ليس كثيرا على حادثة الإفك أن تُخَصَّصَ لها سلسلةُ خطبٍ جمعيّةٍ... فقد كان ذلك ما همّ بفعله الشيخ سيّد عوض، لولا أنّ أحداثا فرضت نفسها فغيّرت المسار إلى الحديث عن الهجرة والتنقّل بين الأمكنة والاندماج فيها!... استهلّ الشيخ الموضوع بالحديث عن طبيعة وواقعيّة الانتقال (انتقال النّاس والحيوانات)، وأنّ الأرض كلّها لله يرثها من يشاء من عباده... ثمّ تطرّق إلى ما يجب الحديث فيه وعنه هذه الأيّام، لا سيّما بعدما استغلّت الصحافة الدّنماركيّة قلّة وعي بعض المتكلّمين المحسوبين على الإسلام المتبوّئين لمواقع الخطابة فيه، فتحدّث مشكورا عن معالم أو عن أنواع الاندماج في المجتمعات المنتَقل إليها... فعدّ ثلاثة أنواع: رافض اندماج، منغلق على نفسه مُخندِقها... وذائب بالاندماج، ماسخ نفسه مُهلِكها... ومضيف بالاندماج إلى قيمه ما حسن من قيم المجتمع الجديد... فأمّا المتخندق، فقد أساء فهم دينه فانحرف وشدّد على نفسه ومنعها حتّى كاد ينجرف، مع أنّ الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ينادي مترفّقا [إنّ الدين يسرٌ، ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغُدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة]، ويُرشد عليه الصلاة والسلام بقوله [المؤمن الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم أعظم درجة من الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم]... وأمّا الذي يذوب ذوبانا كاملا، فقد لا يتردّد في تغيير دينه واسمه وجميع سمته، يأخذ من المجتمع الجديد ولا يعطيه، بل لعلّه لن يتردّد في خيانة مبادئ المجتمع الجديد والإساءة إلى قيمه وهو حديث عهد بالتنكّر لمبادئه الأصليّة وقيمه التي جاء بها، فهو كذلك ممسوخ لا قيمة له ولا إضافة... وأمّا الصنف الوسط الذي يجب علينا أن نكونه، فهو ذاك الذي يحافظ على قيمه ويسعى لاختيار أحسن قيم المجتمع الجديد، حتّى إذا رُئي ذا قيمة، يُحسن التعامل مع النّاس في إطار لا ضرر ولا ضرار، سارع المجتمع المستقبِل للاستفادة ممّا فيه من خير، فكان فيه إضافة لا يُستهان بها وقيمة لا تتسلّقها وسائل الإعلام المركوز فيها حبّ التصيّد في الماء العكر!... ثمّ توقّف الشيخ عند أمر مهمّ جدّا قد يُغفله الحريص على الاندماج، فتحدّث عن عدم التنازل عن العقيدة وضرورة الثبات على الحقّ وعلى مبادئ الدّين الخاتم... ولمّا أراد عمرو بن العاص تأليب النّجاشي على المهاجرين الأوائل، أصحاب جعفر الطيّار رضي الله عنه، دعاه إلى طرح الأسئلة المحرجة عليهم - تماما كما تفعل الصحافة اليوم - مشيرا بسؤالهم عن مريم عليها السلام وعن عيسى عليه الصلاة والسلام... فلم يضطرب جعفر ولم يبحث عن طريقة للمواءمة بين ما بات يعتقده المنحرفون وبين كلام الله الحقّ، بل اندفع يردّد كلام ربّه جلّ وعلا يحطّم به أقوال المشركين المتحدّثة عن ثالث ثلاثة وعن ابن الله وعمّا لا يقول به مؤمن، فكان ذلك خير مخرج لجعفر وإخوانه، إذ صادفت قراءة سورة مريم قلبا ذلّله الله تعالى فأنتج بحرا من الدّموع بللّت اللحيّ الكثيفة!... ليس لداعية أن يجتهد في النّص واضحِ البيان... وليس لمؤمن أن يخوض فيما يتعارض مع وحدانيّة الله تعالى مهما اشتدت عليه الخطوب وتعسّرت الابتلاءات، ويوم تردّدت ماشطة بنت فرعون وضعفت أمام انتزاع رضيعها منها، أنطق الله تعالى الرّضيع فقال: يا أماه اصبري فإنك على الحق... حقّ لا بدّ من النّطق به والصبر عليه، حتّى يرث الحقُّ الأرض ومن عليها...
ثبات على الحقّ يزيّنه فنّ النّطق به، كي لا يكون صادما أو منفّرا... فها هم الصحابة الأجلّاء يغضبون لجرأة الفتى على سؤال الإذن له بالزّنا، ويهمّون بضربه، لولا وجود الحامي الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فقد بادر بقوله: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبّه لأمّك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لأمهاتهم، قال: أفتحبّه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لبناتهم، قال: أفتحبّه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لأخواتهم، قال: أفتحبّه لعمّتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لعمّاتهم، قال أفتحبّه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهّر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء!... فهل يفلح مشايخنا الكرام في تناول القضايا باعتماد الأولويات المبعدة عن الخوض فيما يُلهي حتّى لا تكون الصحافة في هذه البلاد تلتفت إلى شيء... بل هل يفلح المسلمون في الأخذ بفنون الصنف الثالث الذي وصّفه الشيخ، فيكونوا إضافة بارزة لا تمكّن الصحافة أو اليمين المتطرّف في هذه البلاد وغيرها من بلاد الدنيا من الالتفات إلى شيء!... عبدالحميد العدّاسي، الدّنمارك يوم 04 مارس 2016