قضية الجيلاني الدبوسي.. الافراج عن طبيبة ووكيل عام متقاعد ورفض الافراج عن البحيري والونيسي    مكتب البرلمان يحيل ثلاثة مشاريع قوانين على لجنة العلاقات الخارجية مع طلب استعجال النظر    الإتفاق خلال جلسة عمل مشتركة بين وزارتي السياحة والفلاحة على إحداث لجنة عمل مشتركة وقارة تتولى إقتراح أفكار ترويجية ومتابعة تنفيذها على مدار السنة    ادريس آيات يكتب ل«الشروق» .. قمة باماكو التاريخية، والكابتن إبراهيم تراوري يحذّر من الشتاء الأسود .. شتاء الدم أو لماذا لا يريدون للساحل أن ينتصر؟    إلى الترجي والإفريقي ... قضيّة البوغانمي «معركة» قانونية بَحتة و«التجييش» سلاح الضّعفاء    كشفها الحكم المؤبّد على قاتل طالبة جامعية في رواد ... صفحات فايسبوكية للتشغيل وراء استدراج الضحايا    صفاقس: الدورة الأولى لمعرض الصناعات التقليدية القرقنية تثمّن الحرف التقليدية ودورها في حفظ الذاكرة الجماعية للجزيرة    سهرات رأس السنة على التلفزات التونسية .. اجترار بلا رؤية واحتفال بلا روح    استراحة الويكاند    الليلة: أمطار أحيانا غزيرة بهذه المناطق والحرارة تتراجع إلى 3 درجات    عاجل: 30 ديسمبر آخر أجل لتسوية المطالب الخاصة بالسيارات أو الدراجات النارية (ن.ت)    صلاح يهدي مصر «المنقوصة» فوزا شاقا على جنوب إفريقيا وتأهلا مبكرا إلى ثمن نهائي كأس إفريقيا    فيليب موريس إنترناشونال تطلق جهاز IQOS ILUMA i في تونس دعماً للانتقال نحو مستقبل خالٍ من الدخان    خطوط جديدة للشركة الجهوية للنقل بصفاقس    صادم/ كهل يحتجز فتاتين ويغتصب احداهما..وهذه التفاصيل..    نصيحة المحامي منير بن صالحة لكلّ تونسية تفكّر في الطلاق    وزارة الفلاحة تدعو البحّارة إلى عدم المجازفة والإبحار الى غاية إستقرار الأحوال الجويّة    وزارة التربية تنظّم يوما مفتوحا احتفاء بالخط العربي    أيام القنطاوي السينمائية: ندوة بعنوان "مالذي تستطيعه السينما العربية أمام العولمة؟"    قائمة أضخم حفلات رأس السنة 2026    رئيس جامعة البنوك: تم تاجيل إضراب القطاع إلى ما بعد رأس السنة    السعودية.. الكشف عن اسم وصورة رجل الأمن الذي أنقذ معتمرا من الموت    موضة ألوان 2026 مناسبة لكل الفصول..اعرفي أبرز 5 تريندات    4 أعراض ما تتجاهلهمش! الي تتطلب استشارة طبية فورية    هام/ الشركة التونسية للملاحة تنتدب..#خبر_عاجل    الكاف : عودة الروح إلى مهرجان صليحة للموسيقى التونسية    صادم : أم تركية ترمي رضيعتها من الطابق الرابع    مقتل شخصين في عملية دهس وطعن شمالي إسرائيل    ممثلون وصناع المحتوى نجوم مسلسل الاسيدون    القيروان: حجز كمية من المواد الغذائية الفاسدة بمحل لبيع الحليب ومشتقاته    تونس والاردن تبحثان على مزيد تطوير التعاون الثنائي بما يخدم الأمن الغذائي    نجم المتلوي: لاعب الترجي الرياضي يعزز المجموعة .. والمعد البدني يتراجع عن قراره    بداية من شهر جانفي 2026.. اعتماد منظومة E-FOPPRODEX    سيدي بوزيد: "رفاهك في توازنك لحياة أفضل" مشروع تحسيسي لفائدة 25 شابا وشابة    عاجل/ انفجار داخل مسجد بهذه المنطقة..    