أمين عام الأمم المتحدة.. العالم يجب ألاّ يخشى ردود أفعال إسرائيل    صفاقس شاطئ الشفار بالمحرس..موسم صيفي ناجح بين التنظيم والخدمات والأمان!    أخبار مستقبل قابس...عزم على ايقاف نزيف النقاط    نفذته عصابة في ولاية اريانة ... هجوم بأسلحة بيضاء على مكتب لصرف العملة    استراحة «الويكاند»    مع الشروق : العربدة الصهيونية تحت جناح الحماية الأمريكية    28 ألف طالب يستفيدوا من وجبات، منح وسكن: شوف كل ما يوفره ديوان الشمال!    ميناء جرجيس يختتم موسمه الصيفي بآخر رحلة نحو مرسيليا... التفاصيل    محرز الغنوشي:''الليلة القادمة عنوانها النسمات الشرقية المنعشة''    توقّف مؤقت للخدمات    عاجل/ المغرب تفرض التأشيرة على التونسيين.. وتكشف السبب    رئيس "الفيفا" يستقبل وفدا من الجامعة التونسية لكرة القدم    عاجل/ عقوبة ثقيلة ضد ماهر الكنزاري    هذا ما قرره القضاء في حق رجل الأعمال رضا شرف الدين    الاتحاد الدولي للنقل الجوي يؤكد استعداده لدعم تونس في تنفيذ مشاريعها ذات الصلة    بنزرت: مداهمة ورشة عشوائية لصنع "السلامي" وحجز كميات من اللحوم    عفاف الهمامي: أكثر من 100 ألف شخص يعانون من الزهايمر بشكل مباشر في تونس    رابطة أبطال إفريقيا: الترجي يتجه إلى النيجر لمواجهة القوات المسلحة بغياب البلايلي    الترجي الجرجيسي ينتدب الظهير الأيمن جاسر العيفي والمدافع المحوري محمد سيسوكو    عاجل/ غزّة: جيش الاحتلال يهدّد باستخدام "قوة غير مسبوقة" ويدعو إلى إخلاء المدينة    دعوة للترشح لصالون "سي فود إكسبو 2026" المبرمج من 21 إلى 23 أفريل 2026 ببرشلونة    قريبا: الأوكسجين المضغوط في سوسة ومدنين... كيف يساعد في حالات الاختناق والغوص والسكري؟ إليك ما يجب معرفته    البنك التونسي للتضامن يقر اجراءات جديدة لفائدة صغار مزارعي الحبوب    أريانة: عملية سطو مسلح على مكتب لصرف العملة ببرج الوزير    سطو على فرع بنكي ببرج الوزير اريانة    أكثر من 400 فنان عالمي يطالبون بإزالة أغانيهم من المنصات في إسرائيل    عائدات زيت الزيتون المصدّر تتراجع ب29،5 بالمائة إلى موفى أوت 2025    عاجل: تونس تنجو من كارثة جراد كادت تلتهم 20 ألف هكتار!    بعد 20 عاماً.. رجل يستعيد بصره بعملية "زرع سن في العين"    توزر: حملة جهوية للتحسيس وتقصي سرطان القولون في عدد من المؤسسات الصحية    10 أسرار غريبة على ''العطسة'' ما كنتش تعرفهم!    عاجل- قريبا : تركيز اختصاص العلاج بالأوكسيجين المضغوط بولايتي مدنين وسوسة    عاجل/ مقتل أكثر من 75 مدنيا في قصف لمسجد بهذه المنطقة..    مهذّب الرميلي يشارك في السباق الرمضاني من خلال هذا العمل..    قريبا القمح والشعير يركبوا في ''train''؟ تعرف على خطة النقل الجديدة    مجلس الأمن يصوّت اليوم على احتمال إعادة فرض العقوبات على إيران    شنية حكاية النظارات الذكية الجديدة الى تعمل بالذكاء الاصطناعي...؟    بلاغ مهم لمستعملي طريق المدخل الجنوبي للعاصمة – قسط 03    نقابة الصيدليات الخاصة تدعو الحكومة إلى تدخل عاجل لإنقاذ المنظومة    أغنية محمد الجبالي "إلا وأنا معاكو" تثير عاصفة من ردود الأفعال بين التنويه والسخرية    حملة تلقيح مجانية للقطط والكلاب يوم الاحد المقبل بحديقة النافورة ببلدية الزهراء    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    البطولة العربية لكرة الطاولة - تونس تنهي مشاركتها بحصيلة 6 ميداليات منها ذهبيتان    عاجل : شيرين عبد الوهاب تواجه أزمة جديدة    المعهد الوطني للتراث يصدر العدد 28 من المجلة العلمية "افريقية"    افتتاح شهر السينما الوثائقية بالعرض ما قبل الأول لفيلم "خرافة / تصويرة"    جريمة مروعة/ رجل يقتل أطفاله الثلاثة ويطعن زوجته..