هذه الكلمات بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين للإعلان عن تأسيس حركة النهضة التونسية ولا أظن سوى أن أولى الناس بزف التهاني بهذه المناسبة هم أولئك الذين رووا بدمائهم الثمينة أديم زهاء ثلاثة عقود كاملات من أرض الوطن الحبيب مقاومة في سبيل الله سبحانه لتكون تلك الدماء رخيصة في مقابل سلع لا تشترى بثمن من مثل الحرية والكرامة والعزة والعدالة والوحدة والحق في التعدد. والتهاني موصولة لفرسان الإسلام من رجال ونساء بما قدموا من حياتهم وأموالهم وإبداعاتهم الفكرية فأثابهم سبحانه في الدنيا بثورة الحرية والكرامة والله وحده أسأل حسن الختام لي ولهم جميعا. أي معركة جديدة. المعركة الجديدة التي تشرف حركة النهضة التونسية على خوضها عنوانها : بقدر ما أثارت الثورة العربية الراهنة من أمل في الإنعتاق من نير الإستعباد والإسترقاق فإنها أثارت في الجهة المقابلة مخاوف تقليدية قديمة بما جعل النظام العربي " الإسلامي " القديم ينتفض بقوة ويرد الفعل بشدة ويحقق نجاحات مهمة ومعتبرة في جدار الثورة. نجح في سوريا بالكامل وهو نجاح إستراتيجي مهم للخيار الصهيوني الغربي وبمثل ذلك أو أقل منه بقليل سينجح في ليبيا التي لا يبدو أن الأوضاع فيها ستهدأ قبل تمزيقها أو " إبرام " معاهدة لنهب ثروتها النفطية. صحيح أن فشل ذلك الخيار الصهيوني الغربي في مصر وارد جدا بل هو متجه في ذلك الإتجاه وصحيح كذلك أن ثورة اليمن أفلح ذلك الخيار بجهد عربي خليجي جبار في وضعها بين قوسين حتى إشعار آخر قد يأتي وقد لا يأتي. المعركة الجديدة التي تشرف على خوضها حركة النهضة التونسية هي معركة بالدولة ومؤسساتها وساحتها سياسية بإمتياز شديد وأسلحتها المفاوضات والمقايضات وتبادل المصالح ولكن العدو هو هو. العدو هو النظام العربي و " الإسلامي " القديم من جهة والنظام الدولي من جهة أخرى ممثلا بطبيعة الحال في القوى المتنفذة. للعدو جبهتان كبيرتان وموازين القوى منخرمة جدا لفائدة الخيار الرجعي للنظام العربي القديم. حتى عندما يستتب الأمر للدولة هنا فإن الأوضاع الإقليمية والعربية والإسلامية والدولية مازالت منخرمة إنخراما شديدا. يواجه المشروع الوطني أما الإسلامي فلا يكاد الحديث عنه يكون ذا موضوع عربيا ودوليا معارضة قاسية شديدة لا تتردد يوما واحدا في إستخدام المال والسلاح والعلاقات والمحاصرات والمؤسسات الأممية لإكراه المشروع الوطني يكفي أن يكون وطنيا على أن يكون زينة خادعة خادمة للمشروع الغربي.
تتوفر حركة النهضة بتجربتها الواسعة في سنوات المقاومة وبتجربتها السلطوية التي قادتها بنجاح فيما نحن بصدده أي في حقل معالجة العلاقات وحسن قراءة الموازنات وتقدير المصالح والمفاسد .. تتوفر حركة النهضة بذلك على حنكة وخبرة دون ريب ولكن كل ذلك قد لا يكون كافيا بل لا يكون كافيا بالتحقيق لتسيير دفة التعايش مع المحيط الإقليمي والعربي والدولي بما يجعل التجربة الوطنية التونسية والحركة مؤهلة حقا لقيادة تجربة وطنية على غرار التجربة التركية في الإنحياز الوطني أو القومي تترسخ مع مطلع فجر كل عام جديد ولأجل إستجماع شروط الإستعصاء ضد عودة الإستبداد والدكتاتورية.
هناك أمل بل آمال في إحتشاد مؤثرات إقليمية أو عربية وإسلامية تشد من أزر المشروع الوطني الذي ستقوده حركة النهضة في تونس بما يوفر حدا أدنى من التوازن مع الأوضاع الدولية المنخرمة. هناك أمل الثورة سيما في مصر ولكن الوضع المصري لن يحسم دوليا في الأغلب حتى لو أناخت القوى الدولية بكلاكلها الثقيلة كلها حماية لأمن " إسرائيل " ولكن قد يحسم شعبيا سوى أن ذلك يتطلب زمنا أو قل بالأحرى تورطات شنيعة من لدن الوكيل الحاكم هناك بما يفجر الوضع الشعبي تفجيرا ليس له أي خط من خطوط العودة. وهناك أمل الثورة في غير مصر شرقا أو غربا. وهناك أمل المقاومة في فلسطينالمحتلة ولكن الأوضاع المصرية والسورية المحيطة بله الأردنية وجنوب اللبنانية التي إتخذت لها إتجاها آخر بالتأكيد لا تسمح بإنقلاب كبير في موازين المقاومة هناك. هناك آمال أخرى قطعا.