عاجل: هذا ماقاله سامي الطرابلسي قبل ماتش تونس ونيجيريا بيوم    جندوبة: انطلاق اشغال المسلك السياحي الموصل الى الحصن الجنوي بطبرقة    بُشرى للجميع: رمزية 2026 في علم الأرقام    إهمال تنظيف هذا الجزء من الغسالة الأوتوماتيك قد يكلفك الكثير    تونس: مواطنة أوروبية تختار الإسلام رسميًا!    أفضل دعاء يقال اخر يوم جمعة لسنة 2025    عاجل: المعهد الوطني للرصد الجوي يعلن إنذار برتقالي اليوم!    نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية    من الهريسة العائلية إلى رفوف العالم : الملحمة الاستثنائية لسام لميري    تونس : آخر أجل للعفو الجبائي على العقارات المبنية    هام/ كأس أمم افريقيا: موعد مباراة تونس ونيجيريا..    الرصد الجوّي يُحذّر من أمطار غزيرة بداية من مساء اليوم    استدرجها ثم اغتصبها وانهى حياتها/ جريمة مقتل طالبة برواد: القضاء يصدر حكمه..#خبر_عاجل    كأس أمم إفريقيا "المغرب 2025": برنامج مقابلات اليوم من الجولة الثانية    البحث عن الذات والإيمان.. اللغة بوابة الحقيقة    عاجل : لاعب لريال مدريد يسافر إلى المغرب لدعم منتخب عربي في كأس الأمم الإفريقية    مصر ضد جنوب إفريقيا اليوم: وقتاش و القنوات الناقلة    عاجل/ مع اقتراب عاصفة جوية: الغاء مئات الرحلات بهذه المطارات..    رئيس غرفة تجار المصوغ: أسعار الذهب مرشّحة للارتفاع إلى 500 دينار للغرام في 2026    عاجل/ قتلى وجرحى في اطلاق نار بهذه المنطقة..    أبرز ما جاء لقاء سعيد برئيسي البرلمان ومجلس الجهات..#خبر_عاجل    روسيا تبدأ أولى التجارب للقاح مضادّ للسّرطان    ترامب يعلن شن ضربة عسكرية على "داعش" في نيجيريا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



برحيل المفكر مالك شبال، هل ينطفئ فانوس «إسلام التنوير»؟
نشر في الحوار نت يوم 17 - 11 - 2016

كنت قد كتبت الأسبوع قبل الماضي بمناسبة ذكرى شهداء الفاتح من نوفمبر 1954، و قلت أن "السعداء هم الشهداء الذين لم يروا الاستقلال" تحت عنوان متشائم " الثورة الجزائرية ومشروع النهضة المجهضة"، مبينا بعض ما مكنني الذهاب إلى قناعة بأن الجزائر فوتت فرص كثيرة على نفسها، الأمر الذي سمح لي بالجزم قطعا، بأن مشروع نهضة الجزائر أجهض. لذلك وجدت نفسي مجبرا، على التذكير بالوفاء لهؤلاء الشهداء لأن الوفاء قليل في البشر، و أوفى الأوفياء من يفي للأموات، لأن النسيان غالبا ما يباعد بين الأحياء وبينهم، فيغمطون حقوقهم، ويجحدون فضائلهم. فما بالكم بالوفاء للشهداء الذين باعوا لله أنفسهم على مذبح الحرية وقدموا أنفسهم قربانا لها.. وما دام الموت لا يعطي موعدا و الموت"كأس وكل الناس شاربه" كما يقال، أو على حد قول كعب بن زهير:
