الإعلام أو السلطة الرابعة كما يسميها البعض في المجتمعات الديمقراطية العريقة، وسيلة لا غنى عنها لأي مجتمع يطمح إلى النهوض والارتقاء بمشروعه الحضاري إلى مستويات تحصنه من الهيمنة والتبعية للأقطاب والتكتلات المسيطرة على العالم. وقد كانت حرية الإعلام من المطالب الملحة التي رفعتها النخب من الشعوب العربية أثناء ثوراتها على الأنظمة الدكتاتورية.
كان الجميع يطمح إلى تأسيس إعلام حر يقوم بدوره المفترض في تنضيج الوعي العام بالقضايا المصيرية للمجتمع التي قد يُغفل عنها بسبب ضغوطات المشاكل الآنية أو التأثير القوي لموجات الشغف بالفن والرياضة.
المطمح كذلك إعلام يبث روحا إيجابية في المجتمع تستنهض همم الناس وتحفزهم على الفعل والبناء لترميم ما دمرته روح السلبية والانتظار التي بثها الاستبداد في إرادة الناس وعزيمتهم لأجيال متعاقبة. فأما الأجيال السابقة فنصيبها الإصلاح والترميم وإنقاذ مايمكن إنقاذه، وأما الأمل والمبتغى ففي الأجيال الصاعدة التي تصدرت صفوف الثائرين وشقت جدار الصمت والتعتيم الذي فرضه الاستبداد السياسي. هذا الجيل مؤهل لرسم ملامح إعلام وطني يرتقي إلى مستوى طموحات النخبة وعموم السائرين في ركاب "الثورة". إعلام يقوي إدراك المجتمع لواقعه ويوسع آفاقه لاستشراف المستقبل المأمول لكل فئاته. إعلام يراقب الحكام والمسؤولين الذين كُلفوا بخدمة الشعب والقيام على مصالحه، والتنبيه للأخطاء والتجاوزات المؤكدة بالأدلة الكافية لإثباتها.
كل ما ذكر حول الإعلام والدور المأمول الذي رسمته له النخبة السياسية، اصطدم بواقع مابعد "الثورة" المشحون، بالتنافس السياسي المحموم على الفوز في الانتخابات للوصول إلى السلطة، والاضطرابات الاجتماعية بسبب اعتقاد سائد عند عموم الناس أنه آن الأوان بعد"الثورة"لجني ثمارها، فارتفع سقف المطالب إلى مستويات عالية عجزت الحكومات المتعاقبة على تلبية أغلبها. كثير من الأحزاب والتنظيمات التي ظهرت قبل الثورة أوبعدها ركبت موجة المطالب المشروعة لتحقيق أهداف غير مشروعة. وحاولت التأثير على الإعلام بأي شكل من الأشكال لخدمة أغراضها الحزبية أو الإديولوجية.
ومن هنا بدأ الانحراف عن الشعار المرفوع أثناء "الثورة" حول حرية الإعلام واستقلاليته. فظهرت بعض أشرطة الفيديو المفبركة على شبكات التواصل الاجتماعي التي استهدفت بعض الشخصيات السياسية لتشويهها والتشهير بها. ولئن لم تُبث هذه المادة المزورة في وسائل إعلام رسمية عمومية أوخاصة، فقد فُرض على هذه المؤسسات الإعلامية الخوض في الموضوع وتناوله بالدرس والتحليل، لأن انتشاره الواسع في الرأي العام وتباين المواقف حوله فرض على كل وسائل الإعلام الانجرار إلى الانخراط في الموضوع بأي شكل من الأشكال.
كما عمدت بعض الشخصيات الإعلامية المورطة في الفساد مع النظام السابق إلى تضخيم أي خطإ أو تجاوز هنا وهناك من شأنه أن يشوه صورة الحكومة المنتخبة، ويقلل من شعبيتها ببث برامج تمس من رمزية شخصية رجل الدولة بالتهريج والإسفاف.
وفي إطار أجواء الشد والجذب بين النقابات والاحزاب والحكومة وتنظيمات المجتمع المدني، انجر الإعلام بعد "الثورة" في كثير من المناسبات إلى تضليل الرأي العام في تغطية بعض الاشتباكات التي وقعت بين أطراف مختلفة تتطور خلافها من خلاف في المواقف والرؤى إلى نزاع عنيف سقط فيه القتلى والجرحى، فيقع التغاضي عن الطرف الذي بدأ باستعمال العنف ويقع التركيز على الطرف الذي استعمل العنف ردا للفعل ودفاعا عن النفس وإبرازه في صورة "الظالم المعتدي" وإبراز المعتدي في صورة "الضحية" وتحشيد الخبراء في القانون وعلم الاجتماع والمحللين السياسيين لإنصاف "الضحية" والمطالبة بأقسى أنواع العقاب لردع "المعتدي". بعد ذلك توكل القضية للجان التحقيق أو للقضاء ثم لا يسمع عن القضية شيء بعد ذلك الحين فتضيع الحقيقة بين ملفات المحاكم ولايبقى في أذهان الناس سوى الصورة التي رسمها الإعلام للقضية أول مرة.
وقعت كذلك عدة حملات إعلامية لاستهداف عديد الشخصيات في الحكومة أو المعارضة. لمجرد الاستهداف الشخصي في حقيقة الأمر ويكون ذلك مغلفا بمقولات حرية الإعلام والاستقصاء والمراقبة... وغيرها. وبعد التحقيق والتحري يتضح أن الاتهامات كلها باطلة والشخص المستهدف بريء مما نسب إليه. بعد أن تضررت سمعته من جراء التشهير المقصود، فمن يتحمل مسؤولية ذلك؟
أما بالنسبة إلى التعاطي مع قضية بروز التيار السلفي الذي ظهر ظهورا لافتا بعد "الثورة"، فقد كان تعاطيا يغلب عليه التحامل والتشويه وأخذ كل من ينتمي إلى هذا التيار بجريرة أفراد يحسبون عليه قد ارتكبوا أخطاء أو قاموا بتجاوزات للقانون. وقد أخذت الحملات التشويهية ضد التيار السلفي نسقا تصاعديا وصل إلى درجة الشيطنة واعتبارهم أعداء للحداثة وغرباء على الشعب التونسي. وبذلك يبررون كل ما يقع ضدهم من تشويه و تضييق وملاحقات.
كان ذلك بعضا من شجون الحديث عن الإعلام، ولكن الأهم في الموضوع هو تحصين الإعلام الوطني بسياج من القوانين التي تحميه من هيمنة السلطة فتكفل له الحرية التامة لتبصير الرأي العام بالحقائق في كنف الموضوعية ومقاييس الحرفية المهنية. وسياج من المواثيق الأخلاقية التي يتوافق عليها المنتمون لقطاع الإعلام في إطار مؤسستهم المهنية التي تحاسب المتجاوزين منهم لميثاق شرف المهنة باتخاذ الإجراءات الردعية اللازمة ضدهم قبل اللجوء إلى القضاء إن لزم الأمر. والسياج الثالث والأهم هو المراهنة على العقول الواعية لمستهلكي الخدمة الإعلامية، التي تميز بين الغث والسمين مما يقدمه الإعلام ولا تنطلي عليها حيل التضخيم والتضليل.