تشهد الساحة الفكرية والثقافية في المملكة حراكاً نشطاً، ساهمت المتغيرات الإعلامية الطارئة مؤخراً في تشكيله وإبرازه، وأثناء التعاطي مع هذا الحراك يبرز مجدداً بين الفينة والأخرى التساؤل السابق حول مدى تعبير وسائل إعلامنا والصحافة خصوصاً عن الرأي العام في المجتمع السعودي، وهل تحظى الآراء والرغبات المنشورة في الصحف بتأييد شعبي في الشارع السعودي؟ وهل تتوافق تلك المطالبات والاقتراحات التي تملأ أعمدة الصحيفة مع الاحتياجات الفعلية للمجتمع؟ وهل المشكلات التي تُطرح على أعمدة الصحف مشكلات واقعية؟! وهل نشرت وفق حجمها الطبيعي وبصورتها الحقيقية أم أن هناك شيئاً من التشويه والتلبيس؟! وهل الثقافة التي تحملها الصحافة منسجمة مع الثقافة السائدة في المجتمع؟ وهل الصورة التي ترسمها الصحافة عن المجتمع السعودي صورة واقعية أم صورة مأمولة غير واقعية تنسجم مع الأجندة الفكرية التي تطمح بعض التيارات الفكرية إلى تحقيقها في المجتمع السعودي، وتتوافق مع طموحات الأجنبي وتطلعاته وتلبي مطالباته المشبوهة؟! أسئلة متعددة واستشكالات مشروعة..تثيرها السجالات والمناقشات الفكرية التي تشهدها مؤخراً الساحة السعودية في مشهدها الفكري والثقافي. الصحافة في المملكة تقوم على مؤسسات صحفية مستقلة في الأصل وذات طابع تجاري، وتعاني من الاحتكار منذ فترة طويلة من الزمن، فلم تنشأ أي صحيفة جديدة منذ عقود باستثناء صحيفة واحدة ذات نفوذ خاص أُنشئت في بدايات هذا العقد، والساحة الصحفية المحلية في الوقت الراهن ليس فيها إلاّ ثماني صحف ورقية فقط، اُختزلت الممارسة الصحفية فيها قسراً، ومع وجود طلبات متعددة لإنشاء صحف ورقية جديدة تثري الساحة وتحقق مبدأ تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي، إلاّ أن شيئاً من ذلك لم ير النور بعد!! وهذا الاحتكار كما هو معروف علمياً ومهنياً يضعف مصداقية وسائل الإعلام عموماً، ويقلل إلى حدٍ كبير من فرص تعبيرها عن الرأي العام الحقيقي، ومع هذا الاحتكار لا نتصور قدرة حقيقية لصحافتنا المحلية للتعبير عن الرغبات الحقيقية للمجتمع أو تصوير أحداثه ووقائعه الجارية على حقيقتها، وذلك لإمكانية استغلال هذا الاحتكار بشكل كبير في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية والفكرية الخاصة بالقوى المسيطرة على هذه الوسائل، كما لاحظنا ذلك - في المقال السابق - في كبريات الوسائل الإعلامية في دولتين تشكلان زعامة الدول المتقدمة في حرية التعبير في الوقت المعاصر؛ وهما الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا، ونحن في الساحة الصحفية المحلية ليس لدينا أي ضمانة تمنع من وقوع شيء من مظاهر تلك السيطرة المقيتة على وسائل إعلامنا بشكلٍ أو آخر، ومع خلوّ الساحة من الصحافة الحرة غير المحتكرة والتي توفر للقارئ احتياجاته هو لا احتياجات غيره منه.. الصحافة الحرة التي تتناسب فيها نوعية العرض – وهو المضمون الصحفي- مع نوعية الطلب، والذي يتمثل في احتياجات المجتمع الحقيقية، من دون ذلك يبدو حديثنا عن تعبير الصحافة عن رأي المجتمع مسألة غير منطقية ولا مقبولة. وعند استعراض أبرز الأسماء والرموز في مجال الصحافة المحلية والتأمل في اتجاهاتهم الفكرية سنجد أن بينهم توافقاً فكرياً بدرجة كبيرة، مما جعل البعض يرى أنهم في الجملة محسوبون على اتجاه فكري واحد، له مطالباته وتطلّعاته ورؤاه الفكرية المعروفة في موضوعات الحرية والمرأة والمحافظة والفنون والآداب، وغيرها من الموضوعات الجدلية المعاصرة التي تثور حولها السجالات والمناقشات الفكرية. وهذا ربما يشير إلى نوع من الغلبة أو التغلغل لهذا الاتجاه