مثلت ثورة 14 جانفي فرصة للخروج من عنق الزجاجة بالنسبة لعديد الأطياف العقائدية والسياسية في تونس، بما فيها الطيف السلفي عموما، وعلى وجه الخصوص الطيف السلفي الجهادي الذي حاول أن يجد له مكانا مميزا في المشهد التونسي ككل. اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا حاولت السلفية الجهادية في تونس التكيف مع الواقع الذي بات يخضع تشكله في جانب كبير منه للإرادة الشعبية، وسعت للنزول إلى الشارع والاختلاط بعامة الناس عن طريق عدد كبير من الحملات الإغاثية والدعوية والمؤتمرات الدورية، التي أثارت استياء قطاعات عريضة من "النخب الفرنكوفونية والعلمانية" بوصفها حملات تكرس "الرجعية" كما تهدد "الإسلام الزيتوني الوسطي" الذي يسود بلادنا منذ قرون. كما فتحت بعض المنابر الإعلامية أبوابها لممثلين عن التيار السلفي الجهادي، قابلتها "النخب الفرنكوفونية والعلمانية" بنفس الرفض والاستهجان. المهم أن السلفية الجهادية أصبحت تتمتع بحضور ملفت للإنتباه على مستوى الواقع المعيش وعلى مستوى الإعلام بكافة وسائله، وخرجت بذلك من ضيق العالم الإفتراضي (إنترنت، فايسبوك، تويتر)إلى سعة العالم الحقيقي. وفي هذا السياق، حاول العديد من منظري السلفية الجهادية التصدي لحملات "التشويه الممنهج" التي يشنها "الإعلام النوفمبري العلماني"، عن طريق عرض العقيدة التي تدين بها السلفية الجهادية على الجمهور، والتركيز على كون تونس إنما هي "أرض دعوة لا أرض جهاد".
هل تونس أرض دعوة أم أرض جهاد؟ على خلاف التيارات السلفية الأخرى التي تجمع على كون الجهاد الوحيد الممكن في تونس هو جهاد "الدعوة بالموعظة والكلمة الحسنة ورد الناس للعقيدة الصافية الخالية من الشرك والمحدثات، يشهد التيار السلفي الجهادي انقساما عند محاولة الجواب على هذا السؤال. فمن جهة صرح أبو عياض وغيره من زعماء السلفية الجهادية في تونس بأن تونس "أرض دعوة وليست أرض جهاد" كما حذر الشباب التونسي الذي يريد النفير لسوريا من أن هناك مؤامرة تريد إفراغ تونس من السلفيين الجهاديين، والزج بهم في أتون الصراع بسوريا. إلا أنه ومن جهة أخرى، عبر بعض المنتمين للتيار السلفي الجهادي في عديد الملتقيات الدعوية وعلى عديد الصفحات الفايسبوكية بأن تونس "أرض جهاد" وأن ما يؤخره إلى الآن هو انعدام العدة الكافية. واعتبر العديد من المراقبين ومنهم مشائخ سلفيون لا ينتمون للتيار الجهادي أن ملتقى القيروان الذي نظمته السلفية الجهادية في ماى 2012، والذي تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية العبارة الشهيرة التي رددها المشاركون فيه "أوباما أوباما كلنا أسامة" بمثابة إعلان حرب على دولة أجنبية انطلاقا من أرض تونس.
كما لفت انتباه المتابعين للمشهد السلفي في تونس التناقض في خطاب بعض المحسوبين على السلفية الجهادية، إذ بينما يشددون على أن تونس أرض دعوة في مواقفهم العلنية المغطاة إعلاميا، تجدهم على صفحات الفايسبوك يمجدون "العمليات الجهادية" في الجزائر واليمن ويحكمون بالشهادة لمن يقتل فيها من أعضاء تنظيم القاعدة، الشئ الذي قوى قناعة البعض بأن عبارة "تونس أرض دعوة وليس أرض جهاد" فيها بقية لم يتم الإفصاح عنها علنا وهي "في انتظار إعداد العدة اللازمة". السلفية الجهادية في أتون الصراع السياسي مثل ملف السلفية الجهادية ورقة استعملتها بعض التيارات السياسية ولا تزال من أجل تحقيق مكاسب. إذ تعتبر قطاعات واسعة من المعارضة أن السلفية الجهادية إنما هي "ذراع عسكري" لحركة النهضة تضغط به على خصومها السياسيين، في مقابل أن يمكنهم حزب النهضة من حرية الدعوة والنشاط. ومن جهة أخرى إعتبر بعض المراقبين ومنهم بعض المنتسبين لمشروع الحزب الحاكم أن السلفية الجهادية مخترقة من جهات تحمل أجندة علمانية تغريبية، تهدف ل"ضرب المشروع الإسلامي" عن طريق توظيف بعض المنتسبين إليه. وفي هذا السياق يتهم السلفيون الجهاديون حزب حركة النهضة بأنه بصدد التضحية بأبناء السلفية الجهادية عن طريق السجن والقتل والمضايقات المستمرة لكل من تبدو عليه أمارات الإلتزام من لحية و"قميص" ونقاب، في سبيل اثبات حسن النية للمعارضة داخليا وللقوى الغربية خارجيا، ونفى تهمة التورط في الإرهاب والتأكيد على "مفهوم الإسلام الحداثي" الذي يرضي خصوم حزب حركة النهضة. والسؤال المطروح: أى مستقبل للتيار السلفي الجهادي في تونس خاصة في ظل احتدام الصراع السياسي وتزامن الأزمات السياسية مع "عمليات ارهابية" يكون من أهم آثارها تحقيق أحد طرفي النزاع لمكاسب التي عجز عن تحقيقها باستخدام آليات العمل الديمقراطي؟
ماهر بن عبد الملك العباسي إعلامي تونسي مقيم بالدوحة