عاجل: كل معاملاتك في السجل الوطني للمؤسسات تولي إلكترونية قريبًا.. شوف التفاصيل    عاجل/ تفاصيل جديدة عن حادثة وفاة امرأة اضرمت النار في جسدها بأحد المعاهد..    الحماية المدنية: 537 تدخلا منها 124 لاطفاء الحرائق خلال الاربع والعشرين ساعة الماضية    حبوب: البنك الوطني الفلاحي يرفع من قيمة التمويلات لموسم 2025/ 2026    قبلي: انطلاق التحضيرات الاولية لانجاز مشروع الزراعات الجيوحرارية بمنطقة الشارب    عاجل : وزير النقل يضع مهلة ب15يوما لضبط روزنامة برامج عمل    عاجل: أسباب إرتفاع اسعار لحوم الدجاج في تونس    تونس تقفز 3 مراكز في تصنيف الفيفا بعد تأهلها لمونديال 2026... وهذا هو الترتيب    الملعب التونسي يفسخ عقد الياس الجلاصي    كرة السلة - شبيبة القيروان تتعاقد مع النيجيري فرانسيس ازوليبي    اللاعب التونسي نادر الغندري في موقف محرج مع مشجّع روسي ...شنية الحكاية ؟    الغنوشي: '' البشائر تتأكد شيئا فشيئا خصوصاً بالشمال والوسط الأسبوع القادم.. وكان كتب جاي بارشا خير''    اجتماع بمعهد باستور حول تعزيز جودة وموثوقية مختبرات التشخيص البيولوجي    علاش لثتك منتفخة؟ الأسباب والنصائح اللي لازم تعرفها    عاجل: ليبيا تفرض فحوصات إجبارية لكل عامل أجنبي بعد اكتشاف حالات مرضية    "يخدعني ويخلق المشاكل".. المعركة الكلامية تحتدم بين ترامب ونتنياهو    تونس تشارك في بطولة العالم للتجديف أكابر بالصين بخمسة رياضيين    سليانة: رفع 372 مخالفة اقتصادية منذ شهر أوت الماضي    عاجل/ غرق 61 مهاجرا غير شرعي اثر غرق قارب "حرقة" قبالة هذه السواحل..    عاجل/ مجلس الأمن الدولي يصوّت على مشروع قرار جديد بشأن غزة..    رابطة ابطال اوروبا : ثنائية كين تقود بايرن للفوز 3-1 على تشيلسي    عاجل/ بطاقة ايداع بالسجن ضد رئيس هذا الفريق الرياضي..    اللجنة الأولمبية الدولية تدعو المبدعين لتصميم ميداليات أولمبياد الشباب داكار 2026    توقّف العبور في راس جدير؟ السلطات الليبية تكشف الحقيقة!    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ تقلبات جوية وأمطار بداية من هذا التاريخ..    الموت يغيب هذه الإعلامية..#خبر_عاجل    هام/ وزير التجهيز يشرف على جلسة عمل لمتابعة اجراءات توفير مساكن اجتماعية في إطار آلية الكراء الممللك..    عاجل: بذور جديدة وتطبيقات ذكية لمواجهة الجفاف في تونس    200 حافلة حرارية جايين من جنيف.. تحب تعرف التفاصيل؟    وفاة الإعلامية اللبنانية يمنى شري بعد صراع مع المرض    في بالك الى فما مكوّن سرّي في زيت الحوت... شنوة يعمل في جسمك؟    بلعيد يؤكد خلال الدورة 69 للمؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذريّة حرص تونس على مواصلة التعاون مع الوكالة    التنسيق الثنائي في عديد المسائل ،والتوافق حول أغلب القضايا الإقليمية والدولية ابرز محاور لقاء وزير الدفاع بولي عهد الكويت    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    أول سيناتور أمريكي يسمي ما تفعله إسرائيل في غزة "إبادة جماعية"    جدال في بنغازي: شنوّا صار بين هادي زعيم والإعلامية المصرية بوسي شلبي؟    مشادة بين هادي زعيم وبوسي شلبي خلال مؤتمر الإعلام العربي في بنغازي    عاجل: عامر بحبّة يبشّر التونسيين...''منخفض جوي كبير باش يضرب تونس في آخر سبتمبر''    اللجنة الوطنية للحج تستعدّ لموسم 1447ه: ترتيبات متكاملة لضمان أفضل الظروف للحجيج    فرنسا على صفيح ساخن: مليون عامل إلى الشارع لمواجهة سياسات ماكرون    اريانة: جلسة عمل اللجنة الجهوية لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة    ترامب يصنف "أنتيفا" منظمة إرهابية كبرى بعد اغتيال حليفه تشارلي كيرك    تونس ضيفة شرف مهرجان بغداد السينمائي...