ثم ينتحر..!    محرز الغنوشي يزّف بشرى للتوانسة: ''بعض الامطار المتفرقة من حين لاخر بهذه المناطق''    شهداء وجرحى بينهم أطفال في قصف الاحتلال عدة مناطق في قطاع غزة..# خبر_عاجل    بطولة العالم للكرة الطائرة رجال الفلبين: تونس تواجه منتخب التشيك في هذا الموعد    هذه الشركة تفتح مناظرة هامة لانتداب 60 عونا..#خبر_عاجل    في أحدث ظهور له: هكذا بدا الزعيم عادل إمام    تصدرت محركات البحث : من هي المخرجة العربية المعروفة التي ستحتفل بزفافها في السبعين؟    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد: "لم يعد مقبولا إدارة شؤون الدولة بردود الفعل وانتظار الأزمات للتحرّك"    خطبة الجمعة .. أخطار النميمة    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المال... تناقضات الكائن
مصطفى القلعي
نشر في الشعب يوم 22 - 05 - 2010

لقد كان الكون أجمل حيث كان زيوس سيّد الآلهة يقيم فوق قمّة جبل أولمب طائفا حول البشر. وكان محاطا بالآلهة السعيدة التي كانت مهتمّة بالكائن الإنسان مشغولة به مهتمّة. وكانت جميعا تهبه الهبات حبّا فيه وحرصا على كرامته لا رحمة به ولا عطفا عليه. فالرحمة والعطف لا يكفلان الكرامة للبشر. هذا ما حدّثت به الأساطير(1). لقد كان الكون لحظة خلقه أجمل حيث كان «ابن الوجود» يحيا مرحا فرحا منطلقا شاديا منشدا، إذ لم يكن هناك بيع وشراء، بعدُ. هذا ما أكّده الشعر(2).
ولم تتخلّق في الكائن الإنسان نزعة الطمع والافتكاك والسرقة، بعد. كان الكائن لا يأكل إلاّ ما يكفيه. وكان ما يأكله يكفيه. وكان لا يلبس إلاّ ما يقيه. و كان ما يلبسه يقيه. كائنا راضيا قانعا كان. متطلّعا إلى السماء والشمس والقمر والنجوم كان. ناظرا إلى الأرض نظرة حنوّ وهدهدة وامتنان كان. دون نظّارات ولا أشعّة حمراء ولا تحتها ولا فوقها كان ينظر. لم يكن يوما يطمح إلى فتح بطن الأرض وعرض شرايينها تحت الشمس لتتعفّن بعد سحب أحد أعضائها عنوة وقهرا. لقد كانت الأسطورة أكثر إنسانيّة من التاريخ. فالمال طلع مع طلوع التاريخ. ومنذ ذلك الحين بدأ الإنسان يفقد إنسانيّته أو ما حقّقه منها. 2. الكرم ومقاومة التلاشي في الزمان:أخبرت الأنثروبولوجيا وعلوم الأحياء أنّ الإنسان كائن تحرّكه الحاجة والغريزة كغيره من الكائنات الحيّة. وقد صار في مرحلة من مراحل وجوده في حاجة إلى إقامة التبادل مدفوعا بغريزة البقاء، لأنّ الجماعة لم تكن تنتج كلّ ما تحتاجه. وإنّما تنتج من بعض ما تحتاجه الكثيرَ. وتفتقر إلى البعض الآخر تماما. فزاد عن حاجتها ما تنتجه. لكنّ ما زاد عن الحاجة لم يلغ حاجتها إلى ما تفتقد إليه. ولم تكن المخيّلة البشريّة قد ابتكرت فكرة الخزن والتموين بعد. فكانت فكرة التبادل فكرة تقدميّة في لحظتها كفلت للكائن توفير حاجياته. وجعلت قيمةً لما لم تكن له قيمة. فالزائد عن الحاجة كان يُلقى بعد أن يفسد أو يتفسّخ. فتضيع الثروة. ويتبدّد معها جهد تحصيلها.