كان الشيخ متولي الشعراوي في خواطره قد وصل لسورة "مريم"، وركز حديثه عن تصور القرآن للمسيح، وأنه كلمة الله وعبده، وليس إلها.. كان حديث الشيخ كتابيا من نصوص القرآن، ومع ذلك ثارت خواطر بعض الأقباط، باعتبار أن تصدير الآيات الناقدة للتصورات المسيحية المعاصرة، من شأنها تكدير الصفو العام، حتى لو كان النقد نصيا كتابيا. تجدد هذا الجدل مع كتابات الدكتور زغلول النجار وحديثه عن الكتاب المقدس، بالطبع نفس الكلام ينسحب على الوعظ المسيحي عند حديثه مثلا عن اليهود، حيث تسمع دوي الكتاب المقدس، الناقد لليهود، وجريمة صلب المسيح، بحسبانها أسوأ جريمة في التاريخ، فضلا عن الحديث عن رفض أي نبي بعد عيسى ابن الله بحسب الإيمان المسيحي، وكل نذير عاقب هو كذوب، ويسرف البعض في رفض الآخر، ويسمه بالوثنية مهما كان موحدا، ولا يسلم المقام النبوي المحمدي من ذلك التكذيب، حتى معرفة الله الواحد عند المسلمين مدانة عند المصلح البروتستانتي جون كلفن؛ لأن الله أوحى بالقليل من الحقيقة لغير المسيحيين حتى يزيد في إدانتهم!!
إذن النصوص المقدسة والكثير من شروحاتها، لديها حمولاتها النقدية تجاه العقائد المخالفة، والتصورات المنشئة للعقائد بطبعها، تضع نفسها داخل يقين مغلق واقٍ، يفترض في نفسه كلية الصحة، وما عداها باطل، وهذا هو حديث الدين للدين، وتلك لغة رجال الدين؛ لغة المطلقات، فكيف نضبط حركة تلك اليقنيات أثناء تجاورها في المجال العام المصري؟؟ القانون المصري يمنع التجاوز والسب، وفق تكييف قانون الازدراء، ولكن هل يمتد التجاوز لمن يشرح نصه الديني، ولاسيما أن النصوص محملة بنقدها، للعقائد، ونقلها وشرحها للأتباع واجب ديني، والطرفان يرفضان تمشيط النصوص لترضية النفوس، والطرفان يريان أن لهما حقا في تثبيت الإيمان في نفوس الأتباع، وكل طرف لا يستغني عن إقامة الحق الذي يراه. صدام الدعوة والبشارة كما أن للمسلمين خاصية الوزن الكبير الذي يجعل الصبغة العامة تصطبغ به، وبحكم أنه دين لا يتجلى في المؤسسات بل في المجال العام، حبسه في المسجد يخنقه، بعكس المسيحية لا تزدهر إلا في المؤسسة، مفرقة بين "الله" الذي يتجلى في المؤسسة، "وقيصر" الذي يتجلى في المجال العام؛ بسبب تلك الخاصية تصبح لغة المسلمين مشهودة ومرصودة، بعكس اللغة المسيحية المحمية بالأسوار والأسرار، والقداسة. ولعل خروج بعض رجال الدين المسيحيين في الحديث على الفضائيات بشكل غير لائق عن المسلمين كان صدمة كبيرة للبعض؛ لأنه لا يعلم أن ثمة دراسات لاهوتية داخل المؤسسات الدينية عن الإسلام ولها مؤسسون ورواد لعل أشهرهم القمص إبراهيم لوقا، ويستمر هذا النهج وفق ما رصدنا في اتجاه مجلة الكتيبة الطبية في مقال سابق، وبالتالي كنيسة اليوم لم تعد كنيسة الأمس، صارت الكلمة تخرج للعلن، والبشارة تعلن على الفضائيات وعلى الإنترنت. والحديث الديني داخل المجتمع المصري مثلا، ليس دخيلا بل هو جزء مما هو موجود ومعيش، والدين ساطع بمؤسساته داخل المجال العام فليس هناك شيء من الخارج، بل هو من الداخل ومندمج داخل القيم والثقافة، والعلاقات الإنسانية، ولكن كل حديث ديني لا يخلو من جدل في الله تعالى، وبالتالي عند تلاقي الجدل الديني في المجتمع، فليس كل لقاء مشرق، بل يتضمن نفيا للغيرية، وإثبات حصرية النعمة والخلاص والنجاة، وأن كل طرف لديه رهاناته الجامعة المانعة "ولا شيء خارجه سوى الشر واللعنة والهاوية والعدم.".. كما يقول الكاتب اللبناني وجيه قنصوة. وهنا يتحول السجال الديني إلى نوع من النزاع الاجتماعي والديني، والسجال أداة من أدوات التعصب والتطرف والانتقام، ولا يمكن أن يكون دعوة للتفكير. فقه التعايش في القرآن القرآن في ذلك السياق ضبط مصطلحات التخاطب والتوصيف.. حيث يميز القرآن بين مصطلح الكفر كموقف لاهوتي اعتقادي، يعني وضع الضوابط بين