هذا مثل وضعه العرب لبيان أنّ الشيء الخفيف إذا أضيف إلى الحمل الثقيل فإنّه يكون سببا في قصم ظهر البعير، فرغم أنّ الشعرة لا تساوي شيئا مهمّا في وزنها، فإنّها زادت على الحمل إلى درجة أنّ البعير لم يعد بمقدوره أن يتحمّل أكثر فعجز بحمله وأدّى هذا الشيء الثقيل إلى قصم ظهره . هذا بيان تقريبي فيه توضيح للمثل الذي صدّرت به هذا المقال وقريب منه قول القائل " القطرة التي أفاضت الكأس " فالكأس لمّا كان ممتلئا، كان للقطرة الواحدة أن تفيضه . وإنّما دعاني إلى التمثّل بهذه الأمثال، ما ترامى إلى مسامعي من احتشاد آلاف من الناس، اجتمعوا في باحة جامع الزيتونة – جاؤوا من كلّ حدب وصوب – من أجل مشاهدة شعرة – أُدّعي أنّها من شعرات الرسول صلى الله عليه وسلّم، وصدمني - شديد المصادمة – أن يكون اهتمام الأمّة وتطلّعها لمستقبل دينها قد تدنّى إلى هذا المستوى الذي قصُر عن المطلوب، فلقد كان الجامع المعمور يغصّ بأهله من العلماء والنسّاك وطلبة العلم مشتغلين ببيان معاني القرآن وشرح السنّة والاجتهاد في الفقه وبيان آداب الشريعة وحكًمها، فأصبح يغصّ بالسائلين عن الشعر، المُشتغلين بالتفث . إنّ الأمّة الإسلامية - والشعب التونسي جزء منها – مطالبة برفع التحدّيات الملقاة عليها من تغوّل الحضارة الغربية وهيمنة خطابها الفكري، وانتشار نمطها الحضاري المعروض على الإنسانية بمؤسساتها المختلفة، التنفيذية والقضائية والتشريعية وتمكّن اقتصادها القائم على المبادلة الحرّة والمطلقة . ولايمكن التعامل مع هذه الحضارة الغالبة إلا ببرامج متكافئة في جميع المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية ولكن - ويا للأسف – فالأمّة ليست في مستوى هذه التطلّعات، ولقد نبّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أنّ الأمّة في حال ضعفها ستتداعى عليها الأمم، وأنّ الناس في زمان الضعف والهوان، يكونون كحثالة التمر أو الشعير لا يبالي الله بهم بالا ، فأقول لهؤلاء الذين تجمّعوا في جامع الزيتونة ينتظرون رؤية شعرة كاذبة، ولو كانت حقّا ما أغنت عنهم شيئا . إنّ الذي يُغني في هذا الزمان هو كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، إنّ الذي أدْعى أن يُهتمّ به هو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم عليم وإنّ الذي أدعى أن يُنظر إليه وفيه ويُقتبس منه، القرآن، نور الله الأزليّ الذي هو بين أيديكم وفي بيوتكم، الكتاب الذي بذل من أجله الصحابة أعمارهم، فدوّنوه وجمعوه وحفظوه وحافظوا عليه وتلوه حقّ تلاوته، وتدبّروا آياته، ولكنّكم ضيّعتم الكتاب وانشغلتم عن السنّة وعن تعلّمها وتدبّرها والاستفادة من مواعظها وأتيتم مهرولين تبحثون عن شعرة، أيّمتكم وعامتّكم سواء . إنّ الشرع هو حبل الله المتين – وليست الشعرة – وهو أيضا حبل النجاة في الدنيا والآخرة فانتبهوا أيّها الغُفّل من سبات الجهل والخرافة، واستعيدوا وعيكم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي " ولم يقُلْ صلى الله عليه وسلّم : تركت فيكم شعرتي وقميصي، فأصلح الله حالكم وهداكم لرشده، إنّه إن يشاء قدير . لقد مرّ على وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر من ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين عاما، يصدأ فيها الحديد وتنخر فيها العظام، وتمّحي فيها الآثار، ويصير فيها كلّ شيء إلى البلى، فهل يعقل أن تبقى على طول هذا الزمان المديد، شعرة أو شعرات من شعره صلّى الله عليه وسلّم، تحافظ عليها الأمّة وهي التي أضاعت ما هو أعظم من ذلك وأجلّ قدرا، وقد يعترض معترض فيقول أخذ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه شيئا من شعره، وأنّه فرّق على الناس شيئا من شعره كما هو في صحيح البخاري في " كتاب الوضوء " ، وكما هو في صحيح مسلم في " كتاب الحجّ " من رواية