لكن، مع ذلك لم يبلغ الكائن الإنسان الرفاه. وإنّما ظلّ يعيش الفاقة والفقر والحاجة. وهذا ما حدّثت به آداب العرب. فالناظر في الشعر الذي أنتجه العرب قبل الإسلام يلاحظ فيه إبداعا لمعادلة عجيبة تتمثّل في إعلاء قيمة الكرم آن الحاجة والتقتير في زمن لم يبتعد فيه شبح البدائيّة ولا ملامحها عن الكائن البدويّ المترحّل. فهو مازال يفترش الأرض ويلتحف السماء لاسيّما أنّ مهنته الأساسيّة (الرعي) وطبيعة عيشه (الترحال والغزو) وعلاقته بالمكان (الإقامة العابرة) وخصائص الإطار الطبيعيّ الذي يقيم فيه (الجفاف الصحراويّ) كلّها تمنعه من تشييد العمارة(3). فالبناء والتشييد يفترضان الاستقرار في المكان. وهو ما لم يتوفّر لعرب ما قبل الفتح المفتقرين إلى الثروة والمال(4). ولم يكن متاحا لهم بأيّ حال من الأحوال.وقد كان تأسيس العمارة نوعا من مقاومة التلاشي في الزمان. وقد كانت أمم أخرى سابقة على العرب كالفراعنة والرومان والقرطاجيّين وغيرها من الأمم على وعي به. فعمّرت، وبنت. وكلّما أعلت اقتربت من دفء الشمس، وابتعدت عن هاجس برد الكهف ورطوبته. ولذلك لم تنتج هذه الحضارات قيمة الكرم بمعناها المقاوم الذي لها في الشعر العربيّ قبل الفتح. لقد كانت مقاومتها للبدائيّة بالعمارة. وهو شكل من المقاومة لم يتح للعرب. فكان الشكل الثاني الرمزيّ هو الذي مارسوه، أعني المقاومة بالقيم.الكرم يعني الهبة والمنح بين كائنين. فالكائن الأوّل يمنح الكائن الثاني ما كان الأوّل إليه أحوج. بمعنى أنّ الكرم لا يعني الاستغناء عمّا يزيد عن الحاجة للتخفّف منه. ولا يعني الزكاة ببعض الثروة بحثا عن الثواب. وإنّما هو الجود بالقليل المتاح بالضنى إلى الآخر رغم الحاجة الذاتيّة إلى ما يجاد به. بمعنى آخر ليس للكرم اتّصال بالفقر والثراء. فليس الثريّ هو الجواد. وإنّما الكائن، أيّ كان، يجود بما بين يديه إلى كائن آخر دون اشتراط المعرفة السابقة ولا العصبيّة الدمويّة ولا القبليّة ولا الحاجة البادية على المحتاج. فليس الكرم مكافأة ولا جائزة. ولا هو محاباة ولا مجاملة. ولا هو تفضُّل ولا منٌّ. ولا هو إذلال ولا احتقار. ولا هو تظاهر بالثراء. ولا هو زكاة ولا طمع في الثواب.إنّ الكرم مقاومة ذاتيّة لنزعة التملّك تخلّقت في الكائن الإنسان. فالتملّك نزعة بيولوجيّة سكنت أعماق الكائن. واصطحبها معه من رطوبة الكهوف إلى رحابة الجماعة. كان وحده يقيم، ويحيا. ولذلك كان يميل إلى تملّك ما يحمي وجوده من المخاطر. خائفا كان الكائن الإنسان في العراء مرتجفا. كان التملّك حاجة في الكهف. فصار غريزة في الجماعة. الحاجة كان يحتاج إليها لتقي وجوده. والغريزة صارت ثقلا عليه بين الجماعة تشدّه إلى كابوس البدائيّة حيث البرد والظلام والرعب. وقدر الإنسان مقاومة الغريزة إمعانا في نشدان إنسانيّته وإلحاحا في طلبها. ولذلك كان الكرم نوعا من المقاومة. إنّه آليّة راقية من آليّات السير نحو الأفق الإنسانيّ. إنّ الكرم قيمة وجوديّة. فالفقير يجود بما عنده لا ببعضه. والثريّ يجود بما عنده لا ببعضه. إنّها تعني أن يفتح الكائن مكانا فيه لغير ذاته. وأن يشرك غيره في ما بين يديه. 3. الثروة وتناقضات المدينة العربيّة الإسلاميّة:تغيّرت حياة العرب بعد تمأسس الدين وتشكّل ذاك التحالف التاريخيّ الذي غيّر وجه العالم بين مؤسّستي الخلافة والفقه. فعمل الحلف الوليد الناشئ على