استهداف ممنهج ومتواصل تتعرض له مؤسسات الشعب الرسمية منها والمدنية، انطلق مع فرار "بن عليّ" واشتدّ عقب انتخابات 2011 وتركّز عقب انتخابات 2014. قلة قليلة من "القراصنة" الموشحين بالسواد تسللوا كالسّوس إلى مركب الوطن يريدون تحويل وجهته وإخراجه من منائه والإبحار به على غير هدى، لا يعنيهم أن يرتطم بالصخور أو يدمّر ماداموا لن يغرقوا وحدهم! ... تخطيط محكم وتدرّج كلما حققوا خطوة في مخطّطهم مرّوا إلى التي تليها! حقد غريب وعجيب، وأغرب من ذلك أنه يُقدّم في قوالب مُعلّبة مختلفة الأسماء: "حداثة" "تقدمية" "ديمقراطية" "ثورية" "نضال" "تحرّر" وكلها ادعاءات لا تصدقها الممارسة ولا الحكم النزيه أو المشاهدة من بعيد! غريب أمرهم يعارضون وهم في الحكم، ويحكمون وهم في المعارضة، تسللوا للإدارة والأمن والقضاء والمنظمات الإجتماعية والإعلام، يكذبون ولا يخجلون ويمكرون ولا يستحون ويتآمرون ولا يخشون! ورغم أن البوصلة في كل مشاكل الوطن تشير إليهم، فلنعد لموضوعنا وهو العمل الخيري أو ما يعرف بالعمل الإغاثي، هو مجال تجربة تونس فيه وليدة مازالت تحبو خلافا لكل بلدان العالم أو جلها فقيرها وغنيها وذلك لأن المخلوعين السابقين قد ضيّقا الخناق في هذا المجال حتى يوهما العالم بأن تونس جنّة وأن شعبها يرفل في النعيم يأتيه رزقه رغدا دون عناء أو شقاء، باستثناء بعض الجمعيات التي أسست لغرض الدعاية السياسية وذر الرماد في العيون، ونهب المواطنين نهبا مسلحا بالسلطة بدعوى التضامن الإجتماعي، ثمّ لا يُعرف بعد ذلك حجم الأموال التي جمعت ولا مجالات صرفها! اليوم وبعد أن فتح الشعب التونسي ب"ثورته" المجال أمام الجمعيات الخيرية لتنشط وتتنافس في الخير، تواسي الجراح، وتمسح الدموع، وتقلل من آثار التهميش والتفقير يحاول أعداء الخير وأد هذا النشاط وهذه الأبواب المشرعة لمساعدة المحتاجين وكسب الأجر. لست داعيا إلى أن يُترك حبل العمل الخيري على غاربه دون متابعة أو محاسبة، بل أدعو إلى عكس ذلك تماما، وأدعو إلى التدقيق في مصادر الأمول ومجالات صرفها! فليس كل من عمل في هذا المجال ثقة أو منزهه عن سوء التصرف أو خبث النيّة والمقصد! كما أنه ليس كل ثقة غير معرّض إلى الخطأ أو سوء التصرف في أموال الناس! لابدّ من صرف أموال المانحين أو المتصدقين في مجالاتها المنصوص عليها وأن لا تُحرّف عن مواضعاعها، فما دُفع مثلا "لإفطار الصائم" أو "أضحية للفقراء واليتامي" لا يصح أن يَشتري به "السيد المدير" سيارة رباعية الدفع حتى وإن سجّلها باسم الجمعية! نعم لتطبيق القانون المنظم لعمل الجمعيات ولكن دون سوء نيّة مسبقة وإضمار للإيقاع بالجمعيات الخيرية مهما حاولت التقيد بالقانون ومهما التزم القائمون عليها بالشفافية! فالرقابة غير النزيهة لن تعدم خطأ صغيرا أو زلة تضخمها وتنفخ فيها لتأد العمل برمته! وإن أي متابع محايد لما يحصل اليوم من استهداف لجمعيتي"تونس الخيرية" و "مرحمة الخيرية" يستنتج مدى المكر والاستهداف للجمعيتين المذكورتين رغم أن القائمين عليهما من ذوي