تطوي الأعوام أيامها منذ اندلاع شرارة الثورة والحراك الاجتماعي وهروب الطاغية وقد خمدت نارها وبردت أوصالها واشتد صقيعها واندثرت آمالها مع ريح الردة وغبار التاريخ وصهيل الخيول الجامحة فلا ورود تفتحت ولا زغاريد وغدا الياسمين حطبا والحلاوة حنظلا وترى الوجوه كالحة كالحديد وتراب الفسفاط. لقد تبخرت جميع الأحلام أو تكاد ولم نر بصيصا في الأفق بعد أن انقضت على الحلم المتدفق بين الضلوع جحافل الانتهازيين وأصحاب الجاه والمال فتعكرت الأحوال وعدنا إلى مربع الفتنة والضلال وبتنا في خبر كان فعادت حليمة إلى عاداتها القديمة وكأن شيئا لم يكن. فقد أنجز الشباب الثائر ثورة لم تكن في الحسبان تلقفتها يد الغدر بسرعة البرق فحولتها إلى أصل تجاري وعلامة مسجلة باسمها واستثمرتها لصالحها ووزعت أصولها على المريدين وأبناء العم والعشيرة وتركت أصحابها الشرعيين يقتاتون الحصرم ويحاصرهم الجوع والفقر وضنك العيش في الفيافي والأدغال حيث الأوبئة والتخلف وبئس المصير. فالثورة التي لا تحقق أهدافها ولا تنتصر لأهلها وأصحابها ومفجريها تقبر بسرعة البرق وتصبح نسيا منسيا وبين قوسين ولا مستقبل لها إلا من خلال المفردات والكلام المباح للتلهية والتلاعب بالعقول والدجل العقيم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فقد أتاحت الثورة للفاسدين والانتهازيين و الظالمين أن يعودوا للمشهد من جديد ويتغولوا ويتمكنوا من دواليب الدولة ويحافظوا على ثرواتهم ومناصبهم وقد تخلصوا من قهر الطاغية وابتزاز حاشيته لهم وأصبح لهم لسان وشأن وقد كانوا أيام الدكتاتور مختبئين صامتين صمت القبور ديدنهم الجبن والطاعة لصاحب السلطة وولي نعمتهم. الذين نشاهدهم الآن في الحكم وينعمون بنعيم الضرائب ويتمتعون بالحماية ويعيشون في بحبوحة ويصرفون بلا حساب وموائدهم عامرة وسفراتهم لا تنتهي لم يكونوا في يوم من الأيام من أهل الثورة ولا من مفجريها والمكتوين بنار الفقر والخصاصة ولا من معارضين حكم الدكتاتور وهذا يعد في حد ذاته من مفارقات التاريخ وعجائب الدهر. فسياسة التقشف وتحمل وزر المصاريف الباهظة المهدورة على ملذات هؤلاء الانتهازيين اكتوت بنارها الطبقات الضعيفة والأجراء وبسطاء الموظفين بحيث تم طحنهم وتهميشهم أيام الحديد والنار وزادت أحوالهم تعاسة بعد الثورة التي كانت وبالا عليهم ولم تجلب لهم غير التعاسة وضنك العيش. فبأي حال عادت ذكرى الثورة المغدورة والقوم يتقاسمون كعكة السلطة فيما بينهم وهم غير مستعجلين على انجاز ولو النزر القليل من استحقاقاتها ما داموا في العسل نائمين وفي النعيم غارقين فأي شيء يكدر بالهم ويقض مضجعهم الوثير؟ لقد انطفأت شعلة الثورة وسقطت في رتابة الأيام الحزينة والمؤلمة وبات الشهداء يتقلبون في قبورهم غير مصدقين ما حدث يأكل جثثهم الطاهرة دود التراب النهم وتأكل قلوبنا نحن الأحياء الحسرة وأكوام الأسف الشديد. ومن مكر التاريخ أن الانتهازيين دائما يصلون للسلطة على أنقاض الثورات وأن الثوريين الحقيقيين يواصلون مسيرة التغيير دون توقف على أطلال الماضي ولا تغريهم مناصب زائلة لا محالة. ومن العبر المفيدة أن السلطة كثيرا ما تحولت لدكتاتورية مقيتة وانتهت إلى خراب ما دامت تتحكم فيها النوازع الشخصية الضيقة ولا تسندها المعرفة ونكران الذات. وقل وندر من خرج من السلطة سالما ودون خدوش فهي مسكونة بلعنة التاريخ وترمي المتشبثين بتلابيبها إلى المزبلة وبئس المصير في غالب الأحيان فهي مثل المرأة اللعوب تجذبك بمظهرها الفتان وبقربها تصاب بالخسران وتغادرها منبوذا تصاحبك اللعنات والسهام وسخط الأقدار.