التنظير لإيديولوجيا توسّعيّة تضمن استقرار الداخل وتوسّع الرّقعة ومضاعفة الموارد والمداخيل. وكان الفتح آليّة ذلك كلّه. ونتيجة ذلك كانت عجائبيّة أسطوريّة. فما كان يقطعه الإنسان في أزمنة ودهور قطعه العربيّ في سنوات قلائل. فالمشروع العمريّ(5) بتصدير الفتح كان في أواخر النصف الأوّل من القرن السابع الميلادي. ومنذ ذلك التاريخ أخذ العربيّ معه غبار البوادي ورمل الصحراء العالق بعمامته. وترك حطب الخيمة وأوتادها والمعزى الحلوب والناقة. وحمل معه سيفه وقوسه. وانضمّ إلى صفوف الفاتحين رافعا راية الإسلام البيضاء. فشرّق في أمصار لم يكن يعلم بوجودها أصلا. وغرّب. وعاد، مَن عاد، بالجواهر واللآلئ والحرير والعاج والخدم والأسرى والسبايا.لقد صار البدويّ الفقير المحتاج المنطلق الحرّ جنديّا نظاميّا منضبطا ثريّا يؤدّي دورا في مؤسّسة من مؤسّسات الخلافة هي المؤسّسة العسكريّة التي تعمل بهدي بل بأمر سياسيّ من الخليفة. هكذا تمأسس العربيّ العدنانيّ البدويّ الشماليّ هو أيضا. وصار خاضعا للقانون المستنبط من النصّ الشرعيّ بعد أن كان ابن العرف والعادة والقيم. هذا التحوّل في طبيعة وجود العربيّ من الحريّة إلى المأسسة تطلّب تحوّلا حضاريّا من الخيمة إلى المدينة. وفي المدينة العربيّة الإسلاميّة الناشئة وجدت التناقضات ميدانا فسيحا للعمل. فلقد تكّدست الأموال. وتراكمت الثروة. فشيّدت القصور. واستصلحت البساتين والحدائق. وتعطّر الرجال. وتزيّنوا بالحليّ. واستخدموا أسراهم. واستحلّوا سباياهم. بل امتلكوهم وامتلكوهنّ. ونشأت عندهم العبوديّة. وطلعت في معجمهم مصطلحات العبد والأمة والمولى والسيّد. وراجت. واكتسبت بفعل رواجها ذاك حكم المسلّمة والبديهة اللتين لا جدال فيهما. ولا خلاص منهما. وكانت الثروة دافعا العربيَّ إلى أن يفتتح زمن التراجع عن قيمه المقاومة للبدائيّة والتلاشي.ومن حظّنا أن أتاح لنا كتابُ المفكّر العربيّ الجاحظ (160- 255/ 776م- 868م) «البخلاء» رصدَ جانب من هذه التناقضات في القرن التاسع الميلاديّ. والجاحظ عاش في زمن الرخاء الإسلاميّ السعيد بعد أن دانت الأمم للمسلمين. وفاضت بيوت المال بالثروات والكنوز. وفُتحت مسالك للقوافل المحمّلة بأموال الخراج وريعه من كلّ الأمصار.ونحن لا ننخرط، طبعا، في القراءة التبسيطيّة الشائعة لبخلاء الجاحظ؛ تلك التي تقول إنّ الجاحظ اكتفى في كتابه برصد سلوك اجتماعيّ سائد في عصره. ونقَله بكثير من الأمانة. وقد زادت أدوات السرد فيه في رواج هذا الرأي لاسيّما أنّه ينهض على بنية السند والمتن المستعارة من المجال الفقهيّ. وهي بنية متى غادرت أرض الفقه وأصوله تحوّلت إلى أداء دور نقيض. ففي المجال الفقهيّ كان دورها يتمثّل في إثبات صحّة الحديث النبويّ قصد استغلاله في التشريع للأحكام. وفي الأدب تحوّل هذا الدور الإثباتيّ إلى دور إيهاميّ لأنّ الأدب لا يعكس الواقع بل يخيّله. والتخييل الأدبيّ لا يقبل حكمي الصحّة والخطإ.ولذلك فإنّ شخصيّات البخلاء، سواء أوجدت في التاريخ أم لم توجد، لا تعدو أن تكون حيواتها حيواتٍ قصصيّة. فهي شخصيّات غير مائتة خلافا للأشخاص المدنيّين. ونحن متى فتحنا دفّتي الكتاب وجدناها تشاركنا وجودنا رغم ابتعادنا عنها في الزمان. فنراها تتكلّم وتتجادل وتروي وتصف وتتحيّل وتمكر. ومتى أغلقنا الكتاب غادرت وجودنا المستهدف من قبل الفناء بعد أن تركت فينا شيئا منها. واكتفت بوجودها بين صحائف الكتاب، وهو وجود لا يطاله الموت ولا الزمن.