أعترف أن هذه الكلمة مختلفة عن سابقتيها في هذه السلسلة، للقرابة الدّموية التي تربطني بأخي الكبير وحبيبي جمال، فأنا أخطها بمداد الروح والعاطفة الجياشة فقد غادر جمال دنيانا هذا اليوم الخميس 11 ماي 2017، وأعترف أنني لم أستوعب بعدُ فراقه خاصة وأنا بعيد ولن أشهد نزول جثمانه إلى قبره، وفي القلب لوعة تُحضر أمامي أبيات الأستاذ عصام العطار متحدثا عن حرمانه من حضور جنازة رفيق دربه الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله: ولم تر وجهي عند نعشك مصطفى ** وذلك جرح لا يغور بخافقي مكانك في قلبي الوفيّ موطد ** فأنت على طول الزمان مرافقي بل أنا الصغير وأنا المرافق وهو رحمه الله المرفوق، هو أول شاب في الشراردة توجّه توجها إسلاميا أو" تديّن" كما نقول بالعامية التونسية منذ بداية سبعينات القرن الماضي وكنا حينها أطفالا صغارا نلعب. حمل همّ الدعوة بمفرده منذ أن اختار توجهه، رعانا بعطف وحنان وعاملنا باحترام معاملة الأنداد. كانت بيني وبينه علاقة ودّ متميز وكنت أحظى لديه باحترام خاص وبيني وبينه علاقة وثيقة تفوق علاقة الأشقاء، يسمع مني وينزل عند مشورتي. كان ينظّم لنا اللقاءات والخرجات الترفيهية وينفق علينا من راتبه المحدود، وهو أول من كوّن مكتبة إسلامية في بيت عمي محمد والده رحمه الله وكان يحثني على المطالعة فكان أول ما قرأت من مكتبته وأنا في الرابعة أو الخامسة ابتدائي "سلسلة الأبطال" وهي عبارة عن سير ذاتية للصحابة رضي الله عنهم، فكنت كل ظهيرة أنهي منها واحدة أو اثنتين لأرجعها له في القيظ وآخذ غيرها وكان يحثني ويشجعني حتى أعجبت بالسيرة واعتقدت أنني أحطت بها والفضل له بعد الله. لما "كبرت" لم يعد يعاملني معاملة الندّ بل أصبح رحمه الله يعاملني بما لست له أهلا وكأنني أكبر منه وأكثر منه خبرة في الحياة! شديد التواضع وهو على قدر كبير من الوعي والحنكة السياسية، وواسع الثقافة، متدين على علم وبصيرة وفقه عموده المنهج الوسطي والمدرسة الأصولية المقاصدية، يكره الجمود والتطرف وينافح عن منهجه بالحكمة والموعظة الحسنة، يقتحم النوادي والمقاهي ويربط علاقات مع الجميع ومحبوب من الجميع. آخر ما جمعنا قبل المحنة وكنت حينها طالبا وهو معلما أننا ذهبنا نطوف على أقاربنا لنهنئهم بعيد الفطر الذي صادف سنة 1991 وكانت الحملة قد بدأت ضد أبناء الحركة الإسلامية، وكنا نتحدث في طريقنا عن الحملة والإعتقال المحتمل! ومن المواقف الطريفة يومها أننا ذهبنا لتهنئة أسرة أحد أقاربنا بالعيد ولم تكن زوجته من بنات قريتنا وكانت التهنئة في عاداتهم بالمعانقة للمحارم وغيرهم خلافا لعادات قريتنا و"لتديّننا" مما أوقعنا في حرج لم نبده ولم يكسر بخاطرها ولم يعط فرصة لبعض الحاضرين من ذوي "الفكر المقابل" ممن يتصيّدون منه موقفا مثل الذي انتظروه منه ولم يفرحهم به! فقد كان إذا تعلق الأمر بالصراعات الإيديولوجيّة هو الرّمز المستهدف! ثم عدت للعاصمة وجاءني نبأ اعتقاله بعد أيام فآلمني الخبر كثيرا، سُجن سنة أو يزيد ثم نُكّل به بعدها، فقد عمله وهو من النوع الذي لا يحسن غيره وليس من أصحاب الصنعة أو المهارة اليدوية ... عاش الحرمان لو لا ما كان يجود به عليه عمي محمد رحمه الله مما رزقه الله من جراية التقاعد أو الفلاحة. عمل في دار لرعاية الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة وهو عمل شاق جدا، ثم عمل بالتجارة في سوق ليبيا بصفاقس، ورغم أنه شخص ذكي ولامع وأبعد ما يكون عن السذاجة ولكنه في مجال التجارة والتعامل بالمال "نيّة" يصدق بسرعة ويسهل الاحتيال عليه ... لم تنجح محاولاته، وإذا حصل له بعض الكسب أنفقه في المجال المحمود أي الصدقة، والمذموم أي "الرشاوي في شكل هدايا" من أجل تركه يتكسّب ولمساعدته في الحصول على جواز سفر! سنة 2002 أو بعدها بسنة حصل عدد من قدماء المساجين على جوازات سفر وكان هو واحدا منهم طار مباشرة على غير هدى وكان ينوي تقديم طلب لجوء في أوروبا وقد حطت طائرته في لندن ولكن نصحناه حينها بأن الأمر صعب وأن إمكانية حصوله على حق اللجوء ضئيلة فاضطر لمواصلة رحلته إلى دولة الإمارات ممنيا نفسه بأنه قد يحصل هناك على وظيفة في سلك التعليم إذا وجد من يتدخل له وباءت المحاولة بالفشل فوجد نفسه من جديد