الخبرة في المجال وممن مارس هذا العمل في البلدان الديمقراطية المتطورة مثل ألمانيا وبريطانيا، فهي بلدان نظام المحاسبة فيها أشد دقة في متابعة تحرّك الأموال خاصة لدى الجمعيات التي تنشط في الحقل الإسلامي، ومع ذلك لم تحصل على زلّات مسقطة. بعض "النخبة الحمراء" المتنفذة في المجالات المذكورة آنفا التي تمكنت من آليات "الحلّ والربط" تعتبر أن النشاط المدني "أصل تجاريّ" خاص بها لا يجوز التفريط فيه أو المنافسة عليه، من كان من أبناء "النمط" يفعل ما يشاء دون حسيب أو رقيب، ومن لم يكن من "النمط" فيجب أن يتم إسقاطه قبل الوصول "للإمتحان الكتابي" فإن وصله لابدّ من إسقاطه فيه، وأما إن جاوزه بقدرة قادر "فمجزرة الشفاهي" كفيلة بإردائه! هو فعلا مشهد كاريكاتوريّ يُذكّر بذلك المشهد المسرحي "المضحك المبكي" والذي فيه جنديّ في حالة طوارئ أمر بإطلاق النار على كل من يتحرك بعد الثامنة ليلا وإذا به يصوب بندقيته ويقتل مواطنا يجري، نصف ساعة قبل دخول الوقت المحدد، فلما أنّبه الضابط المسؤول ردّ عليه بقوله "القتيل ولد حومتي وأعرفه جيّدا ومستحيل يصل بيته خلال نصف ساعة"!! الأصل أن العمل الخيري يتكامل مع جهود الدولة في محاربة الفقر والخصاصة والوصول لمن لم تصل له الدولة، وهو عين العمل الذي قامت به وتقوم عليه الجمعيتان المذكورتان وربّما غيرهما من الجمعيات الناشطة في المجال! ومن خلال معرفتي ب"تونس الخيرية" و"مرحمة الخيرية" ومعرفة حرص القائمين عليهما على احترام القانون والتكامل مع جهود الدولة، أصبحت أشك بوجود جمعيات وئدت ظلما وقبرت لأن أصحابها ليسوا من ذوي "الأصل التجاري" سابق الذكر! قد يكون هذا المجال غيرُ مغرٍ لجماعة "الأصل النمطي" المذكور ذلك أنهم لم يتعوّدوا على انفاق المال والجهد وانتظار الأجر في يوم لعلّهم لا يؤمنون به أو لا يعولون على قدومه! وقد تعوّدوا على قبض الأموال في شكل جوائز أو مكافآت أو أموال مشروطة بمشاريع تخدم أهدافهم المعروفة، ولذلك تراهم يحاربون العمل الخيري ويصدق فيهم القول: "لا يرحموا ولا يخلّوا رحمة ربي تنزل" على الضعفاء والمحتاجين! لا يهمهم أن يحرموا عشرات الألاف من الأسر والأطفال والأرامل واليتامى من فرحة أو بسمة وإن كانت نسبية! مازالوا يتعاملون بمنطق "عليّ وعلى أعدائي" ومنطق "من ليس معي وتحت معطفي فهو ضدّي"، معارك وهمية نابعة عن مراهقة سياسية في تواصل مع "غوغائيات" "حجرة سقراط" وحروب البروليتاريا ضدّ البورجوازية و"التقدمية" ضدّ "الرجعية"! المشكلة أن "الريح حين تشنّ حربا على البحر تكسر المراكب المسكينة! تماما كما تُجوّع اليوم كثير من العائلات وتُحرم من السند والمعين بدعوى تطبيق القانون، وليته كان كذلك! من انحرف بالعمل الخيري عن مقصده واتخذه مطية للثراء والفساد يجب ألاّ تكون له حصانة حتى ينال جزاءه في الدنيا وما ينتظره عند الله أشد وأنكى! ومن حارب العمل الخيري للغايات التي ذكرت سابقا، أسال الله أن يعثّره في دعاء الأرامل ودموع اليتامى حتى يغرقه فيها! طه البعزاوي 10 أفريل 2016