بقلم منجية عبدالله العبيدي نهضت كعادتي كل صباح على نغمات المنبه يحملني على التعجيل بايقاظ الأولاد وانجازمهمة كل صباح كي أتفرغ بعد ايصالهم الى مدارسهم لعملي. وضعنا على عجل معاطفنا وهرعنا الى السيارة نسابق الزمن . فجاة ومن دون مقدمات سألني أوسطهم "أمي..متى سنعود الى تونس؟" لست أدري ما الذي دفعه الى هذا السؤال في هذا الصباح بالذات.. لعله رأى حلما جميلا عن وطن حاولت جاهدة أن أجعله أجمل في عيونهم. أجبته دون تفكير: "قريبا..قريبا جدا." أوصلت الجميع وعدت أدراجي أتعجل الوصول الى بيتي لأتابع ما جد من أخبار وأنا أحتسي قهوة الصباح. يا له من مشاغب! لقد أنساني سؤاله هذه المرة اعداد القهوة .. حلق بي في سماء الوطن. ولكن أي وطن؟! ومن دون أن أدري وجدتني أطل على هذا الوطن من بوابة كثيرا ما شعرت بالغثيان وأنا أحاول ملامسة واقع البلاد من خلالها.. قنانتا الوطنية- لسان حال الوطن..نبض المواطن وصوته ومنبره الحر!- أما واقع الحال فصورة أخرى .. جارية من جواري الحداثة تذكرني بعرائس المسرح ودماه المتحركة.. طبقات من المساحيق بعضها فوق بعض..المسكينة.. أكاد أجزم أنها لا تعي ما تقول وألا علم لها البتة بماهية حقوق الانسان..تطري وهي تبتسم ابتسامة بلهاء على العرس الانتخابي والشفافية وبلد القانون والمؤسسات واحترام حقوق الانسان وباقي عبارات جوفاء أضحت مجرد كليشيهات للعارفين. ثم تختتم ضاحكة: " نشالله ديمة هكة فرحانين.." ولأن هذا المشهد يستفزني وجدتني أنصرف عن تهليلات الجارية حتى أني لم أعد أسمعها أو أراها.. أطلقت العنان لخيالي فوجدتني أمام اعلامية في قناتنا الوطنية تشبه في كفاءتها وبساطة مظهرها وحيادها مذيعات البي بي سي تطل على عشرة ملايين من التونسيين وغيرهم من المشاهدين تقدم لحلقة خاصة عن سجين تونسي ورث المواطنة أبا عن جد..تستهل الندوة بلمحة عن السجين ومؤهلاته وظروف اعتقاله: اسمه الصادق شورو يبلغ من العمر ستين عاما أمضى ثلثها متنقلا بين سجون البلاد من شمالها الى جنوبها..سجين رأي من طراز رفيع أمضى ثلاثة عشر عاما متواصلة في العزل. أستاذ بكلية الطب بتونس.. سجن أول مرة عام 1990 وأفرج عنه عام 2008 ليعاد الى السجن بعد أسابيع قليلة بنفس التهمة .. تقدم الاعلامية ضيوفها: اسلامي ممثل لحركة النهضة التي ينتمي اليها وكان قد تزعمها السجين..ضيوف من أحزاب اليسار والليبراليين ..ممثل عن رابطة حقوق الانسان..صحفي بجريدة يومية سياسية..وممثل عن الحزب الحاكم. تأخذ الاعلامية/رئيسة الجلسة فاصلا قصيرا تعود بعده لتبدأ محاورة ضيوف ندوتها الخمسة .. تسألهم بادئ ذي بدء عن مشروعية سجن الرجل وعن رأيهم في مسألة اعتقاله وأسئلة أخرى. - الضيف الأول: هذه مظلمة وانتهاك لحقه في التفكيرو التعبير وحرية التنظم... -الضيفة الثانية: اختلافنا في الرؤى والمرجعية لا يفسد للود قضية ومن منطلق حقوقي وسياسي نرفض محاكمة الرجل وسجنه... -الضيف الثالث: من جانبنا كرابطة حقوقية نندد بهذا الاعتداء الصارخ على حرية الرجل... -الضيف الرابع: نتمسك بمبدا النزاهة والحياد ونرفض محاولات الدولة التدخل في عملنا كصحافة حرة تسعى دائما لنقل الوقائع كما هي دون تزييف للناس. وعلى هذا الاساس نعتبر الدكتور شورو سجين رأي ونطالب بالافراج عنه فورا... -الضيف الخامس (ممثل الدولة) مهمهما: نحن بصدد دراسة الموضوع وان ثبت أن حبس الرجل يتعارض مع القانون فسنطالب باعادة محاكمته حتى لا يضيع حقه...