تكريم نجيب عيّاد و8 أفلام في البرمجة    السبيخة ..الاطاحة ب 4 من مروجي الزطلة في محيط المؤسسات التربوية    تنظمها مندوبية تونس بالتعاون مع المسرح الوطني...أربعينية الفاضل الجزيري موفّى هذا الأسبوع    من قلب القاهرة... عبد الحليم حافظ يستقبل جمهوره بعد الرحيل    القمة العالمية للبيوتكنولوجيا: وزير الصحة يعلن بسيول إطلاق مركز وطني للتدريب البيوطبي لتعزيز قدرات إفريقيا في إنتاج الأدوية واللقاحات    فتحي زهير النوري: تونس تطمح لأن تكون منصّة ماليّة على المستوى العربي    شهر السينما الوثائقية من 18 سبتمبر إلى 12 أكتوبر 2025    سورة تُقرأ بعد صلاة الفجر لها ثواب قراءة القرآن كله 10 مرات    جريدة الزمن التونسي    طقس اليوم: سماء قليلة السحب    بنزرت: إصابات خفيفة في انقلاب حافلة عمّال بغزالة    جريدة الزمن التونسي    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم: دروس ومعان وعبر في ذكرى ميلاد دولة الاسلام
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

تحلّ ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة الاسلامية كأبرز محطة في تاريخ المسلمين. هذه الذكرى السامية المليئة بالمعاني والعبر والدروس التي يجب أن نعيد قراءتها اليوم في ظل ما يتعرض له الاسلام من تشويه مقصود من قبل أعدائه.
«الشروق» تنشر في هذا العدد عددا من المواضيع الخاصة بهذه الذكرى المجيدة...
* تحتاج الى إعادة بيان معانيها في هذا العصر: الهجرة مليئة بالأحداث والدروس والعبر
الهجرة النبوية كانت ولاتزال لحظة فارقة، وواحدة من أهم المحطات في حياة الاسلام والمسلمين، فهي باستمرار تتدفق بالمعاني والعبر والدروس، بل هي تجدد وعينا ونحن نعيش حالات من الصراع لم يشهد التاريخ مثلها.
والهجرة مليئة بالاحداث التي تحتاج لاعادة قراءة ليستعين بدروسها المسلم في هذا العصر حيث تتزايد المخاطر التي تحيق بالاسلام والمسلمين.
ويكفي أن يتوقف المسلمون أمام واحدة من أبرز عبر الهجرة النبوية ودروسها وهي مواجهة الخطط التي تحاك للمسلمين، فقد أخذ المهاجرون يتركون مكة تباعا حتى كادت تخلو من المسلمين، وشعرت قريش بأن الاسلام أضحت له دار تحميه، فتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وقررت قتل النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء على الدعوة.
خطط المشركون لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وللقضاء على دينه وإسلامه. وخططوا للوقوف في وجه قضاء الله سبحانه وتعالى. فماذا كانت عاقبة خططهم التي لم ينقصها تدبير مدبّر من البشر، ولم تنقصها أداة من أدوات المكر، ولم تنقصها حيلة من حيل العقل؟
يقول الله عز وجل: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} (الانفال: 30). ويقول أيضا في المعنى ذاته: {أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون، أم يحسبون أنّا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلُنا لديهم يكتبون} (الزخرف: 79 80). (أم أبرموا أمرا)، أم أحكموا خطتهم، وأحكموا مكرهم (فإنا مُبرمون) نحن أيضا أبرمنا وأحكمنا خطتنا. فأي الحكمين المبرمين ينفذ؟ ما قيمة مكر المشركين وخططهم التي وضعوها للقضاء على الاسلام من حيث القضاء على الرسول ص، للقضاء على رحمة الله المهداة الى هذه الانسانية عامة؟ باءت خططهم بالفشل، باءت خططهم بالانمحاق والزوال، وأنفذ الله عز وجل حكمه. ولا داعي الى التفصيل، فالجميع يعلم نبأ الهجرة وكيف كانت بوابة الفتح الاسلامي الى مشارق الارض ومغاربها وشمالها وجنوبها.