الفكري في مفاصل الصحافة المحلية، مع أنه لا يحظى بامتداد شعبي في الشارع السعودي، وهذه التغلغل هو ما دفع بعض أصحاب الأفكار الهجومية المنحرفة إلى الافتخار بذلك أمام الرأي العام الغربي. فهذا مؤسس موقع (الليبراليون السعوديون) الإلكتروني رائف بدوي- وهو لا يخفي تبنيه للفكر الليبرالي في المملكة- يقول في حوار له في موقع آفاق الإلكتروني: ".. نعم فقد سيطر الكُتَّاب والكاتبات ذوو التوجه الليبرالي على ما نسبته خمسة وتسعون في المائة من الصحف السعودية البارزة..". ونحن عندما نقول ذلك لا نستكثر على أحدٍ أن يعبر عن رأيه ما دام في الحدود المقبولة شرعاً، وليست الإشكالية في استغلال هذا التيار أو ذاك لنفوذه في الصحافة لنشر آرائه ومطالباته، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن عندما تُصوّر الأمور على غير وجهها، فيتحدث هذا التيار أو ذاك على لسان المجتمع بصفته يمثل رأيهم أو رأي أغلبيتهم، أو أن يستغل نفوذه في تصفية الحسابات الفكرية بينه وبين من يختلف معهم، والتجني عليهم بغير وجه حق، أو عندما تشوه بعض الأحداث والوقائع، ولا تذكر الحقيقة كاملة، رغبة في تحقيق مكاسب إيديولوجية فئوية على حساب الحقيقة. كما أن نظرة تحليلية فاحصة على مضامين النشر الصحفي الذي يحظى بالاهتمام والأولوية، و يرسم صورة المجتمع السعودي واحتياجات مواطنيه ورغباتهم، سنجد من خلالها أن هناك تبايناً بين تلك الصورة التي ترسمها الصحافة وبين الصورة الواقعية للمجتمع السعودي التي تؤكدها لغة الأرقام في الدراسات والمسوحات الميدانية والاستفتاءات الشعبية. وبالتأمل في بعض أجزاء الصورة المرسومة عن المجتمع السعودي ومقارنتها بالواقع يظهر مدى مصداقية الصحافة المحلية في تعبيرها عن المجتمع؛ فموضوع المرأة السعودية وحقوقها ومطالباتها – على سبيل المثال – من الموضوعات الجدلية في المشهد الفكري والثقافي السعودي خلال الآونة الأخيرة، وفي خضم هذا الجدل نجد تبايناً واضحاً بين الواقع الذي تتحدث عنه الصحافة بالنسبة لمطالبات المرأة السعودية ورغباتها؛ وبين الواقع الفعلي الذي تثبته الدراسات الميدانية المحايدة والمتخصصة، فالصورة التي ترسمها الصحافة عن المرأة السعودية من خلال المواد الخبرية أو مقالات الرأي، تدور حول أن المرأة السعودية امرأة مظلومة ومضطهدة، قد ضاعت حقوقها، وسُلبت إرادتها و استقلاليتها، ولا تحظى باحترام وتقدير المجتمع، ولا تمانع من العمل المشترك مع الرجال الأجانب، وترغب في مجموعة من المطالب التي يمنعها الرجل منها؛ كقيادة السيارة، والسفر للدراسة في الخارج من دون محرم، والتحرر من قيود العادات والتقاليد، ونحو ذلك من المطالبات والرغبات التي لا تحظى في الحقيقة بتأييد شعبي في المجتمع، وإنما تصدر عن نماذج فردية من نساء سعوديات ذوات أيديولوجيات وقناعات فكرية معينة تختلف مع الثقافة السائدة في المجتمع، ويؤكد عدم دقة تلك الصورة التي ترسمها الصحافة عن المرأة السعودية عدة دراسات وبحوث ميدانية، صدرت من جهات متخصصة و محايدة في الوقت نفسه، ومن ذلك الدراسة الميدانية التي نشرت نتائجها صحيفة (الجزيرة) في عددها رقم (د12337)، وقام بها جهاز الإرشاد والتوجيه في الحرس الوطني على عينة عشوائية من النساء السعوديات وعبر عدد من المتخصصين، شملت مختلف الأعمار والفئات، وتوصلت الدراسة إلى أن هذه الأفكار والمطالبات لا تحظى بالقبول والانتشار في الأوساط النسائية، بل إن غالب النساء يعارضن ذلك، فقد أوضحت الدراسة أن 88% من النساء يرفضن قيادة المرأة للسيارة، و 92% يرفضن سفر المرأة إلى الخارج للدراسة من دون محرم، و90% منهن يرفضن العمل