تحل ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنة في أجواء خاصة جدا ، ومتميزة جدا ، فقد انطلق موسم الربيع العربي يحمل بشائر التغيير الجذري في عالم عربي ظل منذ معاهدة سايكس بيكو سجين حدود وهمية وضعتها الدوائر الاستعمارية إمعانا في تمزيقه وإنهاك قواه ، واستغلال خيراته وثرواته ، غير أن الشعوب العربية التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل تحرير أوطانها من قبضة الاستعمار الغاشم ، سرعان ما سقطت في قبضة حكام الجبر الذين لم يراعوا في حكمهم إلا ولا ذمة ، فاستباحوا كل شيء ، واستغلوا مناصبهم لتكديس الثروات ، غير آبهين بمعاناة الشعوب وصراخاتهم . تحل ذكرى الهجرة النبوية هذه السنة في أجواء الانتفاضات العربية التي أعلنت أن المارد العربي قد خرج من قمقمه ، بعدما سئم حياة الذل والخضوع والهوان ، لم يكن إقدام الشاب التونسي البوعزيزي على إحراق نفسه إلا النقطة التي أفاضت الكأس ، كانت الكأس العربية مترعة تماما بشتى ألوان التفقير والتجهيل والتهميش والاحتقار ، لذلك انتقلت عدوى الثورة ضد الظلم والاستبداد من تونس إلى باقي الأقطار العربية : مصر ، ليبيا ، اليمن ، سوريا ... لتعلن الشعوب العربية أنها استوعبت دروس الهجرة النبوية أخيرا ، لذلك يمكننا الحديث عن مستويات الهجرة التي تعيشها شعوبنا العربية . إن الاحتفال بذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون قاصرا إن تم من خلال استعادة ظروف وحيثيات وملابسات ونتائج هذه الهجرة ، كما أنه سيكون قاصرا إن لم يتم ربطه بالواقع المعيش الذي تعيشه الشعوب المسلمة اليوم خاصة في ظل هذا المخاض الجارف الذي صنعه شباب طالما مورست عليه شتى أشكال التحقير والتفقير والتجهيل والتهميش ، وطالما نعت بالتفاهة والغباء والضياع واللامسؤولية ، ولذلك يمكن قراءة هذا الحدث الفاصل الحاسم في تاريخ الدعوة الإسلامية على ضوء المتغيرات التي يعيشها عالمنا العربي ، إن صور الهجرة باعتبارها انتقالا وتحولا وتغيرا متعددة ومختلفة : _ الهجرة السياسية : جوهر الهجرات التي تعيشها الشعوب العربية سياسي بالدرجة الأولى ، ذلك أن الانتفاضات العربية الشعبية إنما اشتعلت ضد حكام الجبر الذين عاثوا في الأرض فسادا ، والذين علوا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، والذين لم يتورعوا عن نعت شعوبهم بأقدح النعوت ، وبأحط الأوصاف وهو يخاطبونهم من بروجهم العاجية ، مقتفين أثر فرعون الذي " استخف قومه فأطاعوه " والذي خاطبهم قائلا " ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " ص / 29 ، بعد عقود من الاضطهاد والاستبداد والقهر ، خرجت الجماهير الغفيرة بقيادة شباب يتوقد حماسا وحيوية ونشاطا ، ويفيض قوة وإصرارا على التغيير ويقينا مطلقا في النصر ، بعدما استرخص الغالي والنفيس ، وبعدما تمثل الحكمة العظيمة " احرص على الموت توهب لك الحياة " . الهجرة السياسية تعني الانتقال من دولة الظلم والطغيان والاستبداد والاستعلاء على الرعية وتهميشها ، إلى دولة قوامها العدل والشورى والحرية والشعور بالمسؤولية وبجسامة الأمانة ، لذلك لم يكن غريبا أن تتهواى عروش الطغاة المستكربين واحدا تلو الآخر ، ولم يكن غريبا أن تكون نهاياتهم مأساوية إلى أبعد الحدود ، لأن " الظلم مؤذن بخراب العمران " ولأن نهاية الفرعون الأول كانت هي الموت غرقا ، فإن نهايات هؤلاء " الفراعنة " كانت هي الغرق أيضا في بحار الذل والهوان والفرار والمحاكمات المخلجة ، بل في بحار القتل على أيدي الثوار الشرفاء الذين نعتوا ذات يوم بأنهم مجرد " جرذان " . لقد أسقطت هذه العواصف الشعبية الأقنعة ، وكشفت الحقائق المرة التي كانت تخفيها الاحتفالات الرسمية ، والابتسامات الكاذبة ، وأكدت حدود النقمة التي كانت تكنها هذه الشعوب المغلوبة على أمرها للحكام الطواغيت ، نقمة كانت مكبوتة متوارية تتحين فرصة الصراخ والانفجار ، ولنتأمل التوصيف النبوي لهذا النمط من الحكم : " الحكم الجبري " بكل ما يحيل عليه من إكراه وإلزام وتسلط وإرغام ، ففي " لسان العرب " : " جبر الرجل على الأمر يجبره جبرا وجبورا وأجبره : أكرهه . " " لسان العرب " باب الراء ... إنها هجرة من ظلام الظلم والإكراه والعبودية والرضوخ إلى أنوار العدل والحرية والشورى والكرمة ... _ الهجرة الاقتصادية : المنتظر من هذه الثورات الشعبية أن تحرر الشعوب العربية من " التفقير " الذي فرض عليها من طرف الحكام الظالمين ، هؤلاء الذين كدسوا الأموال القارونية في الأبناك الغربية ، والذين بلغ من ترف معيشتهم ما لو شاهده " هارون الرشيد " لفتح فاه استغرابا وتعجبا من التاريخ الذي جعل منه رمزا للبدخ والترف ... هذا الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج والزاخر بالثروات التي أسالت وما تزال تسيل لعاب الدوائر الغربية ، تعيش الأغلبية الساحقة من مواطنيه تحت عتبة الفقر ، تعاني شرائحه الواسعة من شبابه من البَطالة ، ولا تتردد في اقتناص كل فرصة متاحة للهجرة إلى الدول الغربية هروبا من جحيم الفقر . المنتظر من هذه الثورات أن تقضي على الفقر في عالم غني بكل الثروات ، وأن تقضي على أنظمة اقتصادية ريعية ، تزيد الغني غنى ، والفقير فقرا ، وأن تضع حدا لهذه الفوارق الطبقية التي ما أنزل الله بها من سلطان . _ الهجرة الاجتماعية : هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة ليبني مجتمعا مسلما قوامه الإخاء والتعاون والتعايش والتسامح ، وهذا المعنى العميق يجب أن يحضر في هذا الحراك الشعبي البطولي ، إذ من المنتظر أن يعاد بناء المجتمعات العربية على هذه المعاني التي غيبتها عقود العض والجبر ، ومن المنتظر أن يعاد تحصين هذه المجتمعات من موجات التفسيق والخلاعة والانحلال والخلاعة التي اجتاحتها وما زالت تجتاحها منذ صدمة الاستعمار الغربي الخبيث الذي لم يكتف باستعمار الأرض ، واستغلال ثرواتها ، بل عمد قسرا إلى تدمير قيم ومقومات الشخصية المسلمة أخلاقا وقيما وفكرا ومبادئ . _ الهجرة الفكرية / الثقافية : مطلوب من هذه الانتفاضات المباركة أن تضع حدا لواقع التبعية الفكرية والثقافية التي فرضت على الأمة فرضا ، وأن يعمل أبطالها وصانعوها على استعادة الثقة في مقومات الثقافة والحضارة الإسلامية ، التي طالما تم التشكيك فيها ، والتنقيص من قيمتها من طرف الاستعمار الغربي وأذنابه من دعاة التغريب . مطلوب منها إعادة بناء الشخصية الإسلامية بكل أبعادها الفكرية والثقافية ولحضارية والعلمية وفق المنهاج النبوي ، حتى تتمكن من أن تستعيد ثقتها في نفسها وفي مشروعها الرباني الذي يبشر بكل قيم الخير والعدل والحب والسلام ، وحتى تتمكن من استعادة مكانتها بين الأمم ، ويستطيع أبناؤها المشاركة الإيجابية والفعالة في البناء الإنساني حضارة وعلما وثقافة وفكرا ... وخلاصة القول لابد من التأكيد على حقيقة مفادها أنه الدروس والعبر والدلالات التي يمكن استخلاصها من حدث الهجرة النبوية لا تكاد تعد ولا تحصى ، ولا غرابة في ذلك فقد كانت حدثا عظيما وحاسما في التاريخ الإسلامي ، إذ انتقلت الدعوة الإسلامية بموجبه من طور التضييق والحصار والاضطهاد إلى طور بناء الدولة ، وفرض الذات ، ومواجهة التحديات المختلفة التي يفرضها البناء ، ولعله من نافلة القول التأكيد بأن شعوبنا عانت طويلا من تضييق وحصار واضطهاد الحكام الجبابرة الذين حكموها بقوة الحديد والنار ، لذلك آن أوان التخلص منهم لبناء الأوطان من جديد .