بعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا أصبح لزاما علينا ، نحن أبناء شعوب " العالم الثالث " ، أن نجد حلا حاسما لإشكالية العلاقة بين الإرادة الشعبية والإرادة العسكرية . لم تدخل " بلدان العالم الأوّل " المرحلة المدنية " بما تعنيه هذه الكلمة من احترام للذات البشرية ، وتوفير وضمان حاجاتها الأساسية ، وأنسنة الدولة من خلال جعلها نابعة من الإنسان ، وخادمة للإنسان ، وخاضعة للقانون الذي تقرره إرادة الإنسان . بمعنى آخر ، لم يدخل العالم الغربي مرحلة المدنية وتحقيق تفوّقه العلمي والتقني والإقتصادي والثقافي على غيره من الشعوب ، إلا بعد أن قام بحل مفارقة عجيبة تسكن كيان الإنسان ، وهي أن هذا الأخير هو كائن لا يريد إطلاقا أن يخضع لإرادة أي فرد آخر وفي الوقت ذاته يريد أن يُخضع جميع الآخرين لإرادته الخاصة . إن الشّعوب التي بلغت أشواطا متقدّمة في تحقيق تحضرها ومدنيتها لم تحقق ذلك إلا بعد قطعها مع كل مظاهر الخضوع لإرادة الشخص الواحد ، والحزب الواحد ، والجيش الواحد ، والتحول نحو احترام القانون والدستور والخضوع لهما دون غيرهما ، وتحييد إرادة العسكر عن كل التجاذبات الحزبية والأيديولوجية ، وضبط دور المؤسسة العسكرية كمؤسسة حامية للوطن من كل عدوان يهدد بقاءه . فالانتقال من حالة الخضوع لإرادة الأشخاص وإرادة الجيوش الى مرحلة الخضوع للدستور والقانون النابع من الإرادة العامة والحرة لجميع المواطنين هو السبيل الأقل كلفة في اتجاه تحقيق التقدم والرّفاه والتعايش السلمي بين المواطنين ، ليصبح الخضوع للقانون واحترامه باعتباره نابعا من الإرادة العامة للشعب بصفتها مجموع الإرادات الفردية لكل مواطني المجتمع ، يصبح شكلا من أشكال خضوع الذات لذاتها ، ومظهرا من مظاهر التحرر من الآخر . ويلخص جون جاك روسو مبدأ خضوع الذات لذاتها باعتبارها جزءا من الإرادة العامة المشرّعة للقانون المنظم للحياة العامة بقوله " أن أكون حرا هو أن اخضع للقانون الذي وضعته بنفسي لنفسي " وهو إعلان عن تجاوز كل اشكال الأنظمة السياسية التي لا تستمد شرعيتها من إرادة شعوبها ولا تحترم دولة القانون والمؤسسات . على " شعوب العالم الثالث " إذن ، أن تجد حلا لمسألة طبيعة النظام السياسي الذي يحكمها . فإذا ارادت هذه الشعوب الالتحاق بركب المدنية والتحضر ، واحترام الانسان ، وتجاوز حالة التخلف والتبعية وانتهاك الكرامة الانسانية ، وخاصة تلك الشعوب التي تضخمت فيها ارادة العسكر الى حد الهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد وكان ذلك سببا في تعطيل الحياة العامة وإضعاف الدولة وتهديدا للتعايش السلمي بين المواطنين . ففي اليمن مثلا ، انقسمت المؤسسة العسكرية على نفسها حيث اصبح نصف منها يؤيد ارادة الشعب والنصف الآخر يخدم إرادة المستبدين والمتنفذين من زعماء القبائل ، فتحولت المؤسسة العسكرية إلى اداة لاستنزاف الطاقات المادية والبشرية للشعب اليمني عوض أن تكون صمام أمان لأبناء الوطن جميعا . كما أن انحياز المؤسسة العسكرية إلى ارادة الحاكم المستبد ضد ارادة الشعب الراغب في الحرية ، يحوّل الجيش الى اداة لتدمير مقدرات المجتمع والقتل العشوائي لمئات الآلاف من المواطنين المدنيين الرافضين للاستبداد مثلما يحدث الآن في سوريا . وقد يحوّل تدخل المؤسسة العسكرية في كل صغيرة وكبيرة ومن منطلقات دينية أو طائفية الجيش إلى جهاز للتقتيل الطائفي العشوائي كما يفعل الحرس الثوري في إيران وقوات الحشد الشعبي في