المختلط بالرجال الأجانب في المجمعات السكنية والفنادق ونحو ذلك، وحول ظلم المرأة كشفت الدراسة أن قطاعات كثيرة من النساء لا ترى ثمة فرقاً بينها وبين الرجال في نسبة احتمالات التعرض للظلم. وفي دراسة أخرى أجرها مركز (مسبار) للدراسات والبحوث والإعلام ونشرتها صحيفة (المدينة) في عددها رقم (166633) ظهر أن 72% من المواطنين لا يؤيدون عضوية المرأة في المجلس البلدي، وعلل 69.5% منهم ذلك لوجود مخالفات شرعية تترتب على مشاركة المرأة في المجالس البلدية، في إشارة إلى العمل المختلط مع الرجال الجانب والذي يحصل من جراء ذلك. ولو انتقلنا إلى موضوع آخر يمثل جزءاً آخر من الصورة؛ وهو موضوع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بصفته من الموضوعات الساخنة التي تشهدها الساحة الفكرية السعودية، والتي يتضح من خلاله مقدار البون الشاسع بين الصورتين؛ فالصحافة المحلية ترسم صورة ذهنية غير واقعية عن هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلاقتها بالمجتمع، وتدور معالم هذه الصورة حول وجود فجوة كبيرة وصدام بين المجتمع وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن كثيراً من أعضاء الهيئة يضايقون الناس، ويعتدون على حرياتهم بدون وجه حق، ويتدخلون في خصوصياتهم، ويشهرون بأخطائهم، ويتعاملون مع الجمهور بطرق غير إنسانية، يغلب عليها القسوة والشدة، وتصور الصحافة هذه الأمور على أنها هي السمة أو السلوك العام لأعضاء الهيئة، وليس حالات قليلة أو شاذة قد تقع من بعض الأفراد دون قصد إساءة مثلاً، وحين ننتقل إلى لغة الأرقام فإننا نجد تبايناً واضحاً يؤكد ضعف مصداقية الصورة التي ترسمها الصحافة عن الهيئة ومخالفتها للواقع. ففي دراسة ميدانية نشرتها صحيفة (الوطن) في عددها (2454)، وركزت على شريحة الشباب من الجنسين، واعتمدت على أسلوب علمي ومهني عن طريق المسح بالاستبيان المباشر لشرائح وعينات عشوائية في أربعة من مناطق المملكة، وتبين من خلالها أن 73% من عينة الدراسة يرون أن ما تناقلته وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة عن الهيئة إما غير صحيح أو عبارة عن تركيز وتضخيم لأخطاء فردية، و 77% منهم يشعرون بالارتياح والاطمئنان على محارمهم لوجود أعضاء الهيئة في الأسواق والمجمعات التجارية، و 89% يرون أن للهيئة دوراً كبيراً في منع انتشار المخالفات والدعوة للفضائل. كما بينت دراسة أخرى قام بها معهد الملك عبد الله للبحوث والدراسات الاستشارية بجامعة الملك سعود، ونشرت نتائجها صحيفة (الجزيرة) في عددها رقم (3036) أن 71% من الأفراد يرون أن عضو الهيئة حريص على أن يتعامل مع الناس بالعدل، و 71.4% يرون عضو الهيئة غالباً ما يستخدم الكلمة الطيبة، كما أن نسبة 89% لديهم قناعة بالدور الذي يقوم به عضو الهيئة، بينما رأى أكثر من ثلثي العينة أن عضو الهيئة قدوة يُحتذى به. والتعاطف الشعبي مع الهيئة وقضاياها ظهر حتى في الأوساط غير المحافظة، وفي المواقع التي تختلف فكرياً مع الاتجاه الإسلامي عموماً، ويشهد لذلك الاستفتاء الذي قام به موقع قناة (العربية) الإلكتروني أيام الحملة الإعلامية على الهيئة في منتصف عام 1428ه، وشارك فيه (327) ألف مصوت، اختار 63.7% منهم تجاهل الشكاوى المتزايدة في وسائل الإعلام على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها شكاوى مغرضة، بينما توزعت الأصوات الأخرى على الخيارين الآخرين وهما: إلغاء الهيئة والبحث عن بديل، وإعادة النظر في وضع الهيئة الحالي، كما ظهر هذا التعاطف في بعض البيئات المنفتحة –كمدينة جدة مثلاً- أكثر من غيرها من باقي المدن الأخرى؛ ففي