كان يا مكان في ربيع الزمان وزيرا لأحد الرؤساء الذين كانوا يحكمون الشمال الإفريقي اسمه زين العابدين بن علي. وكان يقوم بعدّة دسائس ومؤامرات بغية الوصول إلى سدّة الحكم. في المقابل كان هناك معارضون لسياسة رئيس البلاد طيّبون يحبّون الخير ويعملون على إشاعته في كل مكان بين الناس. يقومون بنصرة الضعفاء والمحتاجين ويزورون المرضى سواء في بيوتهم أو في المستشفيات ويواسون الأرامل والأيتام، ويقومون بإصلاح ذات البين. أطلق هؤلاء الناشطون على أنفسهم تسمية "الإخوان" نظرا لأنهم يعتبرون أنفسهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى لمتانة العلاقة التي تربط بعضهم ببعض، غير أنها ليست علاقة صلة رحم إنما هي أخوة في الدين. لأنهم كانوا محبوبين من قبل القاصي والداني في مختلف جهات البلاد فقد عمد الوزير الشرير من تخويف رئيس الجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة من هؤلاء المعارضين لسياساته وقام بتأليبه عليهم. فأمر بالزج بهم في السجون وحكم عليهم بأحكام متفاوتة. استطاع هذا الماكر الخسيس بعد أن مكر ب "الإخوان" الإطاحة بالرئيس من خلال حيلة مدبّرة حاكها مع عُصبة ممن يعتلون مناصب في الجيش الوطني واستعان بشهادة أحد الأطباء على أن الرئيس السابق لم يعد مؤهلا لحكم البلاد لكبر سنه ووهن عظمه، وحتى يثبت بن علي للشعب التونسي أنه أفضل من سلفه قام بالإفراج عن المساجين السياسيين خصوصا منهم "الإخوان" ورخّص لهم أن يمارسوا نشاطهم السياسي وأن يتحركوا بكل أريحية. كما أسندت إليهم صحيفة ناطقة بلسانهم أسموها "الفجر". أحسّ بن علي بالخطر المحدق به من قبل "الإخوان" إثر الانتخابات التشريعية التي أقيمت آنذاك وكانت الغلبة لهم لأنهم كما قلنا سابقا هم من الشعب ويشعرون بآلام الناس وبمشاكلهم الاجتماعية المتفاقمة ويعملون على حلّها وفق الاستطاعة. لكن بن علي الذي كان يتحكم في هياكل الدولة ومؤسساتها استطاع تزوير هذه الانتخابات وقام بمطاردة جميع الناشطين المنتسبين لحركة "الاتجاه الإسلامي"، وقام بن علي بتغيير اسمها ب "حركة النهضة"، فالتسمية الأولى كانت تستهوي الكثيرين من الناس باختلاف أطيافهم ومشاربهم لأن الشعب لا يرغب بغير الإسلام شرعة ومنهاجا. فوضعوا آمالهم في هذه الحركة. دبّ الفساد في المجتمع لأن الرجل الذي كان يحكم البلاد أراد اجتثاث كل مظهر من مظاهر الإسلام وقيمه السمحاء. فكانت اللغة السائدة في الشارع التونسي بين الشباب هي بذاءة الكلام و"التعضريط". كلام مقزز يؤذي آذان المستمعين وهو مناف للأخلاق الحميدة. أما إذا كانت هنالك خصومة بين شخصين أو أكثر فبإمكانك أن تسمع حتى سبّ الجلالة الذي يعتبر في ديننا ردّة تستوجب العقاب. ولا تسأل عن سبّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم. العائلات المحافظة أصبحت تتأذى كثيرا مما يحصل في الشارع التونسي من انحطاط أخلاقي وخيرت البقاء في منازلها ولا يخرجون إلا إذا اقتضت الحاجة ذلك. المرأة في عهد المخلوع أعطيت لها حقوق مخالفة لما جاء به ديننا الحنيف والقصد من ذلك كسر شوكة الرجل وإهانته. فلم يعد للتونسي الشهامة والرجولة التي يتمتع بهما غيره في مختلف الدول العربية والإسلامية بل هو مغلوب على أمره لا يستطيع النهي عن منكر واحد. فسلطته الأسرية باتت مهددة بالإفلاس فبإمكان الزوجة والبنت أن تفعلان ما تشاءان من تجاوزات مخلة بالآداب يأباها المجتمع ويرفضها العرف والدين دون أن يحرّك الرجل ساكنا. وإذا تحركت فيه النعرة التي ذكرنا ويقوم بتوبيخ زوجته أو بنته يفعل به رجال الشرطة كما يفعل بالمجرمين تماما أو أكثر. تفشّت السرقات في كل مكان خصوصا على مستوى الطبقة الشعبية. لهم الحق في ذلك فهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم كيف أن رئيس البلاد بن علي وأصهاره الطرابلسية يعملون على نهب خيرات البلاد وثرواتها ويقومون بافتكاك المشاريع والاستثمارات الناجحة من أصحابها عنوة مستعينين في ذلك برجال الأمن. وهناك آخرون ممن احترفوا وامتهنوا السرقة فحين يتم القبض عليهم وهم متلبسون بسرقاتهم يخرجون من مراكز الشرطة في الحين ودون مقاضاة لأنهم كانوا يرشون أعوانا يعملون بمراكز المكان. قطاع النقل العمومي لم يسلم أيضا من هذه التجاوزات، فالمواطن العادي حين يمتطي الحافلة لا يرى حرجا أن يركب دون أن يسدّد ما عليه من ثمن التذكرة ليس على التونسي من سبيل فالحافلة الصفراء تعتبر رزقا من أرزاق والده أو كأنه ورثها عن أجداده. في حين أن هذه الأموال التي يأخذها القابض من المواطن إزاء الخدمات الجليلة التي يقومون بها بإمكاننا أن نستثمرها في مشاريع من شأنها أن تعود بالنفع العميم على التونسيين عامة. ثقافة السرقة راجت حتى أن هناك من الأسر من يقومون بجمع الزيتون دون استشارة أصحاب الأصول والاستفادة منها دون موجب حق. أنا لا ألوم الناس في توخي هذه الأساليب الخسيسة في جمع الأموال وإنما ألوم ساستهم وقادتهم على اقترافهم هذه الآثام فكما قال سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم "الإمام راع ومسؤول عن رعيته" "إذا كان رب البيت للدف ضاربا * * * فما شيمة أهل الدار سوى الرقص" فيصل البوكاري - تونس