ولذلك وصفنا القراءة التي ترى الجاحظ يعكس واقعه بالتبسيطيّة. بل إنّها مختلّة. وسنكتفي برصد خللين فيها كافيين لدحضها. الخلل الأوّل مأتاه ما كنّا بصدد الحديث عنه من رفاه المجتمع العربيّ الإسلاميّ زمن الجاحظ. والرفاه الاقتصاديّ حقّق استقرارا سياسيّا ورخاء اجتماعيّا. وهذا الوضع لا يمثّل البيئة المناسبة لنشأة ظاهرة البخل والتحيّل والتكدية والتسوّل في المجتمع العربيّ الإسلاميّ خلال القرن الثالث الهجريّ.والخلل الثاني مأتاه نظر سوسيوثقافيّ للمسألة نصوغه على الشكل الإنكاريّ التالي؛ أيّ أمّة من الأمم القديمة أو المعاصرة يمكن أن تقبل وصف أهلها بالبخل؟ أيّ مجتمع بشريّ كان أهله بخلاء سعداء ببخلهم؟ هل يقبل مَن عُرف بالبخل بين الناس، اليوم مثلا، أن يُنعت بالبخيل؟ إذا لم يقبل أهل اليوم نعت البخل وهم بعيدون عن عصر الكرم، فكيف يقبله عرب القرن الثالث الهجريّ ولا تزال نخوة الاعتزاز بقيم أجدادهم الكرام تهزّهم؟ وإمعانا في كشف اختلال هذه القراءة نقول إنّ بخلاء الجاحظ لا يقبلون فقط صفتهم. بل إنّهم ينظّرون لسلوكهم البخلَ تنظيرا جلب إليهم التبجيل والإكبار. نخلص من هذا إلى أنّ البخل ليس ظاهرة اجتماعيّة ولا سلوكا اجتماعيّا سائدا في عصر الجاحظ ولا في أيّ عصر آخر من العصور. فما هو، إذن؟ لماذا يترك الجاحظ ما كان غارقا فيه معاصروه من الولع بالترف والرفاه ويجهد لابتكار أدب البخل والتقشّف؟إنّ البخل أدب وليس ظاهرة اجتماعيّة ولا قيمة. فالقيم لا تكون إلاّ إنسانيّة إيجابيّة معلاة. إنّ البخل أدب المدينة كما كان الكرم أدب البادية. لقد كان الجاحظ على وعي تامّ بأنّ اتّخاذ الكرم مادّة للتخييل الأدبيّ في مجتمع مرفّه لن يكون اختيارا صائبا لاسيّما أنّ أجداده الشعراء القدامى قد استنفذوا طاقات الإبداع كلّها فيه. فالجميلة لا يظهر جمالها بين الجميلات في حين يكون أخّاذا بين غير الجميلات. والكريم لا يبرز كرمه بين الكرماء في حين يكون علما بين من لا يتحلّون بقيمته. كذلك البخيل سيكون طريفا مُفلقا ضحكا حين يكون بين الأثرياء الميسورين. فبأضدادها يجلو بهاء الأشياء. ولكن، هل كان الإضحاك هدف الجاحظ من هذا الابتكار المفلق؟ نحن لا نعتقد أنّ الإضحاك هدف بقدر ما نراه أداة ووسيلة. إنّه أداة للضحك على قيم المدينة. وهو وسيلة للسخرية من حضارة الجدران. إنّ البخل لا يلغي الكرم. ولم يلغه بتاتا في أيّ عصر من العصور بدليل أنّه مازال قيمة ممجّدة بين الناس في كلّ المجتمعات إلى اليوم. لكنّ سيادة البخل دليل على غياب نقيضه الكرم. وهذا يعني أنّ الكرم قيمة لا تنسجم مع حضارة الجدران قديما فما بالك بعد تعبّد المسالك وإنارة الشوارع وتنظيم حركة السير بالشُرَط. فليس اختيار الجاحظ تغييب قيمة الكرم دليلا على أنّ دورها قد انتهى وألاّ مكانة لها بين أهل الحواضر. وإنّما هو دليل على أنّ غيابها موقف احتجاجيّ على ما تسبّبت فيه الثروة من تخلّق جملة من الانفعالات والنوازع اللّاإنسانيّة في الكائن الإنسان. إنّ الكرم قيمة سامية شمّاء ترفض التجاور في ذات الجسد وفي ذات المجتمع مع الطمع والجشع والتحيّل وبيع الذمّة والذلّ والاستعباد وامتهان الكائنِ الكائنَ. وهذا ما بدأ يسود جدران المدينة العربيّة الإسلاميّة.
