هي رسالة كنت قد كتبتها لصديقي الدكتور لخضر زحوط ، لما بلغني نبأ وفاة والدتي رحمها الله تعالى ، وأنا في غربتي وهجرتي ومنفاي ، فلم أجد إلا اليراع ، أخط به كلمات لتطفأ لهيب الحزن الأسود ،الذي زحف علي كما تزحف جيوش الظلام على بقايا نهار متعب ، شعرت حينها أنني عاجز منبت ، متعب محاصر ومدائن الشمس النورانية بعيدة.
الرسالة الأولى
أخي العزيز الغالي لخضر أعلم أن كل مصيبة تأتي فهي بإذن الله، ووفق قدر معلوم وقضاء مرسوم وحكمة أزلية، وأنا على يقين أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. . ما قد قُضي يا نفس فاصطبرى له ولك الأمان من الذي لم يقدر
ثم اعلمي أن المقدر كائن حتماً عليك صبرت أم لم تصبري
: فها هي أحدى الصالحات تقول عندما أُصيبت بأحد أبنائها " الحمد لله على السراء والضراء، والعافية والبلاء، والله ما أحب تأخير ما عجل الله، ولا تعجيل ما أخَّرَ الله، وكل ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير. فما أبرم الله لم ينتقض وما نقض الله لم يبرم
اعلم أخي لخضرأن الذي قدر علينا الأقدار حكيم خبير لا يفعل شيئاً عبثاً ولا يقدر شيئاً سدى، بل هو رحيم تنوعت رحمته سبحانه وبحمده، يرحم العبد فيعطيه، ثم يرحمه فيوفقه للشكر، ثم يرحمه فيبتليه، ثم يرحمه فيوفقه للصبر، ثم يرحمه فيكفر بالبلاء ذنوبه وآثامه، ثم ينمي حسناته ويرفع درجاته، ثم يرحمه فيخفف من مصيبته وطأتها، ويهون مشقتها ثم يتمم أجرها، فرحمته متقدمة على التدابير السارة والضارة ومتأخرة عنها، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وأعلم أخي لخضر : "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده إلىأجل مسمي′′ فهذا يحمل على الصبر والاحتساب، وهذا هو تمام التعزية " فلتصبر ولتحتسب" يقول المنبجي– رحمه الله – ومما يتسلى به المصاب أن يوطن نفسه على أن كل مصيبة تأتيه هي من عند الله، وأنها بقضائه وقدره، وأنه سبحانه وتعالى لم يقدرها عليه ليهلكه بها ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه. مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً وأعلم أخي لخضر أن المكروب حظه من المصيبة ما يحدث له، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، ومن رضي بقضاء الله جُزي عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله، فقضاء الله نافذ كالسيف وأمره واقع، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه وسخطه، جعلنا الله من الراضين بقضائه وقدره. يقول أكثم بن صيفي: " حيلة من لا حيلة له الصبر فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها صبر الكرام فإن ذلك أسلم وإذا ابتليت بكربة فالبس لها ثوب السكوت فإن ذلك أسلم لا تشكون إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
قَالَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ : أَيَصْبِرُ الْمُؤْمِنُ حَتَّى لا يَجِدَ لِمُصِيبَتِهِ أَلَمًا ؟ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، " لا يَسْتَوِي عِنْدَكَ مَا تُحِبُّ وَمَا تَكْرَهُ ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مُعَوَّلُ الْمُؤْمِنِ وأعلم أخي الحبيب لخضر أن الدهر يومان ذا أمن وذا خطر، والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر ، وأعلم أن الدنيا طبعت على الأقذار والأكدار. حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبرا حتى يرى خبرا من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار ولكنه أخي لخضر الفراق ، فراق أم لم تؤذ أحدا في حياتها، لا قريبا ولا بعيدا، فراق أم أحن إليها حنين البساتين للمطر،فراق أم كان لها من الصبر والجلد على نوائب الدهرما لا يعلمه إلا الله ، فراق أم شفيقة برة رفيقة بولدها: حملته كرهًا ووضعته كرهًا، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارةً، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته، فراق أم اكتوت بنار غربتي أكثر من عشرين سنة،فصبرت واحتسبت، فراق أم كانت تتمنى أن تراني قبل أن تلقى رب كريم ، فراق أم كان لسانها يلهج بذكري صباح مساء ،فراق أم كانت تراني في يقضتها وفي منامها حتى أشفق عليها أخوتي ، فراق أم كانت تحلم برؤية أولادي ، فراق أم كانت تود أن أقرأ عليها القرآن ساعة وفاتها ، إنه الفراق يا أخي لخضر وأي فراق ، إنه فراق الأم وما أدراك ما الأم ..
