يعيش المواطن العربي عبر تاريخه الطويل المليء بالأحاجي والغرائب والأساطير خائفا على وجوده متوسلا رحمة السماء والأقدار بأن لا تصيبه لعنه السلطان وبطش الحاشية وفتوة الصعاليك وبأن يمر يومه على خير وعافية حتى وإن بات جائعا وعاريا ومحتاجا. فهو المتوجس خيفة من العسس والإتاوات والطرق على الباب فربما هناك من يأتي في غسق الدجى ليأخذ منه ثأره أو يسرق رغيفه البائس أو رسالة مضمونة الوصول لطالب دين مستحق حل أجله المحتوم. فحتى السلطان يخاف الرعية فتقهره هواجس الانقلابات والثورات ويدق قلبه فزعا عندما يسمع جلبة أوضجيجا على باب قصره ودائم الحيطة مظهرا الكثير من الغلظة والبطش لردع المناوئين والمغامرين وأصحاب النوايا السيئة لكنه في الأخير يستسلم لقدره المحتوم ويخضع لإرادة التاريخ غصبا عنه. وتستعمل الدول المتخلفة شتى اساليب القهر وخصوصا القهر المعيشي فتتحكم في الثروة فتنعم بها على مريديها والدائرين في فلكها وتغدق عليهم الخيرات والامتيازات وتنفي بالبقية إلى الجحيم والبؤس والفقر والبطالة حتى يذهبون إليها متسولين أذلاء أو تلتهمهم حيتان البحور أو يمكثون في فيافيهم المغبرة خارج منطق التاريخ والحضارة. كما تستعمل الدول المارقة أشد أدوات الضبط الاجتماعي قساوة لقهر إرادة الناس وزرع الخوف في نفوسهم وتمنع عنهم الكلام والتعبير والاحتجاج وهي المرعوبة دوما من الحرية وحقوق الانسان ولا تلتزم بالقوانين التي تسنها ولا تطبقها إلا على ضعاف الحال وبسطاء الناس. وقد أغلقت دور الثقافة والابداع والتفكير وفتحت منابر مدح السلطان على مر الأيام والأعوام وكممت الأفواه الناقدة وقطعت الألسن وأغوت العوام وضعاف النفوس بالمناصب وقربت من عرشها كل جبان ملهوف على بعض الفتات والأبهة الفارغة من كل مضمون، فلم يزد ذلك غير تأليه السلطان وتجبره والزيادة في منسوب بطشه وتعاليه على الرعية. كما فتحت السجون أبوابها العريضة للمخالفين وأصحاب الرأي والناقدين والمطالبين بالحرية وحقوق الانسان والتوزيع العادل للثروة وتحقيق التنمية في الجهات المحرومة والقضاء على البطالة والتهميش والفقر. وعوض محاربة الفساد الكبير ومحاسبة الذين حققوا ثروات طائلة بدون وجه حق وأفسدوا في الأرض طولا وعرضا وقهروا الناس والعباد بظلمهم وبطشهم وأعمالهم الخسيسة تم التغاضي عنهم وابتزازهم للحصول على منافع شخصية وحزبية حتى تغولوا واستفادوا بالقوانين الجديدة وأصبحوا يتكلمون عن الدستور وعن الثورة وهلم جرا. وقد تأخرت العدالة الانتقالية كثيرا عن موعدها وأصبحت الآن مضيعة للمال والجهد والوقت فكانت كالقطار الذي خرج من سكته والسفينة التي فقدت البوصلة وهي عرضة للابتزاز والمزايدات والتلاعب السياسي. وأكبر ما يقهر المواطن العادي هو التلاعب بعقله الفطن والواعي فيسمع أشياء كثيرة ولا يراها في الواقع ويرى حكومات تتغير وشخوص تذهب وأخرى تأتي ولا يحس بأي تغيير سوى الانحدار رويدا رويدا إلى أسفل القاع. فالكل يبحث عن الغنيمة والتحصين وليذهب الرعية للجحيم وبئس المصير. وقد زاد ما يسمى بالنظام البرلماني الطين بلة في بيئة لم تتعود بعد على الديمقراطية والحرية ودولة المؤسسات بحيث ساد منطق المحاصصة الحزبية والتشبث بالٍرأي والنزعة الشخصية والزعامتية والشللية على مقاس القول المأثور ''معيز ولو طاروا''. إذا، المنظومة السلطوية الموروثة منذ حقب عميقة في التاريخ أساسها قهر إرادة الرعية بالتلاعب بالعقول والتحكم في الثروة والمعاش واستعمال القهر الاجتماعي كالجهل والبطالة والفقر والتخلف للبقاء في الحكم والتمتع بنعيم السلطة ولو على أكوام من الخراب والجماجم والبؤس الفاضح. فتلك لعنة التاريخ لا فكاك منها ما دمنا نقدس المدنس ونعبد الأصنام ونجتر ما ورثناه عن عصور الانحطاط فنسفه علماؤنا ونحتقر مفكرينا ونكفر مبدعينا ونمدح حكامنا بدون وجه حق وسجوننا عامرة بالبسطاء وأصحاب الرأي والفاسدون يواصلون لعبتهم القذرة ويصولون ويجولون بدون حسيب ورقيب.