لم يدّخر ساكن "المثلّث" جهدا في الإخبار عمّن سبق!... يريد تثبيت الهمم!... فهذا فلان قد "فرتكوه" [والفرتكة لغة عربيّة نستعملها دون دراية بعربيّتها، ففرتك الشيء، أي قطّعه وفتّته مثل الغبار]... وهذا فلان قد قصموه... وهذا وهذا وهذا... حتّى تذهب بك السياحة في عالم الفرتكة إلى قوله تعالى: [يُعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنّواصي والأقدام]... طريقة استثنائيّة في الفرتكة!... وقوله: [هذه جهنّم التي يكذّب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن]... محطّة فرتكة استثنائيّة، تهوّن عليك ما ينتظرك في هذه المحطّة من الفرتكة!...
نقلنا إذن إلى ثكنة العوينة... ثكنتنا (إذ فيها كذلك ثكنة الحرس)!... لننعم بفترة راحة واستعداد ليس أقلّ وسائله التفكّر في الفرتكة!... غرفة شرّفني الله تعالى فيها بمعرفة وسيم بسّام جميل... خفّف بابتساماته ما خفّف به عبدالسّلام لمّا قرأ آيات آل عمران!... فهي المرّة الأولى التي أرى فيها أخي كمال الضيف!... ابن قيروان الشيخ عبدالرحمان خليف، رافض الأصنام، رحمه الله تعالى... ابن أبيه سعد، بارك الله في عمره ورحمه!... لم يكن جديدا عليّ اضطراب عامل الوقت وتشابه الأيّام... فقد عايشته يوم كنت أعيش بوجداني لخدمة بلدي هناك في الرّمال ببنزرت وما لحقها من فضاءات... وفي حيّز الاضطراب تذلّل الأحداث وتُهوّن المتاعب!... فقد أرست السيّارة أمام الغرفة ونودي بي أو هكذا أتذكّر... امتطيتها... بل جعلوني بداخلها!... كنت نحيفا يومها... وما كانت الضرورة ماسّة لهذين الجلمودين أن يعتصراني بهذا الشكّل... غير أنّ الترحيب والضيافة يقتضيان ذلك!... غير أنّ ذلك جزء من التحديث بالنّعم!... فما عظمت الأبدان إلّا لتضايق عمل الأفكار!... كانت العمليّة عادلة للأذنين فكلتاهما تسمع من جليسها ما يعوّدها على ميدان معاشها الجديد!... سبحان الله ما أسفل ما تفرز ألسنتهم!... لم تكن المسافة بعيدة جدّا بين ثكنة العوينة ومبنى الدّاخليّة، ولكنّها كانت كافية لاستعراض ما تبقّى من زمن الدنيا وللدخول في بهو الآخرة!... ثمّ وصلنا المبنى!... دخلناه من "مؤخّرتة"!... وكلّ أبوابه مؤخّرة تزكم رائحتُها الأنوف لكثرة اجتنابهم الاستنجاء والاستجمار!...