ويناشد المسلمين أن يستفيدوا من هذه العبرة وأن ينظروا كم يؤكد ويكرر بيان الله سبحانه وتعالى هذا المعنى، لكي لا ننسى، أن أعداء الله عز وجل لا تخلو منهم الارض. تلك سنّة قضى الله عز وجل بها ومن ثم فإن خططهم مستمرة لا تنقطع. لكن أي الخطتين تنفذ؟ وأيهما تبوء بالزوال والمحو؟
ولو عدنا الى تاريخ المسلمين مع الاسلام لوجدنا جوانب الدنيا ولا نقول التاريخ أجمع توقع على بيان الله عز وجل: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}.
ومن يرتاب في قرارات الله وحكمه فليعد الى سيرة الهجرة النبوية، فليعد الى ظاهرة الهجرة في مقدماتها ثم لينظر الى نتائجها، فقد نفض المسلمون أيديهم من الدنيا وزخارفها ومتاعها ومتاع الغرور كما وصف الله سبحانه وتعالى واتجه كل منهم الى ربه وكأنه يقول: (وعجلتُ إليك رب لترضى). هذه المقدمة، فماذا كانت النتائج؟ كانت النتائج أن أعاد لهم الله الوطن الذي سُلب ومعه أوطان كثيرة أخرى، أعاد لهم الله الاموال التي استُلبت منهم بل التي تركوها وراءهم ومعهم كنوز من الاموال والمدّخرات الاخرى، وجعل لهم من هذا الدين شعاعا كشعاع الشمس يمتد يمينا وشمالا وشرقا وغربا وجنوبا في كل أنحاء العالم، تلك هي شجرة الهجرة في جذعها الراسخ وتلك هي ثمراتها في نتائجها المورقة المثمرة العظيمة. فليعتبر المسلمون.
* التقويم الهجري تنظيم للعبادات وتذكير بالتاريخ
أربعة عشر قرنا وأربع وعشرون سنة كاملة مرت على هجرة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من مكة المكرمة إلى يثرب، إيذانا بميلاد الدولة الإسلامية الموحدة، التي انطلقت من المدينة المنورة لتنشر نور الإيمان في كافة أرجاء الأرض شرقا وغربا.
ولم يكن التقويم الهجري بالنسبة إلى المسلمين مجرد أرقام وأسماء شهور. إنما هو دلالة أكيدة على ارتباط الأمة بتاريخها. وسمة متميزة فارقة بارتباط عباداتها ومناسكها بقمرها وهلالها. الذي بظهوره يبدأ شهر وينتهي آخر، وفقا لمنازل وأطوار قدرّها العزيز العليم.
يقول المولى عزّ وجلّ {إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشرا شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} «التوبة/36». هذه الآية الكريمة تدل على أن الشهور المعتد بها، التي ينبغي أن نعمل من خلالها ونتخذ محطات ومواقف في حياتنا الفردية والجماعية ونؤرخ بها لأيامنا وشهورنا وأعوامنا كل شؤوننا إنما هي الأشهر الهجرية التي يرجع إليها تاريخ المسلمين، لأن الآية الكريمة بينت الأشهر الحرم وأكدت تميزها ومكانتها.
