ذلك ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أُخْبِرُوا كأنّهم تقالُوها (أي وجدوها قليلة ورأوا في أنفسهم أنّهم يؤدّون من الطّاعات أكثر منه) وقالوا: أين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم :أمّا أنا فأصلّي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدّهر أبدا ولا أفطر، وقال الآخر وأنا أعتزل النّساء فلا أتزّوج أبدا، فجاء رسول الله ( إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أَمَا والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنّي أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»(1). وغير هذا كثير ممّا يدعو إليه الدّين للسّعي للكسب ليعيل المرء نفسه وزوجه وعياله، كيلا يعيش متواكلا على غيره. قال تعالى :» وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا «(2). فالدّين لا يحبّ المغالاة في التّزهّد والانعزال عن النّاس، «والإنسان الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم»(3). فالدّين ينشد التوسّط والاعتدال حتى في أداء الطّاعات الدّينية؛ وكذا نتبيّن أنّ التّديّن خير عنصر في توجيه النّاس -فردًا أو جماعةً- إلى العمل للدّين و الدّنيا من غير إفراط و لا تفريط. 2) ويتمثّل العنصر الثّاني في التّحمّس للمثل الأخلاقية العليا. فمن النّاس من آتاه الله تعالى قلبا رحيما، وحسّا مرهفا، ومشاعر رقيقة، واندفاعا غير محدود لخدمة الصالح العامّ أو مساعدة أخيه الإنسان لقضاء حاجته عن طواعية ومن غير طمع في شيء، يؤمن بالقيم الأخلاقية المثالية الإنسانية العالية. أغلب المؤمنين على هذا الخلق لأنّ التّديّن يغرس فيهم هذه القيم فيجعلهم حريصين على تجسيم قيم الأخوّة، والرّحمة والتّراحم، والرّفق، والتّآزر، وتلبية نداء النّجدة والإنقاذ في حياتهم العامّة و في علاقتهم ببعض و بالآخر. هؤلاء هم الذين يجسّمون الكمال الإنساني الحضاري، ويسهمون بالفعل في بناء الأمة العزيزة القوية المنيعة. قال ابن عاشور:»إنّ أمّة تنشأ على التّطبّع بالرّأي الصّحيح والتّخلّق بأخلاق الأخوّة، والمساواة، وحبّ الحرّية، وتوفير العدل لَأُمّةٌ خليقة بأن تعرِفَ مزيّة الوحدة، فتكون متّحدة، متوافقة، وتصبح كالجسد الواحد تراه عديد الأعضاء والمشاعر، ولكنّه متّحد الإحساس، متّحد العمل، فإنّ النّاس إذا كانوا سواء متحابّين انتفت عنهم دخايل الفساد بينهم»(4). وذكر أيضا:»فإذا بلغت الأمّة إلى غاية حَلَبَةِ مكارم الأخلاق على جمهورها، وسادت تلك المكارم في معظم تصاريفها زكت نفوسها، وأثمرت غروسها، وزال موحشها، وبدا مَانُوسُهَا، فحينئذ يسود فيها الأمن، وتنصرف عقولها. هؤلاء الذين يقدّرون أهمية العمل بالقيم الإنسانية الذين يشدّون بعملهم وثاق المجتمع، وتحفّز أعمالهم الأفراد على العمل وطلب العلم والتّنافس في الأعمال الخيرية، وينشئون الأجيال الهادئة المطمئنّة التي تساهم معهم في بناء حضارة الأمة المدنية. بهذه الأعمال تزدهر الحياة وتثمر وتنتفي مظاهر الفقر والحرمان، وتُطهّر القلوب من الأحقاد والحسد، وتختفي في المجتمع مظاهر الانحراف من سلب أونهب، ويسود فيه الأمن والأمان «والأمم التي تهتمّ بالقيم الرّوحية وتقدّر المعاني والمثل هي الأمم الأصيلة التي تبقى لأنّها تقوم على أساس قويم سليم، ومهما أصابها من مِحَنٍ أو مرّ بها من أخطاء فإنّها لا تلبث أن تعود لنفسها ومُثُلِهَا من غير أن ينالها الضّعف أو الخذلان لأنّ لها من أساسها الرّوحي ما يقوّم أخطاءها ويهديها إلى الطّريق المستقيم، وتبقى لأنّها تحمل من ورائها تقاليدها وتراثها الباقي وروحها المعنوية، وهذا بخلاف الأمم التي تعتمد على المادّية، ولا تأبه للمعاني والقيم الرّوحية، فإنّ مادّيتها الغاشمة تنزع بها إلى الأهواء والشّهوات التي يجرّ بعضها بعضا، حتّى إذا طغت المادّة والأهواء على الأفراد والمجتمع أصابها المرض واعتورتها العلل الخلقية والاجتماعية وانتهى بها الحال إلى الفناء الذاتي، وتذهب من غير أن يبقى لها أثر أو غناء. وتاريخ الأمم -قديما وحديثا- شاهد على مدى أثر القيم الروحية -وجودا وعدما- في تماسكها ونهضتها أو انحلالها وركودها»(5) ولاشكّ أنّ الدّافع لهذه الأعمال الخيرية المثمرة والمزدهرة والنّافعة التي ترفّ ظلالها على جميع أفراد المجتمع حين يكون مصدره العمل بتعاليم الدّين وبما حضّ عليه من أعمال البرّ والإحسان أنّه يضيف إلى هذه المزايا مزايا أخرى نفسية ذاتية، إذ يملأ نفوس العاملين سعادة وبِشْرًا بما يأملون من الحصول عليه ممّا عند ربّهم من الفضل والإحسان وما يرجونه، ويجعلهم قدوة، ويجري على ألسنة النّاس ذكرهم بما يرفع من شأنهم -من غير مِرَاءٍ- في حياتهم وبعد مماتهم أمثال هؤلاء الذين يمتدّ خيرهم لغيرهم، وينتفع بأعمالهم العباد والبلاد -هم حقّا- الأجدر بكلّ إطراء وثناء وتمجيد، وهؤلاء -هم حقّا- صفوة الأمة. هؤلاء هم المفلحون المبشّرون بكلّ فضل وبأعلى درجة من درجات النّعيم في الآخرة لأنّهم نزّلوا القيم التي حضّ عليها الإسلام في القرآن الكريم وعلى لسان الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم منزلة العمل والتطبيق: آمنوا وعملوا وأحسنوا و هذا من بعض مزايا التّديّن (يتبع) 1متفق عليه، حديث 143 في رياض الصّالحين 2القصص، الآية 77 3هذا من نص الحديث، رواه ابن ماجه والترمذي 4أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام، ص 133 5مجلّة منبر الإسلام- ع 3 س 30-1392 ه ص 126- أثر القيم الرّوحية في المجتمع المعاصر للدّكتور علي حسن عبد القادر