوة النصر أنه تلقى هدية مسمومة في ظرف حرج للغاية ، فالحزب ستواجه نواياه الإصلاحية بقوى الإفساد سواء المتخندقة داخل القصر أو المتمترسة في البرلمان ، فانتصار الحزب ذي المرجعية الاسلامية لا ينبغي أن ينسينا أن الاحزاب الملكية من الدرجة الاولى وهي تحالف الثمانية إضافة للاستقلال ثم أحزاب الملكية من الدرجة الثالثة وهي التقدم والاشتراكي التي تربطها بالحزب خصومة إديولوجية لن تكون بالخصم السهل ، أما من خارج اللعبة فإن الحكومة الجديدة ستجد نفسها أمام شارع هائج تمرس على الاحتجاج ومطالبه واضحة لا تقبل أي لبس ، محاكمة الفساد ورموزه ، وإسقاط الاستبداد السياسي والاقتصادي والامني ، وهي شعارات تتجاوز الحكومة إلى مصدر الحكم ، مثلما سيتجد الحكومة نفسها محرجة مع قوعدها الذين رفعوا في الحملة النتخابية شعارا كبيرا استوحوه من الحراك الشبابي وهو " اسقاط الفساد والاستبداد " مما سيشكل حرجا نفسيا وأخلاقيا لحزب قطف لنفسه أولى ثمرات الربيع الفبرايري المغربي دون أن يكون طرفا فيه ، بل إن تصريحات الكثير من قادته كانت مناوئة للحراك الشبابي ولدعوات الاصلاح الدستوري ، فالعدالة والتنمية إلى وقت قريب كان قادته يصرحون أن المغرب لا يحتاج إلى الإصلاح الدستوري ، ثم ما لبث أن ركب موجته ، ثم اعترض على توقيت الانتخابات وإشراف الداخلية عليها ثم ما لبث ان قبل بالامر الواقع ، بل إنه ثمن عاليا بعد فوزه جهود وزارة الداخلية , لكن إذا عدنا إلى السؤال السالف الذكر حول ما إذا كان الحزب قد استطاع فعلا اختراق بنية التحكم المخزني التي طوعت أعتى الاحزاب في تاريخ المغرب ، أم أن الامر لا يعدو أن يكون مجرد عملية توظيف سياسي اقتضت زواج متعة بعقد مؤقت ليس لغاية الاحصان والعفاف بل لمجرد ربح مزيد من الوقت ، أو هي انحناءة حتى تمر عاصفة الربيع العربي التي أطاحت بأعتى الدكتاتوريات في التاريخ الانساني والعربي المعاصر ، وفي هذا الصدد تبدو مناورات الحزب ضئيلة جدا سواء في اتجاه تحجيم القصر ومحيطه الذي يتهم بمناهضته للإصلاح ، أو في اتجاه احتواء الحراك الشعبي الذي يقوده خصوم سياسيين أشد مراسا من قبيل العدل والإحسان كبرى التنظيمات الإسلامية والسياسية والتي يقاسمها المرجعية ذاتها ، بالإضافة إلى عدد من أحزاب اليسار العصية على التطويع ، لكن الإشكالية الأكبر التي تظل مغيبة قصدا في النقاش الدائر حاليا حول آفاق حكومة العدالة والتنمية هي حدود صلاحيات هذه الحكومة وهذا في تقديري هو التحدي الأكبر وجوهر أي حديث عن الإصلاح السياسي والدستوري ، فالدستور الأخير رغم تنصيصه على تعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات إلا أنه أبقى على صلاحيات الملك الواسعة : التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية والعسكرية والدينية والاقتصادية الريعية والمالية ، واحتفظ الملك بحقه في رسم السياسات ووضع البرامج والرؤى الملزمة لأي حكومة من خلال المجلس الوزاري ، وهذه الحقيقة أدركها السيد بنكيران عندما صرح بأن الملك لا يزال رئيسا للبلاد ولا يتصور القيام بأي قرار هام دون الرجوع إليه ، صحيح قد يتحدث البعض عن نوايا الإصلاح و الاشارات الايجابية والطيبة التي قدمت لرئيس لحكومة من أعلى سلطة في البلاد ، لكن أي فاعل سياسي ينفعل تجاه كل المؤثرات السيكلوجية والسوسيولوجية والقانونية والضوابط والمحددات التي تؤطر هامش اشتغاله ، فالحكومة التي يدرك وزرائها أنهم تحت طائلة الإقالة _بموجب الدستور_ من قبل رئيس الدولة لا شك أن ذلك سينعكس على مواقفهم واتجاهات القرار داخل الحكومة ، والامر نفسه يطرح بالنسبة للبرلمان ، فرغم أن الدستور ينص في ديباجته على كون " نظام الحكم في المغرب ملكية برلمانية دستورية دمقراظية " فالبرلمان ليس سيد نفسه لأن الملك يملك حق إقالته ، فإذا كان البرلمان ليس سيد نفسه ، فهل بقدور الحكومة أن تكون مسؤولة ومستقلة في قرارتها ومواقفها الإصلاحية بما يزكي فرضية الاختراق السياسي لبنية التحكم المخزنية ؟ لكن أمام لعبة تشابك المصالح بين الحزب والقصر ، حيث يسعى القصر لتوظيف أي نجاحات محتملة للعدالة والتنمية لتقوية المؤسسة الملكية وإضعاف الحراك الشعبي ، بينما يسعى الحزب لتثبيت مكانته السياسية في المشهد السياسي مشدودا بالنموذج التركي وعينه على القصر وعينه على الشارع وعلى قواعده التي لا يمنعها من النزول للشارع إلا آمال معلقة على إمكانية إحداث الاختراق المطلوب في البنى الداخلية للمخزن ، فهل بالفعل سنكون هذه المرة أمام حكومة حقيقية بصلاحيات كاملة تباشر عملية الإصلاح الشامل وتطبق الشعار الانتخابي لحزب العدالة والتنمية المتمثل في " إسقاط الفساد والاستبداد " بكل ما تحمله الكلمة من معنى ؟ أم أننا سنكون إزاء حكومة تصريف الأعمال منزوعة الصلاحيات تكون أشبه بحكومة تحت الوصاية والانتداب ؟ أيا كان الجواب الذي تحمله الأيام القادمة فمن المؤكد أن طريق لاصلاح لا تستطيع أن تباشره سوى سلطة منتخبة تستمد شرعيتها من الشعب والشعب وحده ، وتشتغل في إطار سياسي ودستوري سليم ، فالشعب المغربي تعب من الحكومات الصورية التي تسود ولا تحكم ووزرائها يبصمون فقط ولا يقررون ، وإلى أن تتم الإجابة عن كل تلك التساؤلات والإنتظارات المطروحة ، سيستمر الحراك الشعبي لأنه لا أحد بات راضيا بدمقراطية الهامش ، ولا أحد يطيق الانتظار عقودا أخرى حتى تجود القوى المحتكرة للقرار ببعض من إصلاحاتهما الملتوية ، إنه الربيع العربي ربيع الشعوب وخريف الأنظمة ,