أأحبابنا بنتم عن الدار فاشتكت لبعدكم آصالها وضحاها وفارقتم الدار الأنيسة فاستوت رسوم مبانيها وفاح كلاها كأنكم يوم الفراق رحلتم بنومي فعيني لا تصيب كراها وكنت شحيحا من دموعي بقطرة فقد صرت سمحا بعدكم بدماها يراني بساما خليلي يظن بي سرورا وأحشائي السقام ملاها وكم ضحكه في القلب منها حرارة يشب لظاها لو كشفت غطاها رعى الله أياما بطيب حديثكم تقضت و حياها الحيا وسقاها فما قلت إيها بعدها لمسامر من الناس إلا قال قلبي آها الرسالة الثانية في رثاء الأخ محمد المنصف رحمه الله كلمات عابرة : الفراق حزن كلهيب الشمس ، يبخر الذكريات من القلب ليسمو بها الى عليائها فتجيبه العيون بنثر مائها . لتطفيء لهيب الذكريات .. الفراق ... نار ليس للهبيه حدود .. لايحسه إلا من اكتوى بناره.. الفراق ... لسانه الدموع .. وحديثه الصمت .. ونظره يجوب السماء .. الفراق ..هو القاتل الصامت .. والقاهر المميت .. والجرح الذي لا يندمل.. والداء الحامل لدوائه . الفراق .. كالعين الجاريه التي بعد ما أخضر محيطها نضب . لم يسبق لي أن تعرفت على الأخ محمد المنصف رحمه الله من قبل ،ولم يكن بيني وبينه تواصل ،ولكن الذي بيني وبينه أعظم من ذلك ،إنها وشائج الدين ورحم الإيمان . نعم إنها رحم الإيمان . يفيض الوجد حبا من فؤادي وشوقي للأحبة في ازدياد وروحي تقرأ الأحباب دوما سلاما عطره ماء الوداد وقلبي نابض بالحب يهفو لإخوان العقيدة الرشاد ونفسي بالإخاء تروم أجرا من الرحمن في يوم التناد بظل الله نحظى يوم حشر وجنته لنا أسمى المراد
- * عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عبادا. ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله .فجثى رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله. أنعتهم لنا جلهم لنا يعني صفهم لنا . فسر وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .هم ناس من أفناء الناس ، ونوازع القبائل ،لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسون عليها فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا ، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد . *الذي بيني وبينهمراتع الصبا والشباب .. الأرض التي أول ما رأت عينانا واديها وجبالها وتغلغلت في رئتينا أنسامها ولعبنا بين أحجارها وبساتينها إنه شيء داخلي لا ننفك منه . ولا يفتأ يأجج ألذكرى في نفوسنا ويؤرق الدواخل اليوم. * الذي بيني وبينه أنه عاش وأعيش في مواطن أرتحلنا إليها مكرهين. ولكن عشقنا لوطننا . الذي أنجبنا أقوى من كل ذلك .. فينازعنا الشوق إليه ونتلهف لرؤيته اليوم . تمتد آلام غربتنا على مساحة وطننا . نجسد معاناتنا حروفا وصورا وسجلا من الذكريات التي لم يبق لنا سواها . تشكوا جميعها مرارة الإغتراب وحسرات المنافي . هي الأيام تتوالى . تمر علينا كما مرت على أممٍ قبلنا. وُلِدوا . عاشوا . تزوجوا . أنجبوا . تشاجروا . تصالحوا . تحاربوا . ثم . ماتوا . وَوُلدنا . وعشنا . ومضينا في درب الحياة . لعلنا الآن نسير على آثار أقدامهم . لعل جبلاً نظرنا إليه نظرت إليه قبلنا ملايين العيون . لعل بحراً ولجناه ولجته قبلنا ملايين الأجساد لهواً . أو. غزواً .أو .طلباً للرزق لعل شجرة لمسناها لمستها قبلنا ملايين الأيادي التي واراها الثرى ذهبت تلك العيون والأجساد ، وأتينا بآمالنا وآلامنا ، بأفراحنا وأحزاننا في الطفولة كان العيد يفرحنا ، ولم نكن ندرك معنى الممات . وفي الشباب بات الموتُ يقلقنا حتى أفسد علينا فرحة العيد كبرنا ومضينا في درب الحياة توالت الأعياد والأفراح وتوالت الوفيات وباتت الحقيقة الوحيدة في هذه الدنيا أنها دار ممر لا دار مقر فأحبب من شئت فإنك مفارقه. أو هو مفارقك وتشبث بما شئت من متاع الدنيا فإن أحدكما سيغادر الآخر لا محالة واعصِ الله أو أطعهُ فإنما هي أيامك وأعمالك وسوف تقف بعدها وحيداً بين يدي ملك الملوك الأعظم . نسير الى الآجال في كل لحظة وأيامنالاتطوى وهن مراحل ولم أر مثل الموت حقا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شامل ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل هي دروب السفر المجنون أعادتك إلى محطتك الأولى ، وهذا الآتي المجهول ، كم مفاجأة يخبئ لي في حقيبته الغيبية ؟ مهما يكن فأنا ماض على الدرب ،فإما أن أعود كما عدت وإما أن أبقى في رحيل مستمر. فإن عدت يوما ضاحكا منتصرا فاضحكوا معي ، وإن عدت مهزوما فانصبوا لي مشنقة ، وإن لم أعد فلا تفعلوا شيئا.... يكفي أنني لم أعد الشيخ شكري مجولي لندن