اتفق أغلب المحلّلين على أنّ المسار الذي انطلقت شرارته من سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 كان بالأساس حراكا اجتماعيا ضدّ نمط تنمية فاشل تسبّب في الحيف والإقصاء الجهوي والاجتماعي ولم يعارض أحد ضرورة تغييره. طيلة السنوات الماضية، لم تسلم تونس من محاولات نهب ثرواتها على ندرتها. ومن أول الخطوات التي ارتآها النظام السابق للمحافظة على السلطة هو ترضية مآرب الغرب، فافتتح فترة حكمه بزجّ السياسة الاقتصادية في أتون الليبرالية المتوحشة من خلال فتح بوابة خصخصة القطاع العام الإنتاجي والخدماتي، والاتفاق على كسر كل الحواجز الجمركية أمام السلع والأفراد والأموال فاتحا الفضاء الحياتي التونسي أمام النهب المباشر للثروات والاستغلال الفاحش لسواعد وعقول التونسيين.
فبالاتفاقيات المبرمة مع «الغات» (1990) والمنظمة العالمية للتجارة (أفريل 1994) والاتحاد الأوروبي (جانفي 96) اكتملت الأسس القانونية لتدجين السيادة الوطنية والدفع باقتصاد البلاد في دائرة الثقب الأسود: رأس المال المالي والفاعلين من المؤسسات الاحتكارية بمساعدة بيادق محليين.
الفلاحة مؤثرة
الفلاحة في تونس هي إحدى المنظومات الهامة، تمتاز بكونها محورية، محددة في مدى تطور منظومتي الإنتاج والخدمات، مؤثرة في الحركية الاجتماعية وحاسمة في الجانب البيئى.
إن إحدى خاصيات الفلاحة تكمن في موقعها المحوري اقتصاديا وبيئيا، وخاصية المنتوج القابل للتلف الطبيعي والبشري والحيواني، وتنوع المستهلكين (بشري، حيواني، صناعي).
إنّ كثرة وتنوع المستهلكين تقابلها ندرة الإنتاج كانت حافزا رئيسيا لولادة ونمو شبكة لتقديم خدمات ما بعد الإنتاج. وتتكون هذه الشبكة من عدة حلقات بعضها قانوني وأخرى غير قانونية. فإلى جانب وحدات التجميع (حليب، حبوب) والتصنيع والتحويل (مركزية حليب، مطاحن) توجد شبكة موازية تقوم بنفس الأنشطة وتمتهن تجارة الحيوان والأعلاف والخضر والغلال.. الخ. ولا يختلف اثنان في أن كثرة المتدخلين وحب الربح الوافر والسريع وراء المضاربة والسمسرة والتحايل على المنتج والمستهلك. ومن الأسباب الكامنة وراء انتشار شبكة الخدمات الموازية نجد مديونية المنتج الخانقة وافتقاده لوسائل النقل الى جانب الحاجة الى السيولة النقدية.
واقع محاط بالقيود
تنقسم البلاد الى أربع مناطق مختلفة (رطبة، شبه رطبة، شبه جافة وجافة) مع اضطراب في تواتر السنوات الممطرة والفصول في فضاء فلاحته مطرية بالأساس (بنسبة 93٪ ويشمل 70٪ من المستغلات) الى جانب ارتفاع نسبة ملوحة مياه الري بما في ذلك مياه وادي مجردة. ويقدّر المختصون الحجم الأقصى للموارد المائية ب4825 مليون لتر مكعب (438 متر مكعب/ الفرد/ السنة): ملاحظة: تقدر منظمة الأممالمتحدة للتغذية والزراعة الكمية الدنيا من الماء/ الفرد/ السنة ب2000 م3)! أما السنوات الممطرة، فهي لا تخلو من الأضرار، مثل الانجراف الذي يهدّد 2.6 مليون هكتار، والانزلاق الأرضي، وركود المياه بالأراضي المنخفضة، وتعطيل أو تأخير الأنشطة في إبّانها، الى جانب الضرر الملحق بالسدود الكبرى (تكدّس الأتربة). أما الجهات الواقعة بوسط وجنوب البلاد فهي تعاني من ندرة مزمنة للأمطار وزحف متواصل للصحراء يشمل كذلك الشريط الساحلي الواقع بأقصى شمال البلاد من طبرقة الى بنزرت.
أما من حيث الناحية الديمغرافية، تشهد الفلاحة ضغطا متواصلا في علاقة بكمّاشة النمو الديمغرافي الذي تطور كمّيا للحاجيات الاستهلاكية الأساسية من ناحية أولى، والانتشار العمراني وما يحتاجه من فضاء للسكن والخدمات والمرافق من ناحية ثانية. من المؤشرات المخيفة، يمكن ذكر تقلص المساحة الزراعية الجملية بنسبة 0.5٪ وكذلك انحدار مقدّر ب16٪ للمؤشر (مساحة الأرض الفلاحية/ الفرد) وذلك خلال الفترة الممتدة من 1994 الى 2004.