الإحالات:
1. تقول الأسطورة عن الزمن الأوّل السعيد المفقود الذي كانت فيه الآلهة ترقّ للبشر. وتعطف عليهم. وتمنحهم الحبور وتؤمّن وجودهم من أهوال الطبيعة: «عاليا فوق الأوليمب البهيج يجلس زيوس على عرش الملك محاطا بأسراب الآلهة. في هذا المكان تقيم زوجته هيرا وأبولون ذو الشعر الأجعد مع أخته ارتيميدا وأفروديتا الشقراء وأثينا، ابنة زيوس الجبارة وكثير من آلهة آخرين. ثلاث من الأورات الفائقات الجمال يحرسن المدخل المؤدّي إلى جبل الأوليمب الشاهق وهنّ اللّائي يرفعن الغمامة القاتمة التي تحجب البوابة عندما يهبط الآلهة نحو الأرض أو يصعدون إلى أبهاء زيوس المزدانة. السماء الزرقاء اللاّنهائيّة الأسبار تنبسط بعيدا فوق الأوليمب ومنها يتدفق النّور الذهبيّ. لا مكان للأمطار أو الثلوج في مملكة زيوس فالصيف المشرق اللّألاء خالد هناك. وفي الأسفل تتجمّع الغيوم فتحجب الأرض النائية أحيانا. وهناك فوق الأرض يخلف الخريفُ والشتاءُ الربيعَ والصيفَ كما تحلّ التعاسةُ والأحزانُ محلّ السعادة والأفراح (...) ومن جبل الأوليمب ينثر زيوس هباته إلى البشر (...) ويرسل إلى البشر السعادة والأحزان (...) هكذا يحكم زيوس المجيد، ربّ الآلهة والبشر، من فوق جبل الأوليمب، محاطا بأسراب الآلهة الوضاحين ساهرا على الشرائع والأنظمة في الكون بأسره. انظر الدكتور عماد حاتم: أساطير اليونان، الدار العربيّة للكتاب، ليبيا/ تونس، 1988، ص 36- 59. وانظر،أيضا، هوميروس: الإلياذة والأوذيسة، ترجمة: دريني خشبة، دار العودة، بيروت، 1986.2. قال الشابي تائقا إلى كشف لحظة البدء الأولى:
خُلقتَ طليقا كطيف النسيم ، و حرّا كنور الضحى في سماه تغرّد كالطير أين اندفعتَ ، و تشدو بما شاء وحي الإلهو تمرح بين ورود الصباح ، وتنعم بالنور ، أنّى تراه و تمشي، كما شئت، بين المروج، و تقطف ورد الربى في رُباه3. «وكلّ الدلائل تدلّ على أنّ العرب الشماليّين لم يتجمّعوا قبل الميلاد في وحدة سياسيّة تجمع شملهم. فقد كانت طبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتّت والتفرّق والانقسام.» د. شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربيّ، العصر الجاهليّ، ط24 ، دار المعارف، مصر، 2003، ص 31.4. نتحدّث عن عرب الشمال العدنانيّين، طبعا. قال عنهم د. شوقي ضيف: «هم العرب العدنانيّون الذين كانوا يقطنون الحجاز ونجد. وتمتدّ قبائلهم وعشائرهم إلى باديتي الشام والعراق. وقد ظلّوا يعيشون معيشة صحراويّة بدويّة تعتمد في أكثر الأحيان على رعي الإبل والأغنام. ولم تهيّئ لهم الحياة الاستقرار في سكنى دائمة إلاّ حيث توجد بعض الواحات في الحجاز.» المرجع نفسه.5. نسبة إلى عمر بن الخطّاب ثاني الخلفاء الرّاشدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.