قدم عبدالحميد الجلاصي، نائب رئيس حركة النهضة استقالته من المكتب التنفيذي للحركة، لأن "واقع الحركة وطريقة إدارتها، شابتها إخلالات كثيرة، بما أوهن من موقع المؤسسات، وأثر في أدائها، كما أثر في المناخات والعلاقات"، كما جاء في نص الاستقالة. في اليوم نفسه الذي قدم فيه الجلاصي استقالته، يوم 26 يناير، كتب أمان الله الجوهري في جداره في شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بمناسبة الذكرى العشرين لوفاة والده سحنون الجوهري رحمه الله، القيادي السابق في حركة النهضة، ما يلي: في مثل هذا اليوم منذ عشرين عاما، استشهد والدي سحنون الجوهري بعد ثلاثة أيام من نقله إلى مستشفى شارل نيكول بالعاصمة، وبعد عام من الرفض المتواصل لمطلبه المتكرر بنقله إلى المستشفى، كان يتعرض خلاله للتحقيق ويحرم من التداوي، وحتى الإسعاف. ويضيف: "كان الشهيد يتوعد جلاديه بالمحاكمة على جرائمهم يوم تسود العدالة. هذا الوعد والنضال لأجله، هو كل ما ورثناه عنه. أكرم الله سحنون بالشهادة، وأكرمنا بالانتساب إليه. شكرا لكل من ذكر الشهيد في ذكراه وحفظ عهده، والخزي لمن تلفت ذاكرتهم. لن ننسى، لن نغفر". أمان الله، هو أحد شباب النهضة، انتخبه المؤتمر التاسع للحركة في صيف 2012 عضوا في مجلس الشورى، لكنه اختار الاستقالة منه بعد بضعة أشهر. مازلت أذكر آخر مكالمة لي مع سحنون الجوهري سنة 1991، أياما قليلة قبل اعتقاله. رجوته يومها أن يكف عن التردد على مقر جريدة "الفجر" التي كانت تصدرها الحركة، وأن يختفي، لأن موجة الاعتقالات اشتدت، وهو مستهدف قبل غيره، خصوصا أن أحد مسؤولي الأمن توعده بالموت. لكنه رفض ذلك وقال لي: لا يمكن أن أترك هؤلاء الشباب وحدهم. سأقاوم إلى آخر رمق. الشيء نفسه فعله حمادي الجبالي وقتها. فقد كان يدرك أنه سيعتقل، ولكنه ظل يتردد على مقر الجريدة إلى أن تم اعتقاله. ما تعيشه حركة النهضة هذه الفترة، معركتان خطيرتان: معركة مع خصومها السياسيين، ومعركة إدارة الحوار وآلية اتخاذ القرار داخلها. فالتحولات التي تعيشها تونس منذ اندلاع الثورة ضد نظام زين العابدين بن علي، فرضت نفسها على الجميع، كل حسب حجمه السياسي. فكان طبيعيا أن تنال الحركة الإسلامية حظها من ذلك. لا شك في أن القضايا الخلافية التي خلفتها سنوات المحنة لها إسهامها، ولكن حصاد السنوات الأربع التي مضت من عمر الثورة، كان لها النصيب الأكبر في ذلك. وتبقى استقالة حمادي الجبالي من الأمانة العامة للحركة، ثم من عضويتها أصلا، الحدث الأهم في التطورات الأخيرة التي تشهدها الحركة. فالجلاصي استقال من وظيفة لا وجود لها أصلا في القانون الأساسي للنهضة "نائب رئيس الحركة".. ويصنفها كثيرون ضمن "تجاوزات ما بعد الثورة"، إضافة إلى أن الرجل لم يستقل من الحركة. أما الجبالي، فهو الرجل الثاني في الحركة، ورئيس أول حكومة بعد الثورة، وهو قبل ذلك من المؤسسين، وواحد من القيادات التاريخية التي لا يمكن محو بصمتها منها، فلماذا يستقيل من حركة قضى فيها عمره، وأعز أيام شبابه؟ لقد اختلفت التقييمات لأداء حكومة الجبالي، ولكن لا يخفى على أحد حجم العراقيل التي اعترضتها.. عراقيل شارك في وضعها رجال النظام السابق، وبقايا اليسار الاستئصالي، والسلفيون الجهاديون. وهناك عراقيل أخرى، وضعها بعض المتنفذين في النهضة، ومما أزعج الجبالي خلال توليه رئاسة الحكومة، أنه لم تكن له سلطة على وزرائه، لأنه لم يخترهم أصلا، وإنما اختارتهم أحزابهم. لسنا هنا في مقام تقويم حكومة الجبالي، ولكن هذا بعض ما جعل حصادها متواضعا، رغم أنها لم تعمر سوى عام وثلاثة أشهر. أما في حركة النهضة، وهذا هو الذي يهمنا في هذا المقام، فقد كان الجبالي من المؤسسين، ثم تولى قيادة الحركة، وكانت تسمى وقتها "حركة الاتجاه الإسلامي"، إثر الحملة التي شنها عليها نظام الرئيس بورقيبة في صيف 1981. فاعتقل معظم قياداتها وأودعوا السجن. وطلب بورقيبة وقتها إعدام الشيخ راشد الغنوشي، لولا ألطاف الله التي منعت ذلك. في تلك الظروف الصعبة، تمكن الجبالي من إعادة بناء الحركة، هيكلة ومؤسسات، في ظل سرية مشددة، إضافة إلى ما تستوجبه تلك الظروف من اهتمام بالمساجين وأسرهم، وبالمهجرين وقضاياهم. كان لا يهدأ له بال إلا إذا وفر ما تحتاج إليه أسر المساجين، بداية من قفة السجين، إلى الأدوات المدرسية لأبنائهم، وألعاب العيد عندما تتيح الإمكانيات ذلك، وحاجات أسرهم المختلفة، وكان يحاور جميع إخوانه، ولا يستهين برأي واحد منهم. لقد سجل الجبالي قدرة فائقة في إدارة الحوار الداخلي للحركة، ونجح في بناء علاقات ثقة وتعاون مع مختلف الأطياف السياسية والفكرية والحقوقية، والارتقاء بالعمل السياسي، بهدف الضغط على السلطة لتطلق سراح مساجين الحركة، إلى أن تم الإفراج عنهم في صيف 1984. تلتها بعد ذلك موجة اعتقالات أشد من سابقاتها سنة 1987، ثم الحملة الأشرس على الحركة سنة 1991، التي استمرت إلى قيام الثورة في ديسمبر 2010. خلال كل هذه المدة، ظل الجبالي في خدمة حركته وإخوانه، يعمل حتى من داخل سجنه، على إنهاء المحنة، محافظا على شرف الرسالة التي يحملها. لقد كان للجبالي دور ريادي في حركة النهضة، وبصمته فيها لا يمكن أن تختفي أو تطمس، وكان مؤلما أن تتعامل قيادة الحركة مع استقالته، بالشكل الذي حصل، وكأن لسان حالها يقول "مرحبا بمن وافق على خياراتنا، ومن رام غيرها فباب الخروج مفتوح"، وهذا ما ردده غير واحد من قادة الحركة الحاليين. إن إدارة الحوار وتفعيل الشورى مسألتان مهمتان، لم توفق الحركة فيهما، خصوصا بعد الثورة. وهناك اتهام للقيادة الحالية بأنها رمت عرض الحائط معظم قرارات مجلس الشورى، وأن أقلية متنفذة انفردت بسلطة القرار، بل إن العديد من أبناء الحركة يقولون إن بعض "الانتهازيين" تسللوا إلى قيادة الحركة، ويحظون بحماية رئيسها. هذا ما أدى إلى استقالة الجبالي والجلاصي ورياض الشعيبي، في حين آثر آخرون الانسحاب في صمت، بينما جنح آخرون إلى رفع سقف الاحتجاجات، واعتماد لغة النقد الشديد عبر شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فهل تنجح الحركة في اجتياز هذا الامتحان بأقل الخسائر؟