كثيرون هم الذين أفسدوا في هذه الأرض بل واحترفوا الفساد وجعلوه ديدنهم ومأكلهم ومشربهم، كثيرون هم الذين نبت لحمهم وتخلّقت خلاياهم من الفساد، عاشوه بنهم تأبطوه تخمّروا به وإذا ما ماتوا دسّ أحد النظراء يده في جيبه بوقار وأخرج مئة دينار، اشترى قطعة من الرخام الجميل الفاخر ثم دفع بها إلى نقاش ووضع في كفه بعض الدنانير وورقة بالمطلوب.. وانهمك الرجل ينحت اللوحة التي ستنتصب فوق رأس ذلك الممدّد في قبره إلى الأبد، قبر فاخر يشبه القصر الصغير ولوحة جميلة وما كتب عليها أجمل" المصلح فلان بن فلان الفلاني عاش للوطن ومات من أجله"، هكذا بدون تردد ولا حياء، هكذا ببرودة دم مع دحض العقل ونسف المنطق وقهر المألوف، والأمر لا يقف عند حدّ كلمة مصلح مجردة، إنّما يتعداها إلى المصلح بالنياشين بلام التعريف، وبالحروف الستة كاملة غير منقوصة " أ ل م ص ل ح " ، يقف النظراء أمام القبر الأنيق يلتقطون بعض الصور التذكاريّة، ينسحبون من المقبرة ثم تبتلعهم دنيا الفساد في انتظار دورة جديدة إلى الموت.
كانت تلك رغبة الميت ورغبة الشريحة التي ينتمي إليها، وكان ذلك نوع نادر من الانتهازيّة، نوع غير شائع في الدول الغربيّة والإفريقيّة وجنوب شرق آسيا وغرب آسيا بل وغير شائع في آسيا بمجملها بمياهها الإقليميّة والدوليّة، بل غير شائع في القارّات الخمس.. بل غير شائع في الكواكب والمجرّات وغير شائع حتى عند الجنّ الذين يسترقون السمع، كل الكائنات الحيّة التي تنتهج اللؤم سبيلا تتفاوت في لؤمها وأشدّها لؤما ذلك الذي انصهر في اللؤم، ذلك الذي من إذا رأيته خلته جلمود لؤم حطّه السيل من علي، ومع ذلك حتى هذا ينتهي لؤمه عندما تنتهي حياته، إلا فصيلة اللؤم التي لدينا والتي يبدو أنّها انقرضت من العالم وحافظت على وجودها في بلادنا بحكم التربة الخصبة التي وفّرها لها المخلوع وعائلته، لئام يمتصون الفساد يرتشفونه ارتشافا في حياتهم ويجهزون لشراء ألقاب المصلحين بعد مماتهم، يشترون صلاحا معلّبا جاهزا " Congeler"، يخزنونه حتى إذا ما ماتوا نثروه رفاقهم فوق قبورهم وفي الطرقات والمؤسسات ووسائل الإعلام، واستأجروا حنّانات "وحنّانون" يمشون بتلك الألقاب المجمّدة ، حنّانات مرتزقات غبيات يبحثن زرع الدم الطبيعي في صفات وألقاب" plastique، bois ، métal"
الغريب بل اللغز أنّ هؤلاء ومن فرط لؤمهم المغلظ الشنيع يتركون جميع الألقاب والصفات والمسميّات الحسنة الأخرى ويصرّون على حجز واقتناء تلك الصفات الحسنة المضادة لأفعالهم البشعة فقط لا غير، فترى الفاسد والفساد يصرّون على حجز ألقاب الصلاح والمصلحون والإصلاح ، والسرّاق يصرّون على احتكار الصدق والصدوق والصادقون، والظالم يتلهف على ألقاب العادل والعدل والعادلون، والجبان يحجز عبارات الشجاعة والإقدام وتجده فقيرا من ذكر الله ثريّا بذكر حيدرة وعنترة والغضنفر، والفاجر يعربن على ألقاب الطهارة يخزّن عبارات الطهر لموته بقدر كرهه لها في حياته، أمّا الملحد فيعرض عن جميع العبارات والمفردات والمعاني والتراكيب والمصطلحات المفعمة بالجمال والحياة، يعرض عن الصفات التي تزخر بها أمهات المعاجم العربيّة ويتجاهل الجراب اللغوي للدؤولي وسيبويه والحطيئة والجاحظ والأصمعي والمتنبي.. ويركّز بشراهة على عبارة "الشهيد" يسيل لعابه عليها.. إنّهم يستعيرون العبارات التي تنكّبوها في مسيرتهم ليحتموا بها في مصيرهم، أولئك قوم حرّضهم العناد على البخل وحرّضهم البخل على اللؤم، فهم يبخلون بكلمة نظيفة جميلة في هذه الحياة وتؤزّهم أوهامهم فيستسلمون لأحلام الشهادة ومصير الشهداء.