حاجة
وكان أول بدء العمل بالتاريخ الهجري في زمن سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وذلك لأن الحاجة قبل ذلك لم تكن داعية إليه في بداية الإسلام، وزمن النبي (صلى الله عليه وسلم). وأبي بكر (رضي الله تعالى عنه). وعندما دعت الحاجة إلى وضع تاريخ ثابت وعام للمسلمين جميعا، وقت أن توسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وفتحت الشام والعراق ومصر، وغيرها من البلدان فرأى أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة الأجلاء (رضوان الله تعالى عليهم)، الحاجة إلى وضع تاريخ يكون نابعا من الإسلام، منبثقا من هذا الدين، مذكرا بمعالمه وأيامه العظيمة في بداياته، فرأوا أن يبدأ من هجرة النبي (صلى الله عليه وسلم). لأنه بالهجرة بدأت دولة الإسلام في التكون والنمو والتأسيس والقوة، بينما مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يشير الى القوة الفورية ولا إلى الدولة الموحدة الحاضرة. وكذلك بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم)، لا تشير أيضا إلى واقع حاضر سريع، من الاستجابة وتأسيس المجتمع المسلم المتكامل وقت البعثة. إنما الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هي التي تشتمل على الأرض التي استطاع المسلمون من مهاجرين وأنصار أن يقفوا عليها دون منازع وأن يكوّنوا دولتهم دون عقبات داخلية.
ومعلوم أن المسلمين توافدوا وتقاطروا على المدينة مهاجرين أفرادا وجماعات منذ بداية السنة الهجرية، وإن كان النبي (صلى الله عليه وسلم). خرج من مكة في ربيعه الأول. ولكن نظر الصحابة الى شهر الله المحرم، فرأوا فيه بداية عظيمة كريمة. فاتفقت كلمتهم وأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا من المحرم بداية العام. ويجعلوا من هجرة النبي المعظم بداية التاريخ الإسلامي العظيم.
وهذا الأمر من الصحابة، الذي أخذ شكل الإجماع والاتفاق على جعل تاريخ خاص بأمة الإسلام في الوقت الذي كان من قبلهم يؤرخ بمولد المسيح (عليه السلام) والإسلام وهو يعترف بالأنبياء لكنه إذا جاء نبي فهو يرث ما تركه النبي الذي قبله، ويكون أمر الدعوة الى الذي بعده، ويتجه الخطاب الى الناس بوجوب اتباعهم النبي الجديد ووجوب تركهم كل ما سبق أيام التشريع الجديد.
وقفة إيمانية عاقلة
وإذا أردنا أن نقف وقفة ايمانية عاقلة في بداية كل عام نجد أن كل شيء له بداية، لا بد أن تكون له نهاية. وأن العام الذي ينصرم يطوى ولا يعود. كذلك الشهر واليوم. وقد ورد في بعض الآثار، أن اليوم الذي يطلع علينا فجره ينادي كل إنسان : أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد. فاعمل فيّ صالحا فإني لا أعود.
ففي بداية العام ونهايته ومرور الأيام والشهور والأعوام عبرة للإنسان العاقل ليحاسب نفسه كل يوم على ما عمل. وكل شهر على ما أنجز وكل عام على ما قال وفعل. حتى يستغفر عن التقصير. ويطلب المزيد من الخير. وتنشط نفسه في بداية كل عام بجذوة الأمل نحو العمل. ويريد أن يكون عامه الحالي خيرا، وأفضل من عامه الماضي والخيرية هنا في مجال مرضاة الله. والتزود للحياة الباقية. ونبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول : «من استوى يوماه فهو مجنون» بمعنى أن الذي لا يزداد يومه خيرا وعملا صالحا على أمسه فهو خاسر فكيف بالذي يستوي عاما. بحيث لا يزداد في هذا العام على عامه الماضي خيرا ولا صالحا؟ بل كيف بمن ينتكس ويتراجع ويقصر في عامه الحالي عن عامه الماضي. فهو أعظم من الخاسر وأشد من المحروم لذا ينبغي على كل عاقل أن يراجع حساباته وأن ينظر في أيامه وشهوره وعامه الذي مضى وأن يعاهد ربه على السعي الحثيث نحن الخير والفضيلة والعلم النافع والعمل الصالح.
