قد يقنعونا أنّ السّياحة رافد من روافد المال ، و قد نسلّم بأنّها تشكّل بابا لإضفاء بعض الحركيّة في السّوق الإقتصاديّة ،،، لكن ما يعرفه الخبراء و يقدّره العارفون بأنّ هذه ((النّشوة )) الإقتصاديّة لها سلبيّات ، و مضارّها أكثر من المنافع ،،،، و لهذا سعت كثير من الدّول التي لها باع في السّياحة إلى خلق مشاريع موازية و خطط بديلة ، ذلك لأنّ السّياحة ترتبط ارتباطا وثيقا بكثير من العوامل كالوضع الإقتصادي العالمي و السّياسي و حالة الأمن و الإستقرار الدّاخلي للبلدان المضيفة و الحروب و المضاربات التنافسيّة و غيرها ... و لقد دأبت تونس منذ الإستقلال على الترويج للسياحة و العزف على أوتار الضرورات الإقتصاديّة و حاجة البلاد لتوفير العملة الصّعبة و غير ذلك من الحجج ، لكن منذ الإستقلال أيضا بقي الحال على ما هو عليه لوضعنا الإقتصادي الذي لم يشهد ( الطفرة ) الموعودة التي يبشّر لها دوما المسوّقون للسياحة بل السياحة التونسيّة ساهمت في تكريس تقسيم البلاد تنمويّا ، لتزدهر سواحل البلاد و تنفصل عن عمقها وينحصر اهتمام الحكومات المتعاقبة على – تونس السّياحيّة – بتطوير البُنى التحتيّة و إسداء المنح التشجيعيّة و الإعفاء من الأداءات الضريبيّة ، بل التمتيع بكثير من الإمتيازات كالتي تمتّع بها أصحاب النّزل بعد العمليّة الإرهابية في سوسة ،،، و يبقى داخل البلاد يعاني التهميش و الفقر و البطالة و الضّياع و كثيرا من النّسيان . السياحة ساهمت أيضا في الإختلال الديموغرافي و هجرة الشباب من مواطنهم إلى أضواء المدن السّياحيّة أملا في تطليق الفقر و عيش الرّفاهة ليحدث الفراغ في الدّاخل و رفض العمل الفلاحي مقابل بطالة تتزايد و تتفاقم داخل المدن و التي تدفع غالبا إلى تغذية عالم الجريمة بكلّ انواعها . و الأهم أنّ النّصيب الأوفر من عائدات السياحة حتما يستقرّ في جيوب أباطرة رأس المال ، و لا تنتفع البلاد إلا بنزر قليل مقابل توفير بنية تحتيّة و خدمات من الطراز الرفيع ( لْعيون السوّاح ) لا تتوفّر لكثير من المناطق ، و قد يتبخّر هذا النّزر مع الإمتيازات و التهرّبات الجبائيّة و لسماسرة السّياحة ألف حيلة لعدم ضخّ مرابيحهم في الدّورة الإقتصاديّة و لعلّهم وجدوا ضالّتهم في قانون أفريل 72 الذي يمنحهم متّسعا في إبقاء العملة الصعبة خارج البلاد .... السّياحة كرّست النفور لدى الشّباب من كلّ الأعمال اليدويّة والحرفيّة و خصوصا الفلاحية منها صرفت الطاقات الشّابة عن الخلق و الإبتكار وأغلقت كل العقول الطامحة إلى ثروة طائلة تأتي مع إحدى العجائز المتصابية التي تجود بها رياح السّياحة ! هذه هي السياحة في تونس و هذا ما جنيناه منها طيلة العقود الماضية و لن نجني أكثر من هذا ، بلاد اختصروها في عنوان خاسر طيلة عقود من الزّمن ، فخسرت العقول و السّواعد و أهملت باقي المقدّرات و على رأسها الفلاحة . لنا من الأراضي ما ينبت ( ذهبا ) و لنا من المياه ما يكفي لذلك و العوامل المناخيّة أكثر من مساعدة ، كما أنّه لنا من السّواعد المحالة قسرا على البطالة أكثر و أكثر ،، فقط تنقصنا الإرادة السّياسيّة التي أهملت طيلة العقود الماضية و لازالت كلّ اهتمام بالفلاحة بكلّ قطاعاتها ، و استهانت بالحوافز للإشتغال بها ، و لم توليها المكانة التي تجب في مخطّطات التنمية ، و لم ترصد ما يشجع على إحيا ء الأراضي و استصلاحها ، حتى غدت الأراضي الخصبة و الصّالحة بوارا و جفّت الينابيع الطبيعيّة كما صعب استجلاب المياه من باطن الأرض ،، و لم يبق قائما من الفلاحة إلاّ بعض الغراسات و المنابت الفصليّة ذات المردود الربحي السّريع لا تفي بالإكتفاء و لا تكوّن رصيدا فلاحيا مستقبليّا واعدا . الفلاحة موروث أسلافنا و العمق التاريخي في بلادنا الضّارب حتّى (( مطمورة روما )) ، أمّا السّياحة فهي بقرة حاحا النطّاحة حليبها يشفطوه سماسرتها و أباطرتها و لا يبقى للبلاد غير نطيحها .