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
مع رحيل كل صاحب فكر أو أثر، فلسفة الموت تأخذ أبعادا كثيرة
فمحطة الموت هذه جسر فريد لابد للحي أن يعبره، أو كما تساءل كاتب وناشط حقوقي سوري أخيرا في المهجر، وهو يعدد قائمة شخصيات سورية كبيرة رحلت عن دنيا الناس، شخصيات من أعلام الفن والفكر والسياسة التي فقدتهم سوريا في الأشهر الماضية أو على الأقل سنوات الحرب الاخيرة، إلى درجة يصعب، ربما، معها توثيق كل الأسماء، والحالات، وظروف رحيلهم، متسائلا: هل كل الناس يموتون؟ هل كل الناس يبدأون حياتهم في المهد وينتهون في اللحد! ما معنى الموت؟ وما معنى الخلود؟ أسئلة كثيرة، وربما معادة ومكررة، بل قل تقليدية، طرحت وتطرح، مع رحيل كل صاحب فكر أو أثر، رجل تاريخ، أو أدب، أو سياسة.. مضيفا أن "فلسفة الموت تأخذ أبعادا كثيرة، دينية، وأخلاقية، وظلت وستظل مثار جدل على مر التاريخ، بل منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، وستبقى، وهي في كتب السماء، والعقائد الوضعية، وثقافات الأمم والشعوب، المروية والمكتوبة، وفي العلوم، وما هو حاضر وواقع، أو ما وراء الطبيعة.."
هل مات هؤلاء الرجال فعلاً؟ هل رحلوا دون عودة؟ لقد رحل الكثيرون قبل هؤلاء خصوصا هذه السنوات الأخيرة في الحروب الاهلية في سوريا ومصر واليمن والعراق وغيرهم في عالمنا العربي و الاسلامي، وسيلتحق بهم كل من على هذه الأرض، ولكن الأكيد أن هؤلاء ليسوا عابرين بين الكلمات العابرة، فلقد خلفوا وراءهم إرثا يعتد به، و"علما ينتفع به أو يضر" لن ينقطع مداده بسهولة، وهكذا هي سيرورة التاريخ وتعاقب الأجيال..
رحيل المفكر الجزائري " مالك شبال" يدخل في هذه الخانة
و رحيل الكاتب والمفكر الجزائري " مالك شبال" يدخل في هذه الخانة مع اختلاف بعض مفكرينا مع بعض طروحاته الحدثية، والراحل مات في المهجر، و في فرنسا تحديدا، " أم الخبائث" على حد تعبير العلامة محمد البشير الابراهيمي.. فرنسا هذه المعروف عنها محاصرة كل صوت إسلامي مهما كان لونه وتوجهه، فرنسا ذات السياسة العلمانية العرجاء المتسمة بالإقصاء للأجنبي المسلم عموما، وللجزائري خصوصا.. رغم ذلك فتحت وسائل الاعلام أبوبها على مصراعيها لبعض الكتاب منهم الراحل مالك شبال وهو أخف الضررين في طرحه، وبالتالي يصبح رحيل مثل هؤلاء محزن ومؤلم حتى و لو اختلفنا معهم في المنهج وتقدير المصالح، ولكنهم بالتأكيد أكثر حظاً من آخرين رحلوا، لم تعرف إلا قلة من الناس أهميتهم ودورهم، وما قدموه لمجتمعهم ووطنهم ودينهم و لو من وراء البحار، غادروا دون أن يحظوا بما يستحقون من تكريم وعزاء، وهم كثر..