يمكن المراهنة على أمر مهم عنوانه هو أن المحيط الإقليمي والدولي مستعد لتأجيل شراسة المعركة وليس مبدأ المعركة مع الوضع الوطني التونسي وذلك بسبب ما أقر به عينه في مصر وليبيا واليمن وسوريا من جهة وبسبب الخصوصية التونسية شعبا وحركة من جهة أخرى ومن جهة ثالثة بسبب عدم قدرة ذلك المشروع الوطني التونسي على أي تهديد محتمل ضد التوازنات الإقليمية والعربية والدولية وبذلك تكون التجربة الثورية التونسية شيئا شبيها بورقة التوت التي تستر بها تلك القوى عورتها.
وعندها وذلك الإتجاه ربما يكون هو الأرجح حتى اليوم تكون المعركة إقتصادية بالأساس الأول إذ عنوان النجاح اليوم إقتصادي أولا وعنوان الإخفاق اليوم هو إقتصادي كذلك أولا. خيار مقايضة الإقتصاد بالسياسة سيما السياسة الخارجية التي ظلت فيها تونس في الحقب كلها ودون أي إستثناء أدنى إلى الحياد منها إلى الفعالية والإيجابية في أي إتجاه كان خيار ممكن جدا. ومعلوم أن ألمانيا ما بعد الهتلرية جربت ذلك الخيار ونجحت فيه نجاحا باهرا جدا ولكن الأرض غير الأرض والزمن غير الزمن ولكن يكون سوق ذلك دلالة على أن الإكراهات المسلطة على الضعيف تلجؤه إلى مثل تلك المقايضات.
المهم أنه لا مناص من المقايضات مع " الجبهة " العربية والدولية شديدة العداء لأي مشروع وطني سوى أن تونس محمية إلى حد كبير جدا بموقعها الهامشي غير المؤثر في خطوط النار الحامية والباردة المهمة وهي محمية بعوامل أخرى لا يتسع لها هذا المجال. لا مناص في السياسة الخارجية خاصة من سياسة المقايضات. ما ينبغي التردد في القول بأنه إلى حد اليوم أي إلى حد ما بعد الثورة لا تزال تلك القوى العربية الغربية مشتركة المصالح قادرة على خنق من تشاء إما بمخالب السلاح الحقوقي أو بمخالب السلاح المالي.
الذي أريد الخلوص إليه هو أن معركة الثورة في تونس هي معركة إقليمية عربية إسلامية دولية في جزء كبير منها وليست معركة محلية داخلية إلا في جزء صغير منها بل إن تونس تتجه اليوم إلى حسم ذلك الجزء الصغير غير المهم ولكن إلى أي حد تكون مؤهلة لحسم ذلك الجزء الكبير. أجد أن كثيرا منا لا يقدر التأثير الثوري خارج الحدود التونسية أو العربية. كما أجد أن كثيرا منا يتحدث عن ذلك التأثير في صورته الإيجابية أي عند الأحرار في العالم وذلك صحيح ولكن ليس أولئك من يصنع السياسة الخارجية والموقف من الثورة رغم أن مناخات الحرية في أوروبا تمكنهم من صناعة رأي عام.
تلك هي المعركة الجديدة التي أقدر أن حركة النهضة بحسبانها مرشحة لقيادة تحالف حكومي جديد والتحالف الحكومي رسالة مهمة وذكية ولكنه لا يحمي التجربة برمتها عندما يظل عاريا من أردية أخرى ضرورية تشرف على خوضها. معركة تختارها الحركة بل إختارتها وذلك عندما تتزعم قيادة البلاد ولكنها في منظور آخر معركة مفروضة عليها بسبب مشروعها الوطني وليس بسبب أي شيء آخر إذ حتى المشروع الإسلامي المتدين يمكن له أن يتعايش مع محيطه وذلك عندما يسلم لذلك المحيط فيما يريد من خطوط حمراء. أجل. أدرك جيدا وبوعي تام أن مثل هذا الكلام خطير جدا و" جديد " جدا.
تلك هي المعركة الجديدة في مناخات تتهاوى فيها الثورات ولكن من الممكن جدا أن تتصاعد أسهمها من جديد وعلى حين غرة كما ولدت من قبل. معركة جديدة ساحتها خارج حدود الوطن التونسي. هي معركة إدارة البلاد بمشروع وطني في مناخات إقليمية وعربية وإسلامية ودولية منخرمة لفائدة التحالف العربي الخليجي مع الخيار الغربي الأمريكي الصهيوني الأروبي. أختم بكلمة واحدة في مستوى مقاربة علاجية من بعد تجهيز رؤية للمعركة القابلة. كلمة واحدة عنوانها : طبيعة تلك المعركة الجديدة في تلك المناخات غير الجديدة تقتضي بالضرورة بناء جسور متينة من العلاقات الدولية عربيا وإسلاميا وغربيا مبناها التعاون المقايض أشدد على أن الإدارة السياسية هنا لا سبيل لها بغير تعاون مقايض وهي كفيلة بتوفير جزء من الحصانة للمشروع الوطني التونسي الجديد. أما الحديث عن الأسباب الداخلية والوطنية لتحصين المشروع فيحسنه كل أحد وهو معلوم معروف تلوكه الألسنة والأقلام صباح مساء.
هناك بالتأكيد نقطة ضعف واحدة على الأقل في النظام المحيط بنا بعيدا وقريبا وما علينا سوى الإجتهاد لكشف تلك النقطة التي نتسلل منها بهدوء تأجيلا للمعركة أن تكون دامية أو مفتوحة وللضعيف دوما سلاح لا يهتدي إليه سواه ولا يستخدمه سواه ريثما يشب عوده وأذكر بالتجربة الألمانية مجددا من باب تأكيد وجود تلك النقطة وليس من باب الإستيراد الأحمق. والله أعلم. الهادي بريك تونس [email protected]