العقائد والديانات التي لا تؤمن بمحمد كنبي أو رسول، وفي نفس الوقت ضبط التوصيف القانوني "أهل كتاب" بحيث لا تسري عليهم أحكام المنكرين لله أو الوثنيين، وهي اصطلاحات قانونية ولاهوتية تهم المتخصصين فقط. فالكفر قرآنيا مصطلح عقدي فني وليس مصطلحا للتخاطب الاجتماعي، والفرق بين المستويين مهم، حيث إن الأول مصطلح علمي إجرائي يستخدمه المتخصصون، بخلاف مصطلحات غير المسلمين أو أهل الكتاب.. استخُدم مصطلح "أهل الكتاب" لأجل تسليط القرابة الروحية والإيمانية بحسب الشيخ شمس الدين، فهو مصطلح تخاطب اجتماعي ولا ينبغي الخلط بينهما فثمة فرق بين ما يستخدمه المتخصص، وما يستخدمه العامي، فالقرآن في موقف التبيان يحدد من المؤمن ومن الخارج، وفي موقف التعايش يتحدث بتوصيف آخر وهو أهل الكتاب، ومن ثم الإعلام والنشر والإذاعة ليست من أطر تبيان الفروق القانونية العقدية؛ لأنها من وسائل المجال العام ومن سياقات التعايش. ومن المحظور في الثقافة الإسلامية، أن يلوك العامي مباحث علم الكلام والعقائد، على نحو ما قرر أبو حامد الغزالي حول "إلجام العوام عن علم الكلام"، وهناك داخل الفكر الإسلامي اتجاه يمنع نشر هذه المباحث، حتى بين الخاصة فمثلا كتب أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي كتابا بعنوان (ذم الكلام وأهله)، وكتب موفق الدين بن قدامة المقدسي كتاب (تحريم النظر في كتب أهل الكلام). يقول الأستاذ البشري: "الخطاب الحواري لا يتعلق بالعقائد والمرجعيات العقدية، إنما يتعلق بآثار العقائد والمرجعيات الفكرية في التصرفات الاجتماعية والسلوك البشري وفي التعامل بين الأفراد والجماعات، وهذا في ظني هو المجال الذي أوصى الإسلام المسلمين بالنشاط فيه، وهناك أمثلة كثيرة توضح لنا كيف يكون التمييز والحسم في مجال العقيدة، وكيف يمكن التدخل والتخلل في المجال الاجتماعي بين أهل العقائد المتباينة؛ لأن المجال العقدي يتعلق بالمطلقات، والمجال الاجتماعي يتعلق بالنسبيات التي تحسب المقادير وتقبل التجزئة، وتقبل التعايش والمجاورة". وبالنسبة للخبرة المصرية، فقد كان منطق التعايش هو الأكثر سيادة، ومثلا في ثمانينيات القرن العشرين عندما كتب الراحل وليم سليمان قلادة عن الحوار بين الإسلام والمسيحية كان من رأيه أنه ليس حوارا دينيا فالمطلقات لا تتحاور، وسماه الدكتور العوا الحوار بين أهل الأديان، يقول الأستاذ طارق البشري: "الخطاب الحواري لا يتعلق بالعقائد الدينية؛ لأن العقائد الدينية في جوهرها ترتكز على المُطْلقات، وليس على النسبيات، وهى تقوم على اليقينيات وليس على الظنيات، والمطلق بموجب إطلاقه يكون غير قابل للتقسيم ولا للاجتزاء، وهو إذا انجرح لا يبقى منه شيء، وهو إما موجود بتمامه وكماله أو غير موجود ألبتة؛ لذلك لا أتصور أن يقوم ثمة تداخل بين مطلقات متباينة ومختلفة؛ لأن حدود المطلق هي من جوهره بحكم عدم القابلية للانجراح أو الاجتزاء، ومن ثم فليس ثمة تدرج في التمسك العقدي بالمطلق، إنما كل ما يمكن أن يوجد هو التجاور بين المطلقات مع القابلية للاحتمال والتقبل، وهذا ما يتعين التركيز عليه". ولم تعرف مصر السجالات الدينية ذات الطابع العنيف والجماهيري، إلا مع بعض الوافدين، خصوصا من الشام، وتحمل المجال العام المصري ضغوطا دينية كبيرة، لكنه كان منضبطا ورصينا، مستوعبا تلك الاختلافات منتصرا للتعايش، وإذا كنا في أسر التجربة المصرية، والاهتداء إلى خبرتها في الحوار الديني الذي أخذ الطابع السجالي، فمن المؤكد سنقف أمام تجربة الإمام محمد عبده وكتاب "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" وهو يضمن خمس مقالات رد بها الإمام على فرح أنطون ونشرت على مجلة المنار. وهناك تجربة أحمد فارس الشدياق وهو شامي أيضا وأسلم، وله كتاب في نقد الأناجيل سماه: مماحكات الأباطيل في مناقضات