لا يمكن للمرء أن ينتظر الكثير من النتائج الايجابية من عوالم التخلف والبؤس والانحطاط الفكري والأخلاقي الرهيب بحيث تنحدر كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية نحو الهاوية والكارثة رغم ما يبشر به المتربعون على الكراسي الوثيرة والقابضون على حنفية المال والماسكون بخيوط اللعبة والمنتفعون بالوضع الحالي. فالدولة التونسية تتفتت رويدا رويدا وتباع بالمزاد العلني في لهفة غير مسبوقة ولم يبق للجياع غير الحجر والصوان وبقايا من العشب وكأن جرادا أصفر حل بالبلاد وترك خرابا وأرضا يابسة لا زرع ولا ضرع فيها. وها هي الانتخابات تطل علينا بكل ضجيجها وكلكلها وشخوصها فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة الانتخابية بشقيها التشريعي والرئاسي وقد دارت رحى التزكيات في جو من البيع والشراء وكأننا في سوق السلع والدواب واشتدت المزايدات والصفقات تحت قبة سيد نفسه المجلس التأسيسي وهو يودع أيام العز إلى مثواه الأخير وقد شاء البعض من أتباعه الفوز بغنيمة المغادرة في اللحظات الأخيرة. فالمواطن يتابع الأحداث بتعجب ويسأل نفسه كيف لهؤلاء المدلسون والمتلاعبون بالمال والكاذبون والمفلسون سياسيا وأخلاقيا وفكريا سيجلبون الخير وسيساعدون الفقراء ويقضون على البطالة ويعالجون مشاكل الوطن وهم الراكضون وراء فتات الغنائم وبقايا الكراسي ومزايا التحصين والمنصب. وبعد ثلاث سنوات من التجريب والتخريب الذي أنتج بؤسا مجتمعيا وانعداما للأخلاق وتقهقرا للظروف المعيشية للمواطن وفسادا لا مثيل له في كل القطاعات وانحدارا على مستوى الحوكمة والخدمات حتى أصبح أغلب الناس غير مبالين بالانتخابات ويرون فيها مضيعة للوقت وهدرا للمال العام و عنوانا لديمقراطية فلكلورية مزيفة تسوق للخارج أكثر منها للداخل. فقد غابت البرامج الانتخابية العقلانية والواقعية وتشابكت الرؤى واختلط الحابل بالنابل في ظل تعدد الأحزاب وقنوات التشويش وانعدام الثقة بين المواطن والنخب السياسية الفاعلة بحيث أصبح المشهد ضبابيا يصعب فيه الاختيار مما يشجع على العزوف للذهاب للصندوق يوم الاقتراع وبذلك نحصد ما زرعنا. فالتسرع في أخذ القرارات التي تأتي في آخر لحظة بعد تلكؤ وتحايل على الوقت وابتزاز لبعض الأطراف من أجل التلاعب بعقول المواطنين وبيعهم الوهم وتخديرهم للقبول بالأمر الواقع مع الاندساس الممنهج في دواليب الدولة والهيئات التقريرية حتى يسهل تطويعها وتوجيهها نحو الأهداف المرسومة مسبقا. فبن علي كان قد حصن نفسه بالقوانين جميعا عن طريق خبراء لا يشق لهم غبار وزاد على ذلك بالاستعانة بالمشعوذين والقوة والمال لكن لم ينفعه كل هذا عندما هب الشعب وانتفض وانتهى به الأمر هاربا وترك مريديه وأتباعه يتجرعون مرارة ما فعلوا رغم عودة بعضهم للساحة السياسية ضمن صفقة غير بريئة. وحتى إن لم تتم محاسبتهم لقصر نظر بعض الأحزاب الانتهازية فإن التاريخ لن يرحمهم ولو بعد حين والذاكرة الشعبية لا تنسى الظالمين والفاسدين والمنافقين وأصحاب السوء والمتسببين في الاستبداد وتجويع الناس وقهرهم ونشر التخلف والفقر والبؤس في البلاد. وبما أننا بشعبنا ونخبنا قد استهوتنا لعبة السياسة الخادعة والركض خلف الكراسي الفارغة واللعب بالكلمات الرنانة و تمضية الوقت في ما لا يعني والنوم في العسل والعيش بمال الديون وتبديد الثروة في الرفاهية المزيفة والمشاريع السياسوية وتركنا العمل الجاد والمثمر فقد كان التخلف لنا استحقاقا ونتيجة طبيعية و حتمية. والخطر المحدق هو أن تنتج الانتخابات المقبلة شخوصا فاشلة وكيانات هشة ضعيفة ومترددة لا تتماشى مع أهداف الشعب الحقيقية فنسير بذلك على نفس منوال الثلاث سنوات الماضية والتي لم نحصد منها غير الخيبة والتقهقر والفساد. فقد أثبتت التجربة الماضية أن السياسة المبنية على الايديولوجيا الحزبية الضيقة وتكريس هيمنة الزعامة والحكم بالعصا الغليظة والجهويات والعشيرة والقبلية والشللية قد أدت إلى انسداد في الأفق وتخلف وعدم توازن بين الجهات وانتفاضات متكررة وعدم استقرار مدمر. وإذا تمت إعادة المشهد على أساس الهوية والصراع الأيديولوجي فيا خيبة المسعى لأن هذا التوجه لا يورث غير الخيبة والدمار وتفتيت الدولة وإضعافها وتبديد الثروة. فالصراع الحقيقي هو حول المشروع الذي سينهض بالبلاد وتلتف حوله كل القوى الحية للقضاء على الفقر والبطالة والتخلف والفساد. وتخلفنا الذي نتوارثه منذ زمن بعيد أب عن جد هو صنيعة أنفسنا وجهلنا بواقعنا وتشتت قوانا الذاتية وصراعاتنا التافهة وانبطاحنا للأجنبي عوض تفاهمنا مع بعضنا وعدم قدرتنا على حسن التصرف في مواردنا المادية والبشرية ولهذا فتخلفنا شيء مستحق ولا يمكن تبريره إلا بضعف في إرادتنا الذاتية البحتة. وبدون هذه الإرادة الخلاقة والمبدعة الموجودة فينا والمغيبة بفعل الدجل السياسي وحب الذات والأنانية الشخصية فلا يمكن تحقيق أي شيء إيجابي ومفيد وسيتواصل صراع الزعامات والأيديولوجيات وحرب المواقع مما يخلق مناخا من الشك والريبة والتردد في كل القطاعات والمؤسسات وتنتهي الأمور إلى مأزق وانحلال وتدهور في جميع المؤشرات مثلما يحدث الآن.