يحاول اقتحام عالم التجارة والسمسرة وهو مجال كما ذكرت سابقا بينه وبينه بعد المشرقين. بقي هناك عدة سنوات في حالة لجوء غير معلنة لطبيعة النظام الإماراتي ولعدائه الشديد للحركات الإسلامية. كان من خلال إقامته في الإمارات يتابع ما أنشره من كتابات في موقع "تونس نيوز" و"الحوار نت" وكان يتصل بي مُثمّنا أو ناصحا أو موجها وأحيانا معاتبا، وكان كثيرا ما يعمد إلى الإشارة والتلميح اتقاءا لشرّ مخابرات "خلفان"! صيف 2007 علم أنني مسافر بأسرتي لقضاء عطلة في المغرب فقال لي "ملتقانا هناك"، وعند اللقاء في مطار الدار البضاء بعد عقد ونصف من الزمان كان يعانقني ويلثمني كما تفعل أمّ بوحيدها بعد طول فراق أو يأس من اللقاء حتى خجلت من نفسي ومن بقية المسافرين. وفي نفس اليوم وصلت من تونس زوجته السيدة صباح عروس وولداه أسامة ومريم واجتمعنا جميعنا في مدينة "واد لو" شمال المغرب في حمى الأخ الفاضل مفضل مهدي حفظه الله، وزوجته رحمها الله. وكانت عطلة رائعة تعرّف فيها جمال على زوجتي وأبنائي وتعرف فيها على الأخ مفضل وأبنائه حيث حفظ الودّ وكان دائما يسأل عنهم ويشكر فضلهم. قد يطول الحديث عن ابن عمّي وأخي جمال ولكنه شخص كثير المناقب خفيف الروح محبّ للمرح والنكتة يعجبه الذكاء والطرافة خاصة في مجال السياسة. ينفق نفقة من لا يخشى الفقر كان وهو يتقاضى راتب معلم يأتى إلى والدي (عمه) في الدكان ويقول له "إذا جاءك فلان وفلان المحتاج فاقض حاجته ودوّن عليّ" وكنت والوالد وإخوتي نعمل بطلبه مع شيء من الترشيد فنحاول أن لا نعطي إلا ماهو ضروري للسائل الذي يأخذ حاجته ثمّ يقول: "قيّد على سي جمال" لأننا نعلم أن جمال كثيرا ما يكون غارما وهو ينفق! وظل ذلك هو شأنه فمنذ أيام معدودات كنت في تونس وزرته في بيته بصفاقس يوم 28 أفريل 2017 فوجدت من يزوره من أصحاب الحاجات وعلمت أنه طلب من أخي المسؤول عن الدكان أن يقضي حاجة "فلان وفلان" المحتاج! إن كان لي من طلب أتوجه به إلى من تعامل مع جمال بالمال أن يعفو عنه إن أخطأ في حقه أو قصّر فهو قطعا لا يضمر سوء ولا شرا ولكنه كما سبق وذكرت صادق و"نيّة" يسهل الاحتيال عليه أو سلبه ما في يده! وهو كريم منفق في سبيل الله لا يردّ سائلا أبدا ولا يعلم محتاجا إلا وحاول أن يصله. من له حقّ عليه فليعف وليصفح أو يتقدم بمظلمته فقد ترك جمال رحمه الله من بعده من يرفع رأسه ويفك عنه القيد! رحمك الله أخي العزيز وأسكنك فسيح جناته ونسأله أن لا يفتنا بعدك ولا يحرمنا أجرك! طه البعزاوي 11 ماي 2017 (ملحق مؤثر بقلم الدكتور محمد بن نصر صديق المرحوم) ... ولكن بعد فوات الأوان غادرنا جمال البعزاوي، رحمه الله وأحسن مثواه، الخبر قرأته هذا الصباح عند دخولي إلى المكتب، رددت إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم أحسست أن كل مداركي تعطلت، لم أستطتع أن ألفظ بشئ، لم أستطع أن أكتب شيئا، أحسست بتقصير فظيع تجاه هذا الرجل من ذاك الصنف الفريد. قبل شهر أو يزيد بقليل، جمعتني محاورة خاطفة مع الأخ طه البعزواي، نبهني بلطف إلى ضرورة زيارة صديقي جمال في أول زيارة لتونس، أحسست من حديثه أن شئ سيحدث ولكني كنت عنيدا كأنّي أرفض قبول الحقيقة، قلت له كنت قد زرته في الحادي عشر من ديسمبرالماضي ووجدته في حال أحسن وإن شاء الله يكون في أفضل حال وكنت حينها على أبواب زيارة لتونس فعقدت العزم على زيارته ولكن مشاغل الحياة منعتني ومن طبع الإنسان أن تستهويه المبررات. أحس الآن بألم عميق ليس فقط لفراقه ولكن لأنّه كان بإمكاني زيارته ولم أفعل وكل التعلات واهية. جمال ليس صديقا عاديا، جمال رفيق درب طويل بدأناه في المعهد الثانوي للذكوربصفاقس حين كنّا زميلين في نفس القسم، كنّا لا نكاد نفترق حتى نجتمع، كل أحلامنا الصغيرة والكبيرة كانت محور حواراتنا، نقرأ الكتب معا، نناقشها معا، نتفق، نختلف، نتفاعل. ثم فرّقت بيننا دروب الحياة وفرّقت بيننا المحن. عاودنا التواصل بعد كشف الغمّة. كنت في كل مرة أمر بالشراردة في إتجاه بئرعلي بن خليقة أتوقف قليلا، أحس برباط قوي يشدني إليها. رحم الله جمال و رزق أهله وذويه جميل الصبر والسلوان. صلوا أرحامكم وتواصلوا مع أصدقائكم وأحبابكم، لا تدرون متى ياتي حكم الله فينا. محمد بن نصر 11 ماي 2017