الإنجيل، أيضا الشيخ ميخائيل منصور الذي تنصر وقد كان رجل دين إسلامي صوفيا، ولم تقبل الكنيسة الإنجيلية تعميده، فسافر لبابا الفاتيكان بعد أن عمدته الكنيسة الكاثوليكية، والتقطت له صورة بالجبة والقفطان في أواخر سنة 1895 وصار بعد ذلك من أنشط المبشرين في مصر، ونشرت قصته بتقديم القس المبشر الدكتور زويمر الذي طالب في كتابه الشهير "الطريق إلى قلوب المسلمين" بالاستعانة بسيرة ميخائيل من أجل خلخلة يقين المسلمين. فضلا عن تجربة المؤسسة الدينية المصرية التي نأت بنفسها عن الجدل الديني العام، ولم تكن جزءا فيها في لحظة ما، وعندما كتب أمين الخولي كتابه "صلة الإسلام والمسيحية" والذي قدم له الإمام المراغي شيخ الأزهر، حيث قال: إن "البحث العلمي النزيه عن اتصال الأديان، وآثار ذلك الاتصال خطوة صالحة في سبيل السلام الإسلامي". وكان الدكتور العوا قد أفتى بحرمة تداول أشرطة سودانية يتحدث فيها قساوسة سودانيون عن إسلامهم، حيث رأى أن ذلك يكدر الأمن الاجتماعي، ولن يفيد مجتمعا متعددا متعايشا مثل المجتمع المصري. وذات يوم كتب الاستاذ فهمي هويدي في جريدة الاهرام في عام 88" اسمحوا لنا أن نسجل اعتراضا صريحا على مايصدر من بعض الدعاة الاسلاميين من مقولات تمس الاقباط وتنال من عقائدهم .فمبلغ علمنا أن ذلك ليس من تعاليم الاسلام ،ولا من أدبه .فضلا عن أننا لانتصوره من مقتضى حسن الخطاب أو الغيرة على الدين ..وهي تجرح وجه الاسلام ذاته وتشوه مشروعه الحضاري الذي نزعم جادين بانه قادر على صياغة حاضر الامة ومستقبلها،في ظل تنوع مكوناتها الدينية والسياسية وأذكر تجربة الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي والذي يجمع بداخله وجوها مهمة في الثقافة العربية، حيث رفض -لاسيما مكونه المصري- تسربَ خبرات أخرى مجاورة خاصة بالحوار العقائدي للخبرة المصرية أو خبرة الفريق، وأجمع الوفد المصري باختلاف أطيافه السياسية والدينية على رفض هذه الخبرة، باعتبارها غير صالحة للمجتمع المصري. لكن من المهم أن تبادر الجهات المسيحية الرسمية إلى موقف صريح من بعض القنوات والمنابر الدينية التي تتهم الإسلام بالوثنية، وأن يكون هناك موقف من القمص زكريا بطرس بسبب أنه يسيء للإسلام، ومعروف أن مشاكل القمص زكريا بالنسبة للكنيسة كانت بسبب أفكاره التي كان يرى البعض أنها قريبة من البروتستانتية، وأنه سافر خارج مصر بسبب دوره في التبشير. ضوابط التحاور تحولت تلك الخبرة إلى حالة سجال ديني ناتج عن تمدد التعصب والتفكك الاجتماعي حينا، وناتج عن تمدد حالة الاحتجاج الديني أحيانا، وناتج أيضا عن تمدد حالة المبارزة الدينية والسجال بين التبشير والدعوة، والمنافسة من أجل تحقيق انتصار عقائدي من كل طرف على الآخر، في حالة تشبه المباراة الدينية للفوز بحالة الثقة العقدية في مواجهة الآخر. بالتالي يجب التصالح داخل المجال على لغة حوارية دينية داخل المجال العام المصري، يجب أن تراعى فيه أولا أننا شركاء في وطن واحد يجب أن يستمر وطنا مستقرا، تمثل فيه الكلمة الدينية هي الفكرة السواء المشتركة الداعمة. النص المقدس هو مؤسس الديانات؛ وبالتالي يجب ألا تجرم نصوصه، ولا محاولات شرحه بطريقة علمية ومنهجية؛ لأنها يفهمها البعض بشكل يمثل تهديدا له، وبالنسبة للقرآن مثلا في داخل سياقه لم يطبق آيات النقد العقائدي "لقد كفر" على الجانب الاجتماعي، بل لم ينسحب النقد اللاهوتي إلى مساحة التعايش. وإذا كان الدعاة مهمومين بهداية الآخرين، فيبدو أنه لا مجال أمامهم إلا توسعة مساحة التعايش أو ميدان السبق نحو الخدمة والقدوة مع أهل الكتاب، ولا يجر تبيان الفروقات العقائدية إلى المجال العام، ويجب أن تقوم المؤسسات الدينية بواجبها في رعاية التوافق. ------------------------------------------------------------------------