المفكر الجدلي المتعدّد المشارب والاختصاصات
وُلد المرحوم المفكر مالك شبل عام 1953 في سكيكدة بالشرق الجزائري حيث كبر وترعرع وأكمل دراساته الثانوية والعليا في جامعة قسنطينة قبل أن ينتقل إلى باريس عام 1977. وهناك نال شهادة الدكتوراه الأولى في علم النفس من جامعة باريس السابعة. وفي عام 1982 نال شهادة دكتوراه ثانية في مجال علم الأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان من نفس الجامعة. وفي عام 1984 نال الدكتوراه الثالثة من معهد العلوم السياسية في باريس. وبالتالي فالرجل متعدّد المشارب و الاختصاصات. ونظرا لكلّ هذه الشهادات والمؤهّلات فإنّه عُيّن عام 1995 أستاذا في جامعة السوربون وأصبح مخوّلا بالإشراف على الأطروحات الجامعية للطلاّب. و بالتوازي مع نشاطاته الجامعية فانّ مالك شبال محلّل نفسانيّ قدير أيضا، وقد فتح عيادة في باريس لهذا الغرض. وفي ذات الوقت يُدعى مالك شبال إلى مختلف جامعات العالم لإلقاء المحاضرات. فقد اشتغل أستاذا زائرا في جامعة مراكش بالمغرب وجامعة تونس والجامعات المصرية والجامعات الأميركية الشهيرة من بيركلي إلى ستانفورد إلى سان فرانسيسكو إلى لوس انجلوس فشيكاغو ونيويورك، إضافة إلى جامعة بروكسيل وغيرها في أوروبا..
حضارة الاسلام لا تُختزل بقضايا العنف أو التشدد
كل ذلك الجهد والبحث المتواصل والحضور الإعلامي المكثف هدفه ما صرح به مرات عديدة "رؤية الإسلام من منظور تنويري وهو أبعد من موضوع معرفي الى وعي صورة الإسلام التي أصابتها أحداث 11 أيلول/ سبتمبر بتمزقات حادة في الغرب"، فيحاول مالك شبال أن يقدم "الصورة الحقيقية للإسلام وحضارته التي لا تُختزل بقضايا العنف أو التشدد"، كما يقدم صفحات مثيرة عن بغداد العباسيين ومصر الفاطمية وإسبانيا الإسلامية، ويجيب عن أسئلة ساخنة جداً ومحل اختلاف بين أصحاب الاختصاص، وهدفه كما يقول دائما " محاولة مدّ جسور التواصل والانفتاح والتسامح مع الآخر"، ويدعو الغرب الى قراءة الإسلام من جديد كمنجز فكري وحضاري وإنساني الى كونه "منجزاً دينياً"..
القطرة التي افاضت الكأس كتابه " تغيير الإسلام" و" ترجمة القرآن"
للراحل عدة مؤلفات عميقة وثرية بلغة فرنسية راقية، نشرت في أشهر وأعرق دور النشر الفرنسية منها «قاموس الرموز الإسلامية»، «العبودية في أرض الإسلام»، «أسماء الحب ال100»، و«الإسلام كما شرحه مالك شبل»، «الخيال العربي الإسلامي» ، «الموضوع في الإسلام« ، «ظاهرة الإسلام» ، «وترجمة القرآن» ، و«الإسلام من اللحم والدم»، الى كتب أخرى مثل «الجسد في الإسلام» وكتابه «العبودية في الإسلام» أي ما يربو على 25 إصداراً، و أخرى تحت الطبع. و القطرة التي افاضت الكأس في نظر العديد من المتتبعين، رغم غزارة إنتاجه و تنوعها كتابه الجديد " تغيير الإسلام"، الصادر عن "دار البان ميشال" وكتابه الآخر الذي أثار زوبعة كبيرة حوله، هو«ترجمة القرآن الكريم الى اللغة الفرنسية» الذي أثار فعلا جدلاً كبيرا حول ترجمة المعنى وترجمة النص، علما أن صاحبه اشتغل على هذه الترجمة طيلة 15 سنة جمعت في 1250 صفحة، في قاموس موسوعي للقرآن الكريم لاقى أصداء إيجابية لدى بعض الدارسين والمستشرقين وأخرى غير راضية لدى العديد من الفاعلين والمهتمين بالشأن الإسلامي في أوروبا. وهي ترجمة تختلف جذريا عن الترجمات السابقة المتداولة باستحسان رغم نقائصها المعدودة، لأن الترجمة مجهود بشري لا يخلو من نقائص، كترجمات العلامة محمد حميدو الله وترجمة الشيخ حمزة أبوبكر الجزائري وترجمة محمد شيادمي المغربي وترجمة التونسي صلاح الدين كشريد وغيرها من الترجمات ..
