بعد الهجوم الإرهابي على متحف «باردو» يوم الأربعاء قبل الماضي الذي شكل كارثة حقيقية على البلاد، لجهة أن الإرهاب «الداعشي» بات يشن الحرب المعلنة على تونس، طرح رئيس الجمهورية التونسية السيد الباجي قائد السبسي في خطابه بمناسبة الاحتفال بالذكرى ال59 لاستقلال تونس التي صادفت يوم 20 آذار الجاري، مسألة مهمة جداً، تتعلق بمشروع قانون للعفو والمصالحة الوطنية. ويهدف هذا المشروع حسبما أوضحه المستشار السياسي لرئيس الدولة محسن مرزوق إلى إحداث إصلاحات هيكلية وجوهرية «مؤلمة» لتحقيق العفو والمصالحة السياسية الشاملة، كما يرمي هذا القانون إلى المصالحة الاقتصادية من خلال النظر في ملف رجال الأعمال والعفو عن الأموال في الخارج وأيضا مصالحة التونسي مع العمل.. وسيشمل هذا الإصلاح القطاع البنكي والصحي والتربوي... إن التركيز على موضوع المصالحة الوطنية في هذا الظرف السياسي والتاريخي الذي تمر فيه تونس، ليس بريئاً لأسباب داخلية وأخرى خارجية. فحزب «نداء تونس» وزعيمه التاريخي السيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية يقع في الخطأ التاريخي نفسه الذي وقعت فيه حركة «النهضة» الإسلامية عندما استلمت السلطة عقب انتخابات 23 تشرين الأول 2011، وهو عدم إدراك أن الشعب التونسي الذي صنع ثورته، وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد، وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي التي أدّت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة، وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة التي تعد أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس. لكن رؤية رئيس الجمهورية للمصالحة الوطنية تقوم على طي الملفات الكبرى التي لا تزال موضوع خلاف في المجتمع التونسي، بين فئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق الذين في معظمهم ينتمون إلى «حزب التجمع » المنحل، وفي الانتخابات الأخيرة ركبوا موجة «حزب النداء» الذي أصبح حاكما في البلاد، وبين طبقة سياسية جديدة استولت على السلطة بعد انتخابات23 تشرين الأول 2011، وأصبحت تلقب بطبقة الأثرياء الجدد التي لم تكن لها نظرية للاقتصاد، بل هي انساقت في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولاياتالمتحدة الأميركية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية عقب وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، ولم تقم بمراجعة نقدية للأنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائداً في تونس، حيث وصل إلى مأزقه المحتوم، وأسهمت سياساتها في التساهل والتغاضي عن تنامي ظاهرة الإرهاب الذي استوطن في تونس. في قراءة نقدية لموضوع المصالحة الوطنية التي طرحها رئيس الجمهورية، يعتقد المحللون السياسيون الملمون بالشأن التونسي، أن هذا الخطاب موجه تقريباً للأحزاب التي تتشكل منها حكومة السيد الحبيب الصيد، وهو ما بدا واضحاً أن هذه الأحزاب جميعها تعد نفسها أنها راكبة في مركب واحد، وتشارك في رسم سياسة الحكومة الجديدة، ويسودها التجانس في عملها تحت قبة البرلمان، ولا يوجد أثر لخلافات تُذكر بينها وبين الحزب الحاكم أو بينها وبين الرئيس الباجي قائد السبسي الذي يسعى جاهداً، تحت وطأة ازدياد وتيرة الحرب على الإرهاب، والضغوطات التي تمارس على تونس من قبل المؤسسات الدولية المانحة، والدول الغربية، والمصاعب الاقتصادية في الداخل، إلى أن يلملم الوضع بين مكونات المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بشكل يطوي الملفات الكبرى التي مازالت محل خلاف، وبشكل يمكن أن يكون نظريا حافزا لعودة العمل أو بالأحرى لتكثيف العمل من جميع الأطراف لمواجهة التحديات التي فرضتها حالة الحرب على الإرهاب، والوضع الاقتصادي الكارثي في البلاد، لكنه عمليا يعني بالضبط طي ملفات الفساد والإثراء الفاحش على حساب الشعب المفقّر، وحتى ملفات التواطؤ مع الإرهاب، ولا سيما التساهل مع الأبحاث المتعطلة والمتعثرة إلى الآن بشأن قتلة الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. فهناك أطراف ستستفيد من هذه المصالحة الوطنية، وهي من دون شك فئة رجال الأعمال الذين سيعودون إلى أعمالهم من دون محاسبة في انتظار أن يقول القضاء كلمته، وفئة السياسيين والأمنيين الذين ارتكبوا أخطاء في إدارة البلاد ولا عتب عليهم بعد اليوم، حيث تعهد رئيس الجمهورية لهم حتى بالاحترام الحرفي والالتزام الكامل بكل ما اتفقوا عليه مع الآخرين، والمقصود بالتأكيد الأشقاء في ليبيا والعلاقات مع تركيا وقطر، وهو ما سمّاه الرئيس السبسي استمرارية الدولة وإيفاءها بتعهدات الحكومات السابقة من دون استثناء. أما المتضررون من هذه المصالحة، فهم بكل تأكيد، الطبقات الشعبية والفقيرة والعاطلون عن العمل، والمساجين السياسيون السابقون في عهدي الديكتاتورية السابقة، لأنهم هم وحدهم من سيدفع الثمن، بلا شك، سواء في المزيد من ارتفاع الأسعار والمعيشة، أو في تجمد الأجور، أو كذلك في تحمل نفقات الأمن، وفي تحمل تبعات مكافحة الإرهاب أيضا، بما قد يعنيه ذلك من تضييق على الحريات أو تراجع عن مكاسب التعبير والتنظّم، على حدّ قول مثقف تونسي. ومن المنتظر أن تتقدم رئاسة الجمهورية بمشروع قانون العفو والمصالحة الوطنية إلى مجلس نواب الشعب في المرحلة المقبلة للتصديق عليه وهذا يتناقض بكل تأكيد مع مسار العدالة الانتقالية التي تضطلع هيئة «الحقيقة والكرامة» التي تترأسها السيدة سهام بن سدين بتحقيق أهدافها. ولتوضيح الخيط الفاصل بين مشروع المصالحة الوطنية المستقل وعمل هيئة «الحقيقة والكرامة» بيّن العضو في الهيئة خالد الكريشي أن الدستور في فصله 148 وتحديداً في النقطة التاسعة ينص على أن الدولة ملتزمة بمسار العدالة الانتقالية ولا تعارض ذلك بسقوط الدعوى أو بمرور الزمن، مشيرا إلى أن إحداث مشروع العفو والمصالحة الوطنية يعد انقلاباً على مسار العدالة الانتقالية وخرقاً للدستور وهو انتحار سياسي لأن هيئة «الحقيقة والكرامة» مكلّفة بكشف الحقيقة والمساءلة والمحاسبة، أما المصالحة فتأتي بعد ردّ الاعتبار، وبالنسبة إلى ملف رجال الأعمال قال خالد الكريشي: ان الهيئة تلقت ملفاتهم وهي بصدد النظر فيها. وتالياً يرى الكريشي أن رئيس الدولة لن يقدم على خطوة فيها خرق للدستور. وترى رئيسة لجنة الحقوق والحريات النائبة عن حركة «نداء تونس» بشرى بلحاج حميدة أن المصالحة الوطنية في معناها الأمثل تتم في إطار العدالة الانتقالية لكن اليوم وبعد مرور 4 سنوات فإن العديد من رجال الأعمال تمت محاسبتهم بالطرق القضائية وباستعمال الابتزاز وبتحجير السفر وإذا تواصل هذا ستنهار البلاد اقتصادياً، وأوضحت بلحاج حميدة أن مشروع المصالحة الوطنية لن يشمل الذين ارتكبوا جرائم أو لديهم أملاك مصادرة. وعدت من ناحية أخرى أن الإشكال اليوم في هيئة «الحقيقة والكرامة» ليس في تركيبتها وإنما في قانون العدالة الانتقالية في حد ذاته الذي صدق عليه المجلس التأسيسي في ظروف مضغوطة ولذلك تعطل مسار العدالة الانتقالية كثيرا.. وأشارت إلى أن الهيئة من الأفضل أن تعمل على حفظ الذاكرة من أجل عدم العودة إلى ممارسات الفساد والاستبداد ويتم تفكيك منظومة الفساد وإنما لا يتم تغليب منطق التشفي حتى يحاسب الأشخاص مرتين ويتعرضوا إلى معاملة غير عادلة ولذلك يكمن الحل في مشروع المصالحة الوطنية الذي لن ينسف فكرة المساءلة وإنما سيكون في مصلحة البلاد عبر النهوض بالاقتصاد.