* هجرة أم سلمة نموذج للتضحية
من أعظم الدروس والعبر التي تجلت في عملية الهجرة التضحية في سبيل الله، حيث ترك المسلمون الأوائل بيوتهم وزوجاتهم وأموالهم وأولادهم وعشيرتهم مهاجرين إلى الله، وهل هناك أعظم من هذه التضحية في سبيل الدين؟ دلالة على أن الدين والمعتقد أعز وأغلى من كل ما سبق، يضحي المسلم السوي بكل ما يملك من أجل سلامة دينه وسلامة معتقده، وهذا ما يجب على المسلمين فهمه اليوم وهم يواجهون أشد المؤامرات وأبشع الجرائم المستهدفة دينهم وإنسانيتهم وأوطانهم. ومنها نموذج «أم سلمة» التي هاجرت مع زوجها وابنها وهم أوائل أهل بيت هاجروا وزوجها لما رآه أصهاره مرتحلا بأهله قالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها! أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته! وغضب آل أبي سلمة لصاحبهم فقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها اذ نزعتموها من صاحبنا! وتجاذبوا الغلام بينهم! وانطلق أبو سليمة مهاجرا وحده إلى المدينة، وحبست أم سلمة عند قومها وأخذ قوم أبي سلمة الولد! وظلت هي وحيدة تبكي ابنها وزوجها لمدة سنة حتى سمحوا لها بالهجرة. فخرجت بولدها تريد المدينة وليس معها أحد. وفي الطريق لقيها عثمان بن طلحة، وكان مشركا فأخذته مروءة العرب ونخوتهم فانطلق بها يقودها إلى المدينة، كلما نزل منزلا استأخر عنها مروءة، فلما وصل قباء قال : زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة. فكانت أم سلمة رضي الله عنها تقول : والله ما أ علم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة. وما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان بن طلحة.
قصة هجرة عجيبة، وأعجب منها موقف ذلك المشرك الذي صاحب هذه المرأة المسلمة التي ليست على دينه ليوصلها، وأحسن معاملتها ، وغض بصره عنها طيلة خمسمائة من الكيلومترات قطعها في أيام، ثم عاد إلى مكة دون راحة، إنها سلامة الفطرة التي قادته أخيرا إلى الإسلام بعد صلح الحديبية.
* وهذا نموذج آخر من تضحيات المهاجرين: صهيب... ضحّى بكل ما له ليربح دينه...
هناك نموذج آخر من تضحيات المهاجرين في سبيل الله، وقد تجسد في هجرة صهيب رضي الله عنه فعندما أراد الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم! قال : فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صل الله عليه وسلم فقال : ربح صهيب.
ويوضح الدكتور أحمد الطيار الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الإمارات دروسا أخرى من الهجرة من أبرزها : أن الدعوة الإسلامية كانت تساير الأحوال العادية للناس، وتجري على حسب الأحداث الطبيعية للبشر التي ترتبط فيها الأسباب الظاهرة بمسبباتها. ويظهر فيها التفكير والاجتهاد ولم يكن اعتماده على الآيات الكونية الخارقة للعادة. التي تفوق مقدور البشر، ومن ثم فإن النتيجة الطبيعية لمقاومة الدعوة، مع الغلو في إيقاع أشد الأذى بالداعي، هي الهجرة الى البلاد التي تفتح صدرها للدعوة وتكرم صاحبها.
وتبين أيضا رباطة جأش النبي صلى الله عليه وسلم وثباته وحسن تدبيره وقت ترقب الشبان حول داره، فقد اختار علي رضي الله عنه لينام مكانه، ويتضح حسن التدبير والتخطيط أيضا في تلطفه في الخروج حتى لا يشعر به الراصدون وسلوكه طريقا غير مطروق كثيرا، واختبائه في الغار ثلاث ليال، وهي المدة التي يغلب الظن فيها أنهم يطلبونه ثم يتسرب اليأس الى نفوسهم.