الشعوب تدفع اليوم ثمناً باهظاً للعنف الشرعي الأمني الذي تحتكره السلطات
المرحوم هو أيضا صاحب عبارة «إسلام التنوير» ومن كبار الاختصاصيين مزدوجي اللغة الأكثر حضوراً إعلامياً في موضوع " الإسلام و المسلمين"، لمع اسمه أكثر بعد أحداث 11 سبتمبر في أوروبا، حيث استغلته بعض وسائل الإعلام لجلد الذات أحيانا، وهو الذي اشتغل منذ ربع قرن حول موضوع الإسلام وأنجز دراسات أكاديمية نفيسة عدة من وجهة "نظر تنويرية وعقلانية" على حد قوله، وهي مادة سهلة التسويق في وسائل الإعلام الغربية بل مرغوبة و محبذة، وهذه مجلة «لوبوان» الفرنسية التي أجرت حوراً مطولا معه، حول مواضيع متفرقة ..و عن سؤال حول الجنس والمرأة في الإسلام، ذهب صاحبنا بعيدا، ضربا عرض الحائط بعض الخطوط الحمراء، بل حتى ممجدا لبعض النسوة شواذ التفكير في دنيا الناس و الفكر كالكاتبة نوال السعداوي و صحيباتها في عالمنا الاسلامي..
وعن سؤال كيف يمكن القيام بخطوات إصلاحية في الجزائر أو مالي لوقف محاولات العنف، علما أن "الليبراليون" يتحركون في الشارع والجهاديون أيضاً؟ لست أدري ما المقصود ب"الليبراليون"! أجاب رحمه الله بوضوح و اتزان : "..نحن ندفع اليوم ثمناً باهظاً للعنف الشرعي الأمني الذي تحتكره السلطات الشرعية أو ما يسمى الحل الأمني المفرط في الاستخدام. في حين المطلوب حلول سياسية واجتماعية ومقاربات أخرى إصلاحية تأخذ في الاعتبار مزاج الشعوب والنخب المثقفة." و قد صدق رحمة الله عليه.
آخر مرة التقيته في الصالون الدولي للكتاب و الصحافة
وعلى ذكر أسباب الموت التي عرجنا عليها آنفا، أذكر أني في آخر مرة التقيته في معرض الكتاب الدولي بجنيف، طبعا المعرض هو المكان الوحيد الذي أراه فيه كل سنة تقريبا، و الدكتور شبال يأتي دائما مدعو من طرف ناشريه لتوقيع كتبه و يحاضر أيضا في الندوات على هامش الصالون الدولي للكتاب والصحافة والمنظمات الانسانية، يومها تجاذبنا أطراف الحديث كالعادة عن الثقافة و الفكر، والتعليم في العالم العربي وهموم شعب الجزائر و جاليتنا المسلمة في فرنسا و الطاقات العلمية والفكرية المشردة في الغرب عموما .. و من الأمور التي بقيت عالقة في ذهني استفسار أحد الجزائريين المقيمين بأوروبا حول سبب مقتل الرئيس الجزائري الأسبق محمد بوضياف على مرأى من العالم، علما أن الرجل جاء -على حد تعبير بعض ساسة الجزائر- جاء لإصلاح ذات البين واجتثاث العنف و إرجاع الشرعية للدولة.. فتبسم المرحوم مالك شبال من هذا الوصف طالبا رأيي في الموضوع- لست أدري لماذا- ، فقلت لهذا الجزائري مازحا بالفرنسية " أن الرئيس بوضياف أنتحر ولم يُقتل !" .. فعلق مالك شبال بجد وحزم عن جوابي قائلا، "هذا هو السبب الوحيد لوفاة بوضياف، لا غير.. الرئيس انتحر.