تقطع رئيسة الجلسة حديثه لتعلن عن خبر عاجل مفاده أن عددا كبيرا من الصحفيين والحقوقيين معتصمون خارج مبنى الاذاعة والتلفزيون يطالبون باطلاق سجين الراي الصادق شورو وأن قوات الأمن تتواجد في المكان لضمان تواصل الاعتصام في اطار سلمي وأنها جاءت لتحمي المتظاهرين وتضمن حقهم في التعبير وايصال مطالبهم وأنها تلقت تعليمات بألا تستعمل هراوات أو قنابل مسيلة للدموع بعد اليوم لتفريق مظاهرة سلمية.. خبرثان: عدد كبير جدا من المحامين يطالبون أثناء اعتصامهم بمقر نقابتهم بالافراج عن السجين والاعتذار له وتعويضه عن سنوات السجن. خبر ثالث: زملاء شورومن الأساتذة الجامعيين يلوحون بالاضراب وطلبته في الجامعة يهددون بمواصلة الاضراب ما لم يتم الافراج عن أستاذهم. خبر أخير تتلوه الاعلامية بسرور: أعزاءنا المشاهدين وردنا للتو خبر مقاطعة عدد من النواب الجلسة المفتوحة لمجلس النواب احتجاجا على عجز السلطات عن طي هذه الصفحة المخجلة -على حد تعبيرهم- من تاريخ بلادنا .. يقولون ان تونس بلدنا جميعا وليست ملكا لأحد دون سواه.. هذه الارض أرضنا والسماء سماؤنا والشمس شمسنا والهواء هواؤنا وتراب الأرض ترابنا..شجر الزيتون لنا جميعا والنوى. لا انتقاء ولا محاباة بعد اليوم على أساس الولاء أو الرضا. من حق شورو أن يفكر كما يشاء ويعبر عما يشاء كما يشاء مادام لم يعتد على أحد. على هذه الكلمات العذبة الني هي في الأصل مسلمات أصحو من حلمي الجميل...أصوب نظري نحو الشاشة فاذا بالجارية الاولى قد رحلت وحلت محلها جارية أخرى تلوك نفس العبارات بنفس المساحيق ونفس البسمات تستعرض ملامح المدينة الفاضلة. ربما هزأ البعض من خيالي وربما رماني آخرون بالجنون وربما قال أحدهم اني بسطت الأمر الى حد الاسفاف.. لكنه حلم.. والحلم مشروع..مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة..بفكرة ..بحلم ..أروبا القروسطية خرجت منذ قرون من جهلها وصمتها وغطرسة قادتها على شعوبهم..وثقافة حقوق الانسان لم تقدم لشعوب اوروبا على طبق من ذهب وانما بالتضحيات .. وعنف الدولة في بلادنا يتغذى من جهلنا أو من خوفنا و ينتعش من صمتنا.. من حق أستاذنا الصادق شوروعلينا أن ندافع عنه بكل ما لدينا ..من حق كل مواطن يجري في عروقه دم تونسي أن يوالي أو يعارض أو ينقد أويحتج أو يتظاهر وأن يعود الى بيته سالما امنا مطمئنا. من حقنا كمغتربين أن نعود الى أرضنا وأرض جدودنا دون ضغوط أو مقايضات أو مساومات أو شروط مسبقة .. نريده وطنا بلا مساحيق أو منمقات وفضاء بلا أغلال أو أصفاد لكن الخوف ساكن فينا.. وما لم نحرر أنفسنا وأولادنا من خوفهم وخوفنا فنحن متخلفون منكسرون منهزمون مستضعفون.