هي طفلة دُرّة من العائلة... شَهِدْتُ منشأها، بل كما يقال شعْبِيًا عندنا.. ربّيْتُها على رُكبتي، تحبّني وتناديني عمّي.. لذلك حمّلَتْني ما قرّرت أن أفْرِغُه بين أيْديكُم دون علمها معشر القرّاء والمدوّنين على السّواء، فاقرؤوا ما ستخطّه يدي وصدّقوني إنّها الحقيقة المريرة.. ................ منذ شهور، كنت في عطلتي في الوطن، حين رأتني بعد سنين لم نلتق فيها، فقفزَتْ في عنقي كما تفعل حين كانت طفلة صغيرة أحمل لها الحلوى.. وبعد السّلام والسؤال عن الأحوال إنزَوَتْ بي عن الأعين و قالت لي: إسمع عمّي... قف معي أرجوك في معركتي مع عائلتي كي أتزوّج، فإنّني أكاد ألتَهٍمُ عُمري عزباء بلا رجل يحويني ومن غوائل الدّهر يحميني.. عمّي إجعل معركتي معركتك، وهمّي همّك، واحْمل جرحي في قلبك، فإنّي سألقي رِبْقتي في عنقك... يا حافظ القرآن إنّني أحمّلك مسؤوليتك أمام ربّك.. ......................... ثمّ اختنَقَتْ بغصّة في الحلق وانهمرت عيناها بالدّموع، ثمّ أنطلقَتْ في البكاء، حتّى طأطأت رأسها على ذراعي في نحيب لا يكاد ينتهي.. ثمّ بعد برهة تنفّستْ و اسْتأنفَتْ تحْكي لي، وأنا بدوري أواصل نقل الحكاية لكم.. قالت.. لقد ساموني سوء العذاب وأسمعوني أفحش الكلام طيلة هذا الصّراع معهم ثمّ استمرّتْ تقول: ألا يكفيني ، أنّني منذ تخرّجْتُ، وبدأت التّدريس في معهد قريتنا، وأنا أدْفع عنهم الفقر بكلّ ما أوتيت من قوّة و ضعف.. ساعدْتُ منهم، الّذي يدرس، والمريض، والمحتاج للتّنقل، وفارغ الجيب والملهوف.. ثمّ هم اليوم كلّهم يقفون صفّا واحد ضدّي لأنّني التفَتُّ إلى نفسي كي أبني ما بقي من حياتي... ثمّ قالت أتَذْكُر يا عمّي العزيز.. تلك الكيلومترات الّتي كنت أمشيها وأنا تلميذة إلى المعهد.. وفي بعض الأحيان تُدركني أنت بسيارتك فتحملني.. لقد عدتّ أقطعها وأنا أستاذة تحت لفْح الحرّ و المطر سنوات قبل أن أشتري هذه السيّارة المتواضعة.. لأنّني اخترت أن أدرّس في معهد قريتنا وأبقى إلى جنب عائلتنا.. وها هم الآن تغيّرت حالهم، وأصبح المنزل كبيرا وغُرَفُه عديدة، والحمّام.. وذاك الجرّار بمحاريثه تحت تصرّف أخي.. وذاك قطيع الأغنام في الزّريبة.. والمطبخ والأثاث... أمّا أنا فعليّ فقط تسديد القروض من مرتّبي.. في أثناء ذلك حجبوا عنّي يا سيّدي الخُطّاب سنينا وسنينا.. حتّى ذَهبَتْ ليونة جسدي ورقّة جلدي.. والآن باختصار.. في يدي رجُلٌ يضع قدميْه على أعتاب الشّيخوخة.. صحيح هو ضيّع عقودَ شبابه في اللّهو، وهذا ما يتعلّلون به في رفضهم.. لكنّه اليوم آيبٌ إلى الله، متّزن، ولا زال في صحّته، ويدير بعض أعماله الفلاحية في ضيعته، غير بعيد عن المعهد الّذي أدَرّسُ فيه، وها قد بنى لي بيتا جميلا.. في أرضه.. وهذا رقم هاتفه الجوّال فاتّصلْ به إن شئت وانظر في أمره.. ثمّ أضافت في لهجة فيها تحدّ.. هذا الرّجل أريده يا عمّي، أريده أريده أريده.. ولا أريد تظييع ما بقي من شبابي مثل أختَيّ اللّتيْن وللأسف تقفان اليوم بغير حقّ في وجهي.. فلا تتركني وحدي، أرجوك دافع عنّي، ذهبت سنين عمري.. ............ أعزائي.. تحرّكَتْ غيرتي.. وبشيء من التّحدّي بدأت أعدو بسيّارتي، طيلة عطلتي، وذهبْتُ أنقل المعارف والأصحاب والأعْيان إلى عائلتها "للجبْهيّة" والتّدخّل لإقناعهم بتركها وشأنها، وما اختارت لنفسها.. ثمّ اتّفق لهم أمام سعْيِي أن هدّأوا الميْدان، وقالوا لي إطمئنّ سننظر في الأمر حين يحين الأوان.. حتّى عدتُ إلى فرسا.. بعدها بلغني أنّهم ساموها سوء العذاب، وحجزوا هاتفها، ومفاتيح سيّارتها.. ثمّ بعد ذلك اختفت عنّي أخبارها... البارحة جاءتني أخبارٌ عن قصّتها.. أحزنَتْني و أبْكتْني.. فيا أصْحاب القلوب المرهفة أمسكوا أنفسكم لتواسوني في بليّتي في من أعتبرُها بُنيّتي.. الأخبار التي جاءتني تقول: إنّ "أرْوَى" تمكّنتْ منذ يومين، و بعد معاناة مضنية، من كتابة عقدها في مكتب البلدية على زوجها، بحظور نفر من أقاربها ولم تحظر عائلتها...! ........................ هنا قد تقولون لي: لقد أرْعَبْتنا على أروى، فأين المحزن في الخبر.. فما ذكرتَه مفرح على كلّ حال، حيث أن أروى كتبتْ صداقها وانتهى الأمر..! أجيبكم نعم.. هو مفرح على كلّ حال.. لكن "أروى" تمكّنت من ذلك بشروط يا جماعة، وهي التّالية: لقد ذهبت مع أخيها الأكبر وأختها الكبرى، وهما الجناح المتغطرس الرّاديكالي في العائلة، إلى عدل منفذ وكتبت لهم تنازلا عن الجرّار الفلاحي الّذي اشترتْه بقرض ربوي ولا يزال إلى الآن يدقّ عُنُقها، وكتَبَتْ لهم المحاريث و الغنم و كتبَتْ لهم منابها في الإرث ممّا تركه المرحوم أبوها من عقارات... و لكي أكون صادقا معكم، لا أدري هل تنازلت أيضا عن سيّارتها الشّخصية أم لا.. ثم انتِظروا من فضلكم لم أنته بعد من سرْد قائمة التّنازلات.. فقد تنازلت والتزَمَتْ أروى المسكينة شفاهيا، وهذا طبعا لا يكتبه عدولٌ، ولا يقبله ذوو عقول، عن حقّها في استقبال حنّتها في بيت والديْها و عن الخروج منه عروسا يوم الزّفاف.. ........... دعوني أكفكف دمعي وأقول: فقط " أروى" الطّاهرة الّتي التزمت بالأخلاق العالية والأصول الرّيفية طيلة معركتها مع عائلتها، لم تتنازل لهم من أن تُدفن في مقبرة القرية مع المسلمين إذا ما جاءت المنيّة.. أطال الله عمرها ورعاها.. فهل من بواكي يبكينني أو يواسينني ؟ مخلوف