العراق . أما إذا خضعت المؤسسة العسكرية لمنطلقات ايديولوجية أو حزبية ضيقة فإن العسكر يتحوّل إلى أداة مُرعبة لقمع الحريات وانتهاك كرامة الإنسان وهو ما يحدث الآن في كوريا الشمالية وكوبا . وإذا خضعت إرادة العسكر لمنطلقات قومية متطرفة يغذيها التعصب الأعمى والحقد المميت ، فإن الجيش يتحول في هذه الحالة إلى تنّين يمارس التصفية العرقية وجرائم الحرب في أبشع مظاهرها كما حدث في صربيا وبعض دول يوغسلافيا السابقة . إن انقسام المؤسسة العسكرية على نفسها وانحيازها لفائدة شخص مستبد أو خدمة لمصلحة طائفة أو طرف أيديولوجي معيّن أو نزعة قومية متطرفة ، كل ذلك يحوّل المؤسسة العسكرية الى أداة استنزاف للمقدرات الوطنية وآلة هدم وتدمير للمعالم الحضارية ووسيلة لخدمة مصالح اقليات داخلية وقوى اجنبية وتنّينا يفترس الحريات والكرامة الإنسانية . فالانقلابات العسكرية والتدخل السافر للجيش في الحياة السياسية لصالح طرف دون آخر أو ارتهان الحياة العامة في الدولة للإرادة العسكرية ، هو مظهر من مظاهر التخلف ، وعائق أساسي أمام تحقيق الشعوب لنموها الحضاري وتعايشها السلمي وحسن استثمارها لطاقاتها الماادّية والبشرية واحترام الانسان وحقوقه الأساسية لمواطن . يمكننا القول إذن ، أن كل الدول التي تهددها آفة الانقلابات العسكرية والتدخل السافر للجيش في الحياة العامة ، هي دول تبقى محدودة السيادة و خانقة للحرية ، تعيش حالة من التخلف الاقتصادي والحيف الاجتماعي الذي يهدد السلم المدني والاستقرار السياسي داخلها باستمرار . ولعل تركيا هي إحدى دول العالم الثالث التي ستحقق نقلة حقيقية من حالة التخلف الاقتصادي والتبعية وانتهاك كرامة الإنسان وعدم الاستقرار السياسي ، الى دولة ذات سيادة حقيقية ومتطورة اقتصاديا ومستقرة سياسيا ، تحترم الحقوق الأساسية لمواطنيها ، وتحقق لهم الرفاه ، وتلحقهم بركب الدول المتقدمة ، بعد لجم إرادة العسكر عن طريق إرادة الشعب ، الذي أفشل يوم 16 جويلية بكل شجاعة ، انقلابا عسكريا كان يمكن أن تكون له تداعيات كارثية على الشعب التركي ومنطقة الشرق الأوسط والأمة الإسلامية قاطبة . ستبقى دولنا متخلفة اقتصاديا ، وفاقدة لاستقلاليتها وسيادتها ، وخادمة لمصاح غيرها على حساب مصالح مواطنيها ، ما لم تخضع إرادة العسكر لإرادة الشعب بشكل نهائي ليُحسم بذلك نهائيا أمر لجم المؤسسة العسكرية وضبط مجال صلاحياتها بعيدا عن التجاذبات الشخصية والحزبية والدينية والأيديولوجية والقومية الضيقة ، والنظر الى المستقبل بإرادة شعبية حقيقية ، تفرض الحريات ، وتنتخب من يحكمها ، وتراقب وتحاسب الحكومات التي تخدمها ، وتقدم التضحيات في سبيل تحقيق ذلك . عندها فقط ، يكون الحكام من طينة المحكومين ، لأنه كما نكون يولّى علينا . وعندها فقط ، يتحقق فينا قول أبو القاسم الشابي : اذا الشعب يوما أراد الحياة ، فلا بد أن يستجيب القدر ، ولا بد لليل أن ينجلي ، ولا بد للقيد أن ينكسر . تحية احترام وتقدير للشعب التركي الذي قدّم مئات الشهداء من أجل حماية مؤسساته الديمقراطية وضبط حدود صلاحياتها . وتحية لكل الشعوب الحرة التي قاومت الاستبداد وانتصرت عليه . وتحية عسكرية لكل الجيوش المنحازة والخاضعة لإرادة شعوبها ، ومنها جيشنا الوطني الذي انحاز لإرادة الشعب التونسي وحمى ثورته في أوقات كانت حرجة وصعبة . " أن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم " صدق الله العظيم . منير السائبي جلمة سيدي بوزيد 17 / 07 2016 13 شوال 1437