كما تطرقت بشرى بلحاج حميدة إلى نقطة أخرى إذ قالت إن الدولة في هذا الظرف وفي حربها على الإرهاب سيساعدها مشروع المصالحة الوطنية في الحرب على آفة الإرهاب لأنه يدخل في إطار الوقاية من هذه الآفة. يبقى أن أعظم جرائم نظام بن علي السابقة، تقع في الحقل الاقتصادي، وهنا يدور اختبار أساس لتحقيق أهداف الثورة، والمصالحة الوطنية، فقد اتضح أن أوساط المال والأعمال مسؤولة جداً عن مساندتها للنظام السابق، وأسهمت في تعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء. ومن هنا فإن تحصين الثورة يبدأ ليس بالإقصاء لطرف سياسي، لأن هذا الإقصاء جزء من عملية التطهير الستالينية الشمولية، بل يجب اعتماد ضريبة للنمو، تفرض استثنائياً على الشركات والمداخيل الخاصة، إضافة إلى ضرورة تطبيق قانون العدالة الجبائية على فئة كل رجال الأعمال مع مفعول رجعي على أرباح مؤسساتهم، وتوظيف هذه الأموال في استثمارات منتجة تخدم مشاريع التنمية في الولايات الفقيرة والمهمشة. ولهذا السبب عجزت حركة «النهضة» عن مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس في زمن ما بعد الثورة، لأنها لا تعرف حاجات الشعب التونسي الاقتصادية والمعيشية فلم تهتم بها، وأخفقت أيضاً في بلورة خطة حقيقية للتنمية المستدامة تقطع مع نهج التبعية، فحافظت على عقد الصفقات المشبوهة مع الليبرالية الجديدة المتشكلة من نهابي مرحلة بن علي المخلوع، وتركت البلد للأغنياء الذين سبق أن مارسوا جميع أنواع النهب في عهد النظام السابق، واعتمدت على الاستثمارات الأجنبية وعلى السياحة، وعلى ما يرد من دول أجنبية وشركات خاصة من دون أن تقدم برنامجاً لعمل الإنتاج الزراعي والصناعي، أو حتى الخدمي. وهاهو حزب «نداء تونس» الحاكم الآن، والسيد الرئيس الباجي قائد السبسي يسيران في الطريق عينه. فالحكام الجدد لتونس اليوم يتصورون أنّ الدولة لابدّ من أن تكون مرتكزة على «المحاصصة»الحزبيّة، تُسيّر بمنطق العصبيّة والغنيمة والولاء لمن حازوا الشرعيّة ومثّلوا الأغلبيّة، من دون التفطن إلى خطورة التنكّر لوعود قطعوها حين صرّحوا أنّهم «سيعملون جاهدين على تحقيق العدالة الاجتماعيّة والعدالة الانتقاليّة ومن ثمّ إرساء الدولة المدنيّة أو دولة المواطنة». في البلدان التي مرّت بمرحلة الانتقال الديمقراطي، وتحقيق العدالة الانتقالية، تتوج عادة هذه المرحلة بمصالحة وطنية شاملة، تشكل التجاوز التاريخي لحجم الجرائم المرتكبة في هذا البلد أو ذاك. أما في واقع تونس، فإن المصالحة الوطنية لا تزال مطروحة بقوة في ظروف الأزمة العميقة التي تعيشها البلاد التي تستوجب بناء نظام ديمقراطي جديد، وبلورة منوال تنمية جديد يقطع مع نهج التبعية.. بيد أن حجم الجرائم المرتكبة في ظل النظام السابق، وعدم إنجار أهداف الثورة التونسية، ولا سيما، إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية وتحقيق العدالة الانتقالية، باتا يشكلان تحدّياً كبيراً أمام المصالحة الكاملة مع الذات في تونس. عن صحيفة تشرين