أنس بن مالك، فإنّ هذا لا ينكر، وكذلك فعل معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – وأمر أن توضع الشعرات في كفنه عند دفنه، وكذلك فعل كلّ من أخذ شيئا من متاع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، تبرّكا منه وحبّا للرسول، ولكن هذا الأمر انقضى في الزمان الأوّل أو في الزمان الذي يليه لانتهاء هذه الشعرات بدفنها في أكفان الذين أخذوها من الحلاّق . ثمّ أقول لهؤلاء أين درع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وترسه وهما من الحديد وهما أعظم وأضخم بآلاف المرّات من الشعرة وهما أجلّ متاعا لاستعمالها في الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه، وأين رماحه وقسيّه التي تكون أثبت في البقاء من شعرة تحتاج إلى ثاقب بصَر للتثبّت فيها، وأين مشط رسول الله الذي كان يمتشط به، وكان من العاج وهو أنفع وأفيد من شعرة وأين مكحلته ومرآته وقدحه، كلّها انقرضت وانقرض ما هو أعظم منها، ولم تحافظ الأمّة على شيء منها لأنّها لا تُساوي شيئا، فكيف تُحافظ على شعرة من شعره . لقد حافظت الأمّة في بداية أمرها وأوج قوّتها على هديه وعلمه وأدبه وسيرته وتعاليمه للناس، ونقل الصحابة علوم الشريعة بضبط وإحكام . وأعود فأقول لهؤلاء : أين خفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونعله وأين الخمرة التي كان يصلّي عليها، ولو كان شيء حقيق أن يحتفظ به، لاحتُفظ بهذه الخُمرة التي كانت تُبسط لسجوده، وأين هو فراشه، وأين هي وسادته التي كان يضع عليها رأسه إذا نام، وأين هي أثوابه وعباءته وبُرده وقميصه ؟ وكلّ هذه المذكورات أعظم مظهرا وأشدّ حاجة وأجلّ أثرا من شعرة، ولم يبق منها شيء . ولكن الأمّة كلّما تردّت وهانت، تركت قيمها وشرائعها وتعلّقت بالشّعَر، تعلّقت بالتَفث الذي أمر الله تعالى عباده عند القيام بالمناسك بقضائه، قال تعالى " ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نُذورهم وليطوّفوا بالبيت العتيق " سورة الحجّ، آية 29 . وقد قال أكثر أيمّة اللغة كأبي عبيدة والفرّاء والزجّاج : التفثُ هو قصّ الأظافر والأخذ من الشارب ونتف الآباط وكلّ ما يحرم على المحرم من حلق الشعر وتقصيره وغيره، وهذا هو قول عكرمة ومجاهد من أيمة التفسير وبه قال الحسن البصري وهو قول مالك بن أنس – رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم – وإذا كنتم تريدون الحديث عن " الشعرة " بإطلاق، فها أنا أخبركم عنها، ضرب بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلا في الجسر المنصوب على جهنّم، الذي سيمرّ فوقه الخلق يوم القيامة، فقال " إنّ الجسر أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف ( صحيح مسلم : كتاب الإيمان 2- 3 ) وتحدّث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن عدد المسلمين بالنسبة إلى الكفّار يوم القيامة فقال : " ما المسلمون في الكفّار إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود " ( صحيح الترمذي : كتاب الجنّة 13 ) فآحرصوا أيّها المسلمون – وفّقكم الله - على العمل الصالح وبادروا به وآنشطوا لتحصيله، فإنّه حبل الله المتين الذي من تعلّق به نجا، ومن تمسّك به غنم، وآتركوا ما يُراج من خبر الشّعرة، فإنّ وراءها أهل الدّجل، وإنّها لا تُغني عنكم شيئا، فلا تتعلّقوا بالأوهام، وآعلموا أنّ الإيمان لا يحصل إلا بثلاث دعائم، اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، فمّن اعتقد أنّ الشعرة سبيل النجاة، فلا كان، ولا كانت النجاة . وأختم بما بدأت به، وهو أنّه غريبٌ أمرُ هذه الشّعرة قصمت ظهر البعير وهي اليوم تقصم ظهر الأمّة . ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم . ------------------------- د . هشام قريسة جامعة الزيتونة نقلا عن موقع الدكتور قريسة