عاد الرجل المكدود من عمله على الساعة السادسة مساء كعادته كل يوم . سأل الله خير المولج وخير المخرج ثم سلّم فلم يسمع للقوم ولو همسا . ظن أن العائلة قد غادرت البيت لشأن طارئ ،لكنه ما إن تجاوز عتبة غرفة الجلوس حتى ألفى زوجه مغروسة برأسها في الحاسوب المحمول . رفعت رأسها وعاجلته بنظرة ثم واصلت عملها دون أن تنبس ببنت شفة. اقترب منها وكرر السلام - حياكِ الله يا حبيبتي ،عساك تكونين بخير؟ ولكن المرأة أشارت بيدها قائلة" ولك ما قلت إن الطعام في الثلاّجة وعليك أن تتخيّر ما تريد تناوله" ثم انكفأت على الحاسوب من جديد . عاود بسؤال عاجل وهو يجرّ خطاه نحو الثلاجة : أين الأبناء ؟ ولكنها لم تعره ولوبنظرة . حوقل المسكين وتناول طعاما ووضعه في "فرن التسخين" علّه يقيم به أوده . ولم تكد الملعقة تلامس شفتيه حتى أوقفت سيرها قهقهة متحجرشة تخللتها غمغمة فهم بعض مما انبهم من ألفاظ " ما تحبش تكنتكتيني !انفوا على الويتس أب " وفهم الأب أن قصد المقهقه" لا تحب الإتصال بي إذا ابعث لي عن طريق الwhatsapp " واتجه نحو مصدر الصوت فوجد أحد أبنائه يمسك بجهاز هاتف جوال متطوّر وهو متواصل في ضحكاته وهو يفطح ركبتيه بكلتي يديه تارة وملوحا بهما يمنة ويسرة تارة اخرى كطير خبْل لا ينفك عن الصياح . تقدّم الوالد من ابنه مربّتا على كتفه عساه يلتفت إليه لكن الولد عاجله بالإخبار من أن أمه في قاعة الجلوس وهو مشغول بموضوع مهم مقطعا خطابه لأبيه بحديث خارجي "لست معك يا غبيّ" ولم يخبَر الأب عمن يقصد لأنه رأى أن المسكين شارد ولا يدري ما يقول فذلف خارجا وأغلق باب حجرة ابنه وهو يسترجع . وما إن توسط ردهات البيت حتى تناهى إلى سمعه صوت لا هو بالرنيم فيستساغ ولا هو بالواضح فيستطاب ، "ما لهؤلاء قد أصابهم الهوس " همهم بها الأب وهو يستقصي مصدر الصوت . - تا... ترتّا تا ... أولي ..أولا ... ها هي ... - هاها يا بنات بلادي يا وزانا طفق الأب ابنته تترنم بهذه الكلمات المتقطعة التي لا يصل أوّلها آخرها . تراجع كي لا يحرج ابنته وهي في حالة "حلول" وتبدو منسجمة مع نفسها . جلس على كرسي وجده في طريقه واضعا رأسه بين يديه وهو يفكّر في المشاهد التي مرت عليه وكأنه في حلم . -هل هذه هي حياتنا التي نعيش وكل واحد يعيش في جزيرة منعزلة ؟ هكذا أراد أن يفكر بصوت عال فردت عليه زوجه أن الأمر ليس جديدا فهذه حياتنا وهذا ديدننا كل يوم. يا هذا لقد دخلت عليها التكنلوجيا بيوتاتنا وصار الأمر مشاعا وسن لنا علاقات بيننا وبين أبنائنا ودفعنا دفعا نحو قطيعة بينهم لم نخترها فقاطعها متسائلا :" ترى أين الخلل ؟ هل منا نحن ؟ أم من المحيط الذي نعيش ؟ هل علينا أن نفهم زماننا ونستوعب ونعيش واقعنا؟ هل حق لنا أن نقول إن مفاهيم جديدة قد دخلت علينا في فترة زمنيّة قصيرة ؟ وبالتالي علينا أن نحسن التعامل معها كي لا نصل إلى وقت سيتولى فيه أبناؤنا تربيتنا وتوجيهنا؟ وأردف قائلا لزوجه ماذا لو قمنا سويّة بحركة نلفت بها انتباه الأبناء وهم يقبعون كما يقبع الفئران في جحورهم؟ غالبت الأم نفسها بابتسامة عريضة وأومأت برأسها أن كيف ذلك؟ وبسرعة البرق توجّه نحو جهاز التوجيه وقطع الإتصال عن الإنترنيت فلم تمض لحظات حتى خرج الأبناء والبنات كل يتساءل عما جرى ؟؟ قهقه الأب عاليا مردفا "أن الحبل السرّي قد انقطع وعلى الجميع أن يستقبل الحياة بقلب مفتوح ولما لا ندير حوارا بيننا بناتي الفضليات أبنائي الأعزاء ؟" ردد الأبناء، وقد غلبت عليهم الدهشة وعلا أعينهم الإستغراب، أن حول ماذا سندير الحوار ؟ وما معنى الحوارفي حدّ ذاته؟ وتتالت أسئلة الأبناء كل من جانبه ؟ انفرجت اسارير الأب وفهم أن أولاده وبناته لازالوا يولون لقول أبيهم وأن البديل الذي اختاروه أو قل فرض عليهم كما ذكرت الأمّ لم يسيطر عليهم بعد . ترجاهم أن يجلسوا وطرح عليهم جملة أسئلة طلب منهم إدارة الحوار حولها ومقترحا عليهم أن يخصصوا يوما لتداول مثل هذه القضايا ويدلي كل منهم بدلوه حسب الزاوية التي يرى منها الموضوع. حمد الأبناء والبنات الله أن انقطاع الإتصال بالإنترنيت عرضي ولن يدوم طويلا مما شجعهم على الإنصات لأبيهم . وهكذا حاول الأب والأم دحرجة صخرة الغار ولو يسيرا حتى انجلاء هذه السِّنة وتعود الأسرة إلى التوازن المتدرج. فهل سينجح الجميع في مشروعهم هذا أمام الزحف الهائل من الوسائط الإعلامية وتراكمها ؟ إلى اللقاء في لوحة جديدة من لوحات الحياة . عبدالله النوري