دراسة علمية محايدة نشرت نتائجها صحيفة (الوطن) في عددها رقم (2965)، وقام بها فريق علمي من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومما توصلت إليه أن 97% من أهالي مدينة جدة تؤيد عمل الهيئة. وهذه الدراسات الميدانية والاستفتاءات الشعبية تجسد بشكل علمي رأي الأكثرية في المجتمع السعودي حول قضايا الهيئة، وتؤكد على أن وجود الهيئة وتفعيل دورها يشكل مطلباً جماهيرياً وشعبياً، وتشير إلى مقدار القبول الاجتماعي لأعمال الهيئة بخلاف ما تنشره الصحف عن ذلك، كما تؤكد على أن وجود نقد أو رأي أو ملاحظة على بعض أعمال الهيئة في الحالات الفردية لا يعني على الإطلاق أن المجتمع يرفض الهيئة أو يتذمر من سلوكها، إنما تعني أن المجتمع يرفض أخطاء الهيئة كغيرها من أخطاء الجهات الحكومية الأخرى. ومما يؤكد التعاطف الشعبي مع الهيئة أن الفعاليات التوجيهية التي تقوم بها الهيئة تحظى بتفاعل جماهيري لافت على أكثر من مستوى، فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة (الحياة) في عددها (166651)خبراً عن تزاحم (25) ألف امرأة على جناح الهيئة في معرض "كن داعياً" بحائل خلال ثلاثة أيام فقط من عمر المعرض، كما نشرت صحيفة (البلاد) في عددها (17773) خبراً عن الإقبال الكبير الذي شهده جناح الهيئة في معرض "كن داعياً" بعسير وتفاعل الزوار مع أركان الجناح، ونشرت صحيفة (الجزيرة) في عددها (12930) خبراً عن التفاعل النسائي مع جناح الهيئة بمدينة جيزان؛ حيث بلغ عدد الزائرات قرابة خمسين ألف زائرة. ما سبق من مسوّغات يؤكد أن الصحافة المحلية كغيرها من وسائل الإعلام الأخرى لا تُعدّ وسيلة آمنة للتعرف على الرأي العام في المجتمع السعودي، ولا تعبر بدقة عن اهتمامات ورغبات الأغلبية فيه، ولا تحمل ثقافته السائدة، والآراء التي تطرحها وتطالب بها ليس بالضرورة أنها تعبر عن واقع المجتمع، كما أن الصورة التي ترسمها الصحافة المحلية عن المجتمع السعودي صورة غير واقعية، وتُعدّ نوعاً من "التضليل الإعلامي" الذي تمارسه الصحافة. لذلك لا يحسن بأصحاب القرار رسم السياسات العامة وتحديد أولويات المجتمع بناء على ما تنشره وتثيره الصحافة المحلية فقط، مع إغفال النظر إلى غيرها من وسائل التعبير بالرأي. كما أن هذه النتيجة تحتم على مؤسسات القطاع العام ذات الاختصاص الاجتماعي والأكاديمي ومؤسسات القطاع الخاص أن تُعنى بإنشاء مراكز نوعية متخصصة لاستطلاع الرأي في المجتمع، تديره كوادر فنية وعلمية، توفر لصاحب القرار المعلومة الدقيقة المحايدة حول رغبات المجتمع واهتماماته ومطالباته الفعلية حسب حجمها الطبيعي، ووجهات نظره الحقيقية تجاه سياسات الدولة وإجراءاتها المختلفة، وذلك من خلال الاستبانات المكتوبة، أو الاتصالات الهاتفية، أو من خلال اللقاءات المباشرة بأفراد الجمهور، وذلك وفق عينات عشوائية تتساوى فيها فرص المشاركة بين جميع أفراد مجتمع الدراسة، ولحيادية هذه المراكز في العادة فإن معلوماتها تنال في الغالب مزيداً من الدقة والثقة. كما أن شبكة الانترنت تُعد –هي الأخرى- وسيلة حديثة ومهمة للتعبير عن الرأي، وتوفر فرصاً كبيرة لاستطلاع وجهات النظر الحقيقية في المجتمع، ولعنصر الأمان والحرية التي تتميز به فإن معلوماتها تكون في الغالب دقيقة وواقعية أكثر، ويمكن التعرف على الآراء عبر شبكة الإنترنت من خلال عمليات الاستفتاءات الشعبية، أو من خلال تحليل المضامين الإعلامية في عددٍ من المواقع الإلكترونية المختلفة، مع ضرورة أن تشمل تلك المواقع المنتديات الشعبية العامة والصحف الإلكترونية، وما تحويه من أخبار وآراء ومطالبات وردود أفعال شعبية ونخبوية.