من المؤشرات المهمة المرتبطة بالجانب الديمغرافي كذلك يمكن اعتماد هرم سنّ أصحاب المستغلات الفلاحية الذي يظهر عزوف الشباب من الفلاحة (60٪ من المنتجين الفلاحيين يفوق سنّهم ال30 سنة، كما أن ثلث العمال الفلاحين المرسّمين تتجاوز أعمارهم ال50 سنة).
كما لا يمكن إغفال تأثير النمو الديمغرافي على تغيير الهيكل العقاري ومنسوب الاستثمار ونمط الاستغلال وكثرة التقاضي. فالتشتّت العقاري ظاهرة عامة قد تعيق الاستثمار والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، ف4/3 من المستغلين الفلاحيين لا تفوق مساحة مستغلاتهم ال10 هك نصفها تقريبا مجزأة الى قطعتين فما أكثر، ولا يملكون بالتالي سوى 4/1 المساحة الزراعية الجملية. مثل هذه المساحة لا توفر أكثر من الأجر الأدنى الفلاحي السنوي، وهو ما يفسّر ظاهرة عزوف الشباب عن النشاط الفلاحي (18٪ من المستغلين الفلاحين لهم سنّ أقل من 40 سنة) أو ما يبرّر النسبة العالية لأصحاب الضيعات الفلاحية الذين يمارسون أنشطة ثانوية (45٪). هذه المستغلات الفلاحية تحوي داخلها الثروة الحيوانية المدجّنة والبرية، موزعة توزيعا جغرافيا (مساحة الضيعات أو الجهات) بشكل لا يسمح بتغذية حيواينة متوازنة، حيث نجد كثافة حوانية تفوق طاقة الانتاج النباتي بالضيعات الصغرى والمتوسطة (1.4 الى 4 وحدة ماشية كبرى/ هك، 70٪ من الحيوانات المجترّة تعيش بالمستغلات الفلاحية التي لا تفوق ال10 هك) مما نتج عنه ضرورة اللجوء الى الأعلاف المركزة المستوردة موادها الأولية (ذرة، سوجا) وارتفاع الكلفة. أما الضيعات الكبرى فقد نهجت طريق الاتجار بالمواد العلفية الخشنة (تبن، قرط) مهملة تربية الماشية (0.4 وحدة ماشية كبرى/ هك. من 1 الى 1.5٪ فقط من المجترّات على ملك أصحاب الضيعات التي تفوق ال100 هك).
من العناصر المقيدة لتطور الفلاحة لا يمكن إغفال عنصري المديونية والخصخصة. إن نسبة مديونية الفلاحة لا تتجاوز ال6.8٪ من مديونية جملة كل القطاعات الاقتصادية ويبلغ حجمه 1.76 مليار دينار. هذه احدى المشاكل التي تعترض نهضة الفلاحة والسبب الرئيسي في ضعف نسبة الاستثمار (9٪)، والقروض المسندة من طرف البنك الوطني الفلاحي (18٪)، والمنتفعين بالقرض الموسمي الفلاحي (7٪). أما الخصخصة فقد رفعت في نسبة الاستثمار الخاص الى حدود الثلثين (المخطط الحادي عشر)، أما الثلث الباقي فيعود الى الاستثمار العمومي المخصص للفلاحة (60٪ منه موجه للبنية الأساسية).
كما شهدت الفلاحة، خاصة في المستغلات الكبرى والمتوسطة تغيّرا كليا لتقنيات الاستغلال باتباع حزم فنية قطعت مع التقاليد الأصيلة البيولوجية. فأصبحت الفلاحة في جزئها الغالب، باعتبار وسع المساحة الجملية للضيعات الكبرى والمتوسطة، تعتمد على مستلزمات الانتاج المفقودة قطريا والقاطعة مع منظومة الانتاج البيولوجي! كل مستلزمات الانتاج الفلاحي أصبحت تستورد بالعملة الصعبة برغم بعض المحاولات المحتشمة للساهرين على البحث العلمي والارشاد الفلاحي. فحسب إحصائيات 2004/2005 يتوفر قرابة جرار/ 100هك محترث، وآلة حصاد/580 هك حبوب. ثلثا هذه الآلات الكبرى تجاوزت ال10 سنوات من الاستعمال وأكثر من نصفها متواجدة بشمال البلاد، كما أن ثلثها هي ملك لأصحاب المستغلات التي تفوق مساحتها ال50 هك. من أسباب هذا الوضع، قلة الاستثمار في الميكنة الفلاحية (الذي له أسباب هيكلية) ومن نتائجه نمو حلقة خدمات الإيجار من ناحية، وما ينجرّ عنها من صعوبة في احترام الحزمة الفنية والجدول الزمني للأنشطة الفلاحية من ناحية أخرى.