ويؤكد الدكتور الطيار أن الهجرة كانت لحظة فارقة وبداية عهد جديد لظهور قوة الإسلام وانتشاره بسرعة فارقة بعد أن مضت عليه 13 سنة، عانى خلالها المسلمون أشد أنواع المعاناة من المشركين وكان الرسول فيها ممنوعا من الجهر بالعبادة، مما اضطر بعض المسلمين الى الهجرة الى الحبشة، ثم بعد ذلك إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه العبر التي نحن في أشد الحاجة اليها اليوم تجربة المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين. فهذه التجربة نحتاج اليوم لتجسيدها في شكل التعاون والتضامن هي خير معين للمسلمين في هذا العصر الذي تشتد فيه التحديات التي تجابه أمتنا من كل صوب.
* ... ونام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكاد التاريخ ينطق بأن السر في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم انما هو ائتمان قومه به، بعد أن أفرغوا كل ما في جعبتهم من وعد ووعيد، وجفاء وتهديد، بغية نزوله على إرادتهم، وعدم تعريضه بتسفيه أحلامهم وسب آلهتهم، تلك الأحجار التي عكفوا على عبادتها، يسجدون لها من دون الله الواحد القهار، الذي يدعوهم إلى عبادته وحده. فما استكان ولا ضعف، بل أرسلها حكمة خالدة سمع دويها في الآفاق : «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».
كل ذلك والقرآن يتحداهم ويكشف أسرارهم بأسلوب معجز قاهر فلم يكن ثمة من بد من اجتماعهم في دار ندوتهم، ليقرروا رأيهم الأخير في محمد، هذا الذي غلبهم أمره. وهناك اجتمعوا، وتبودلت الآراء، فمن قائل : نصلبه، ومن قائل : نكتفي بنفيه من ديارنا! ومن ثالث يقول : بل نقتله! وأخيرا أجمعوا أمرهم على اختيار شاب قوي من كل قبيلة ليضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، وعندئذ لا تقوى بنو هاشم على الأخذ بثأره.
فما راعهم إلا نزول الوحي الكريم، بقوله تعالى : {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين}.
من هنا فشل تدبيرهم، حتى كانت الليلة التي تواعدوا فيها على تنفيذ جرمهم الفظيع. فأناب صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فنام على سريره، وحينئذ كان القوم قد تجمعوا حول بيته صلى الله عليه وسلم ليفتكوا به. فخرج تحوطه عناية الله، ووضع التراب على رؤوسهم ولم يره أحد منهم. وكان خليله أبو بكر في انتظاره وقد أعد راحلتين للسفر بهما إلى المدينة. فسارا حتى وصلا غار ثور ودخلا فيه ليستريحا بعض الشيء ثم يستأنفا السفر إلى المدينة من جديد أما القوم فإنهم لم استطالوا خروجه صلى الله عليه وسلم اقتحموا الباب، فوجدوا النائم علي بن أبي طالب لا محمد بن عبد الله! فجن جنونهم وراحوا يبحثون عنه هنا وهناك. ومن عجيب أمرهم أنهم وصلوا الى الغار الذي نزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقفوا عليه ينتاجون مدة. هل يكون فيه، أم لا؟ فأعمى الله أبصارهم عنه وانصرفوا صرف الله قلوبهم. وكان أبو بكر يسمع نجواهم وهو في غاية الحزن والإشفاق، من أجل حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي يطمئنه بقوله : لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما : «ثان اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا...» الآية.
أما أهل المدينة فإنهم لما علموا بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلأت قلوبهم فرحا وسرورا وإذ بمناديهم ينادي : يا أهل يثرب هذا حظكم الذي تنتظرونه قد أتى. فتسابق الجميع زرافات ووحدانا، رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا واستقبلوا رسول الله استقبالا رائعا حتى إن الجواري كن يعزفن على الدفوف ويغنين هذه الأنشودة الخالدة :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع
وأحاطوا بالرسول إحاطة الهالة بالقمر، والكل يأخذ بزمام ناقته، وكان قد نزل بقباء، وبنى مسجده الذي أسس على التقوى من أول يوم. ثم أخذ يؤاخي بين المهاجرين والأنصار ويعقد بين كل اثنين منهم أخوة لا تقل عن أخوة النسب إن لم تفضلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.