مالك شبال يلتحق بالكاتب اليساري أحمد بناني المغربي
و اليوم بموت مالك شبال في سن العطاء، وقبله بأيام موت الكاتب اليساري أحمد بناني المغربي، من نفس الجيل. فالدكتور بناني من مواليد 27 مارس 1948 بمكناس، ويعد من أشهر معارضي النظام المغربي بالخارج أو كما يفضل تقديم نفسه " معارض المخزن المغاربي"، وكان مناضلا في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وصديقا للمعارض المغربي البارز محمد البارودي، المسؤول في الحزب نفسه الذي غادر المغرب منفيا سنة 1963 وتوفي ببروكسيل في يونيو 2007
المعارض المغربي الراحل هو من خريجي جامعة السوربون بفرنسا، ثم استكمل دراسته العليا بجامعة لوزان، وبعدها تم تعيينه أستاذا لمادة التاريخ وعلوم الأديان بلوزان السويسرية حيث جمعه البحث العلمي بالمفكر الجزائري صاحب الاطروحات الجدلية الدكتور محمد أركون وكان صديقا للرئيس الجزائري الأسبق أحمد بنبلة، وللمعارض الجزائري المخضرم الحسين آيت أحمد الذي كان للراحل أحمد بناني فضلٌ كبير في إعادة تصحيح كتابه الشهير "ذاكرة محارب" .. حسب رواية أحد الزملاء المغاربة
المغربي أحمد بناني استغلته هو أيضا وسائل الإعلام السويسرية
الدكتور بناني استغلته هو أيضا وسائل الإعلام السويسرية والغربية عموما أبشع استغلال لضرب المسلمين في الظهر والتهكم بالدين الاسلامي، وهو الذي يصف نفسه ب" المسلم العلماني" الذي لا يصلي ولا يصوم ولا يحج و لا..، عالما أن والده متدين ومناضل مغربي عريق.. والدكتور بناني هو أيضا مناضل شرس في ميدان حقوق الانسان في سويسرا وكتاباته متداولة في الصحف، ووقف مواقف بطولية مساندة لللاجئين العرب منذ سنوات خلت خاصة أخيرا مساندته لضحايا الربيع العربي، قبل ان يستفحل مرضه، و قد حسن إسلامه في المدة الاخيرة، لما أصيب بمرض السرطان عفاكم الله، وأصبح يتردد على محلات الاخوة المغاربة لأخذ لحم الحلال من محلاتهم وكذا رزنامة مواقيت الصلاة.. و لما سمعت بوفاته قررت الحضور لمراسم جنازته مساء يوم الخميس على أن يصلى عليه يوم الجمعة و يدفن في مربع المسلمين ؟ إلا أن الأمور لم تكن كما كنت أتوقع ؟ مراسم الجنازة أو كلمات التأبين كانت كارثية للغاية، تمت بنفس الطريقة التي تمت بها جنازة زميله الجزائري الحسين آيت أحمد، و كُنت قد كتبت عن ذلك منذ أقل من سنة، تحت عنوان " جثمان أيت احمد ودبلوماسية الجنائز .. من ضفة لأخرى ومن أرض لأرض" كتبت مستغربا، كيف لم تقرأ فيها فاتحة الكتاب و لم يعزف حتى النشيد الوطني، لأن نضال المجاهد آيت أحمد لا يستحق مثل هذه الخاتمة التعيسة، وهو بن بيت أمازيغية محافظة معروفة بتقواها ووالده إمام و مرجع ديني ل "ثاجماعث" كما يقال عندنا نحن الأمازيغ.
