في صفحات تاريخ تونس المعاصر: أوجاع ودموع ومظالم.. محاكمات سياسية طالت مئات اليساريين والنقابيين والاسلاميين والطلبة والعسكريين وغيرهم من المعارضين للنظام السياسي الحاكم، البورقيبي والنوفمبري.. ولزجهم في السجون ومعتقلات التعذيب أطلقت السلطة أيادي قضاة بالمحاكم الشعبية والاستثنائيةومحكمة أمن الدولة، وحتى المحاكم العادية". هذا ما كشفه عدد من المؤرخين في كتاب جديد أصدره المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، تم تقديمه أمس خلال لقاء ثقافي بالعاصمة، خلص فيه مؤلفوه إلى أن هذه المحاكمات دمرت الحياة السياسية في تونس وحالت دون نشوء أحزاب قوية. المؤرخ عليا عميرة الصغير، فسر أن الكتاب لبنة في المحاكمات السياسية وليس فيصلا فيها، ولا يدعي أنها ستوفى كل المحاكمات السياسية لكنه منطلق لفهم الاستبداد الذي حكم البلاد طيلة عقود متتالية، واعتذر المؤرخ إن كان تم السهو عن محاكمات أخرى. وبين أن المحاكمات السياسية لازمت كل الدول الديمقراطية والمستبدة ويمكن تعريفها على أنها كل محاكمة تجمع بين دولة مضطهدة وقضاة تابعين ومتحزبين وتهم مسترابة وأحكام صادرة لإعطاء الدرس والاعتبار، وشملت آلاف التونسيين من كل التوجهات الفكرية والفلسفية والاجتماعية والطلابية والنقابية. أما الأستاذ أمين محفوظ أستاذ القانون الدستوري فلاحظ أن الكتاب الجديد تناول جوانب هامة من التاريخ التونسي لكنه لم يعرف المحاكمة السياسية، وأضاف أن النظام السياسي في عهد بورقية كان يرى أنه من الواجب تجريم "السياسة" فكل من يعبر عن رأي مخالف لهذا النظام التسلطي في دولة التشريع فهو مجرم، وتم استعمال القانون والقضاء الاستثنائي لتجريم السياسة. محاكمات النقابيين وتحدث الأستاذ عبد المجيد بلهادي عن محاكمات النقابيين، منهم محمد علي الحامي وأحمد التليلي وأحمد بن صالح وبشير بلاغة والحبيب عاشور ومحمد شقرون وإسماعيل السحباني والطيب البكوش وعبد الرزاق غربال وغيرهم، وذكر أن المحاكمات طالت أيضا مجموعات، ففي السبعينات تم اعتقال عديد القيادات النقابية وحصلت محاكمات لمجموعة سوسة ومجموعة صفاقس ومجموعة تونس النقابية، وتكررت محاكمات النقابيين سنة 1985كما تم إيقاف جريدة الشعب وإصدار حكم بالسجن ضد أمينه العام الحبيب عاشور مع افتكاك مقرات للاتحاد ومداهمة ساحة محمد علي، ودفعت السلطة إلى تقسيم المنظمة، ونشأ إتحاد عبد العزيز بوراوي واتحاد الشرفاء والمنظمة النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل، كما تعرض العديد من النقابيين إلى محاكمات وانتهاكات في قضية 1978. وأخذت أشكال المواجهات بين السلطة والاتحاد على حد ذكر المؤرخ مسارا أخطر بعد الثورة تمثل في تهديد بتفجير مقر الاتحاد والقاء الفضلات أمام مقراته. وسلط الأستاذ منصف باني الأضواء عن محاكمات اليساريين، وبين أنها تمت بعد ان اعلن الزعيم بورقيبة في بداية الستينات هيمنة الحزب على مفاصل الدولة، وأدى هذا السلوك الى بروز اشكال من المعارضة وإلى محكمات سياسية طالت العديد من المناضلين اليساريين أهمها حركة برسبكتيف ومنظمة العامل التونسي ثم حزب العمال الشيوعي. وتعد حركة آفاق أول حركة سياسية تونسية معارضة ظهرت بعد الاستقلال، وساهمت في نشر الفكر التقدمي الثوري في تونس مما افرز تيارات سياسية يسارية كان لها أثرها في الجامعة التونسية وتزامنت نشأتها سنة 1963 بباريس مع بروز حركات التحرر والاستقلال، وثراء نشاط الشباب الجامعي. وفي سبتمبر 1968 كانت أهم محاكمة لمجموعة برسبكتيف، شملت 103 أعضاء بتهمة التآمر ضد امن الدولة والاحتفاظ بجمعية غير معترف بوجودها والثلب ونشر أخبار زائفة ومن هؤلاء ابراهيم رزق الله ومحمد بن جنات وسيمون لالوش، وأدت المحاكمات إلى تطوير الحركة إلى منظمة العامل التونسي التي قام برنامجها على الالتحام بطبقات البروليتاريا وطالتها المحاكمات سنة 1973 عائشة بن خضر وغيرها وسنة 1974 وهي الاثقل وشملت 202 عضوا منهم عثمان الرداوي وسنة 1979 منهم محمد صالح فليس، وأثرت هذه المحاكمات في النخب المثقفة. وفي عهد بن علي ورغم الغاء محكمة امن الدولة فان المحاكمات التي تمت في محاكم العادية لا تقل قساوة وشملت مناضلي حزب العمال الشيوعي التونسي عام 1992 وعام 1994 منهم حمة الهمامي وفي سنة 1999 تمت محاكمة 21 مناضلا من هذا الحزب منهم حمة الهمامي وراضية النصراوي. حملة السلاح وتحدث المؤرخ حفيظ طبابي عن محاكمات محاولات قلب النظام بالسلاح، على غرار محاكمة مجموعة المتورطين في المحاولة الانقلابية في الستينات على نظام بورقيبة، ثم مجموعة براكة الساحل التي تورط فيها أكثر من اربعين عسكريا، كما عمل بن علي على تصفية كل من يشتم عليه من العسكريين رائحة حركة النهضة وكانت سنة 1991 تاريخ بداية الاعتقال وشمل 244 عسكريا وتم الابقاء على 91 منهم والاعتذار للبقية ولكن تمت اقالتهم من العمل وحرمانهم من الاجور والتقاعد والتغطية الصحية. أما مجموعة سليمان فتم القبض عليها سنة 2007، وشملت 30 عنصرا تمت محاكمتهم وتراوحت الاحكام بين الاعدام والأشغال الشاقة وتمتعوا بالعفو التشريعي بعد الثورة ليلتحق العديد منهم بالخلايا الارهابية. المؤرخ محمد ضيف الله تطرق إلى محاكات العروبيين والاسلاميين في المحكمة الشعبية ومحكمة امن الدولة بتهمة تهديد امن الدولة ونشر اخبار زائفة وتعكير صفو النظام العام وتدليس اوراق وتهريب عملة وكانت، محاكمات اليوسفيين في الخمسينات وانطلقت محاكمة الاسلاميين سنة 1981 ثم سنة 1987 واثر انقلاب 7 نوفمبر تعرض الاتجاه الاسلامي في التسعينات إلى المحاكمات كما تمت محاكمة أعضاء بحركة النهضة وأعضاء بحزب التحرير الاسلامي وسلفيين. هكذا وثق الكتاب الجديد للعديد من المحاكمات وهو خطوة أولى للتعمق فيها والتذكر والتدبر من أجل الحيلولة دون عودة الاستبداد.