لم تقرأ على المرحوم فاتحة الكتاب و لم يدفن في مربع المسلمين
نعم نفس المراسم الجنائزية من موسيقى متنوعة وكلمات تأبينيه تمجيدا لنضالاته بحضور عربي وغربي حاشد ..نساء ورجال و بعض مسؤولي مدينة لوزان.. ألقيت كلمات هلامية رجراجة لم يذكر فيها اسم الله مطلقا، ولم تقرأ حتى فاتحة الكتاب على المرحوم، ولا حتى النشيد الوطني المغربي ، و الأدهى و الأمر أنه علق خلف ضريحة صليبا في حائط القاعة و نشط المراسم سويسري بلباس الكهنة التقليدي الأبيض، علما أن المرحوم يعرف نفسه دائما في وسائل الاعلام أنه "مسلم علماني"، فأين العلمانية من هذا و أين الإسلام العلماني لو صدقنا بذلك جدلا.. وهذا بشهادة الجميع وبحضور إخوة مغاربة متدينين مسلمين كثر في القاعة، مما حز في نفس العبد لله، فأضطر كاتب هذه السطور من باب الحمية لدين الله الوقوف قبيل نهاية المراسم والذهاب لتلاوة فاتحة الكتاب على ضريح المرحوم والدعاء له على مرآى و مسمع من الجميع.. لا لشيء إلا لأني التقيت المرحوم بعد جنازة آيت أحمد، بأشهر وذكر لي أن المرحوم آيت أحمد استودع لديه بعض مذكراته وثائق الثورة الجزائرية وأمور تاريخية مهمة، ووعد أن يريني بعضها لما تتحسن حالته الصحية. وفعلا وهو يعد لكتابة شيء عن الذكرى الأولى لرحيل آيت أحمد، منذ أسابيع فاضت روحه لبارئها، وجف ميداده إلى ألابد وأنكسر قلمه.. ليدفن يوم الجمعة في صمت في المقبرة العمومية بمدينة لوزان السويسرية، بعيدا عن أنظار المسلمين وبعيدا حتى عن مربع مقبرة المسلمين؟؟
و بكل اسف لم تصلى عليه حتى صلاة الجنازة، حسب بعض الاخوة المغاربة الذين تشاجروا مع ابنه وزوجته السويسرية الماركسية لأخذ الجثمان للمسجد للصلاة عليه ثم دفنه على الطريقة الشرعية ولم يفلحوا، علما أن المرحوم في آخر حياته حسن إسلامه وعاد يصلي خاصة في شهر رمضان، بشهادة معارفه من الاخوة المغاربة ..
هل برحيل هؤلاء طويت صفحاتهم وعطائهم ؟
برحيل المفكر مالك شبال وأحمد بناني و أستاذه محمد أركون طويت صفحة هؤلاء وعطائهم، فقد توقفوا عن الفعل اليومي، فلن نسمع بعد اليوم عن كتاباتهم الإعلامية الصاخبة أحيانا، ولكن بالتأكيد سنرى تأثرا بهم، على مدى أجيال قادمة. وبالقطع ان هناك العشرات من الباحثين والدارسين سيعودون لمؤلفات محمد أركون و مالك شبال وغيرهما في مجالات الفكر والسياسة وعلم الاجتماع، وقضايا العقل والتنوير والحداثة، يرون ما يرون فيها، يأخذون منها أو يتركون، ذلك شأنهم ؟.. .
لكن هل مات هؤلاء؟ هل ووروا الثرى وانطوت سيرتهم وأسدل الستار عليهم.. بحق وموضوعية وأمانة هؤلاء لم يموتوا، ولن يموتوا، فهم في سفر. لأن بين رحلة الحياة والموت، وهي حقيقة راسخة، يخط البشر بأيديهم وعملهم ما يحفظ أسماءهم في لوح محفوظ، خيرا كان أم شرا، مصداقا لقوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. فعلا، لقد رحل هؤلاء … نعم رحلوا، لكن لا أظن أنهم ماتوا. ولا يسعنا إلا نقول، رغم الداء و الاعداء: "رحم الله موتى المسلمين، وأسكنهم فسيح جناته، ومَنَّ عليهم بمغفرته وستره".." وإنا لله و إنا له راجعون."


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.