لا يفزعنك الأمر.. لا بل يجب أن يفزعنك الأمر.. الأمر جلل والخطب عسير..
إفحص معي الأرقام الرسمية الواردة أعلاه ولكن بعد أن تهدأ من روعك الذي أفزعنك.. لو أصدرت هذه الأرقام جهات معارضة أو غير رسمية لرددناها نكاية في المعارضة ( المرتبطة بأجندة خارجية معروفة تكيد لتونس السابع من نوفمبر الكيد).. ولكن ما الحيلة إذا كانت الأرقام صادرة عن جهات رسمية عليا من مثل الوزارة وتثبتها صحيفة يومية رسمية ( الصباح التي يمتلكها صهر رئيس الدولة )..
إذا قلت أن الأمر لا يعنيك فأنت لا تعني عند نفسك شيئا أبدا.. وإن قلت أن الأمر مكذوب أو مبالغ فيه فحاجج الوزارة التي أصدرت هذه الإحصائيات.. وإن قلت أن الأمر جلل والخطب عسير ولا بد من المساهمة بشيء لفعل شيء ينقذ البلاد من منحدر الإنتحار ومهوى التطالق فأنت رجل دهرك .. إذا زادتك هذه الإحصائيات أملا في الله ورجاء في عباده فأنت الإيجابي وإن زادتك يأسا منه أو قنوطا من عباده فأنت السلبي .. أما إذا لذت بالذي يلوذ به الكاذبون الذين يقولون : الأمل في الله لا ينقطع والرجاء فيه ليس له حد ولكن اليأس من الناس واجب من واجبات هذا الزمن سيما أولئك الذين فجروا أو ظلموا أو كانوا للفجار أعوانا وللظلمة شهداء زور.. إذا لذت بالذي يلوذ به الكذابون فأنت ميت الأحياء وميت الأحياء ليس له أمل في أن يكون بعد موته حي الأموات.. والمغبون حقا هو من كان بين الأحياء ميتا يقتله اليأس ويغتاله القنوط ثم كان بعد موته شر الأموات فلا سعد بحياته في حياته ولا سعد بموته بعد موته.. ولا سعد به الناس في محياه ولا في مماته..
أوردت صحيفة الوطن التونسية في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري ديسمبر 09 نقلا عن وزارة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والمسنين أن المعدل السنوي( 2008 مثالا) لعدد حالات الطلاق ( المنفذة فعلا دون إعتبار حالات التقدم بمطالب طلاق ) هو : 9127 حالة طلاق من جملة : 16000 حالة زواج. ثم أردفت الوزارة ذاتها أن تونس بهذا المعدل ( 9127 حالة طلاق من 16000 حالة زواج = 57 بالمائة ) : هي الأولى عربيا والرابعة دوليا. تونس الأولى من بين 22 دولة عربية ( ولا شك أنها الأولى كذلك إسلاميا من بين 57 دولة إسلامية ). وتوس هي الرابعة دوليا من بين حوالي 198 دولة في العالم.
أوردت صحيفة الصباح اليومية الرسمية في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر من العام الجاري 09 نقلا عن مركز الإسعاف الطبي بالقرجاني ( حي من أحياء تونس العاصمة ) أن المركز يستقبل سنويا ( 2008 مثالا ) : 1432 حالة إسعاف في إثر محاولة إنتحار. كما تضيف الصحيفة نقلا عن المركز بأن أغلب محاولي الإنتحار هم : من النساء .من فتيات ومن هن في مقتبل العمر ممن تتراوح أعمارهن بين : 18 و40 عاما. كما ذكر المركز أن 50 بالمائة ممن يسعفون يكررون محاولة الإنتحار مرة ثانية.. معدل الإنتحار إذن في حي واحد من أحياء تونس العاصمة ( تتكون تونس العاصمة الكبرى قديما من 4 ولايات ( محافظات ) وعدد محافظات تونس كلها : 24 ولاية ).. معدل الإنتحار إذن في هذا الحي الواحد من ولاية واحدة (1432 :365 = 3,92أي : حوالي 4 محاولات إنتحار يوميا في هذا الحي الواحد من هذه المحافظة الواحدة )..
ذكر مركز الإسعاف أن وسائل الإنتحار المستخدمة هي ( 35 بالمائة عبر الأدوية المخدرة وما في حكمها + مبيدات حشرية من مثل المبيدات الخاصة بالفئران + مواد تنظيف من مثل سائل الجافال + الشنق والحرق وهي الوسيلة التي كانت تحتل المرتبة الأولى قبل عقود ).. تقدمت وسائل الإنتحار والقتل فتأخر الإنسان!!!
ما هي قراءات المختصين الإجتماعيين.
رصد بعض الصحفيين تلك القراءات فكانت خلاصتها على لسان العالم الإجتماعي التونسي المعروف الدكتور الذوادي : " إكتئاب عميق ومعاناة نفسية شديدة نتيجة إنسداد الأفق وخيبة الأمل وتراكم المشاكل المادية والمالية والعائلية والإجتماعية".
لو كانت مثل هذه المعدلات البائسة المنحطة في بلد آخر ( عربي أو إسلامي فضلا عن غربي ) لألفينا لذلك قراءات مفهومة وتحليلات معقولة يمكن لأولي الألباب حتى من غير أهل التخصص الإجتماعي أن يستوعبوها بيسر.. أما أن يكون ذلك التسارع نحو الإنتحار ( إنتحار الفرد من خلال الإنتحار الفردي العادي وإنتحار العائلة من خلال إحتلال تونس لأكبر معدل عربي ورابع معدل دولي في نسبة الطلاق ).. أما أن يكون ذلك التسارع نحو الهاوية المحققة في بلد يعرف غربيا وعربيا وإسلاميا بأنه بلد التشريعات التقدمية التنويرية في موضوع المرأة والأسرة.. البلد الذي بادر بإلغاء الأحباس والأوقاف التي حفظت للأمة إستقلالها المالي ووجودها المعنوي على إمتداد قرون طويلة.. بادر بإلغاء ذلك مند اليوم الأول الذي تسلم فيه التونسيون أمر بلادهم عام 1957 والمحتل مازال في شمال البلاد ( بنزرت التي سيخرج منها عسكريا عام 1962 ).. عندما يكون ذلك في البلاد التي أحلت ما لم يحله شرع ولا عقل في أي بلاد عربية ولا إسلامية من مثل التبني بمخلفاته المالية والمادية والنسبية وليس موضوعة تكافل إجتماعي فحسب كما يحلو للمغرورين أو الدجالين أن يكذبوا على أنفسهم ويضلوا الناس من حولهم.. عندما يكون ذلك في بلد ألغى حق التعدد إلغاء قانونيا صارما لا يستثني حالة عقم ولا حالة مرض في الوقت ذاته الذي يقر فيه قانونا حق العاشقين في المباشرة الجنسية خارج دائرة عش الزوجية كلما كان الأمر تراضيا بين الزاني والزانية.. وتشريعات أخرى كثيرة في الأسرة والمرأة أكثرها يتصادم مع قوانين الفطرة والسنن الإجتماعية قبل تصادمه مع الإسلام ذاته.. أكثرها وليس كلها إذ في تلك التشريعات بعض من التقدمية الحقيقية والتنوير الصحيح.. ولكن مشكلة تلك التشريعات كلها في هذا الحقل الحساس خاصة ( حقل المرأة والأسرة) هي مشكلة هوية ومشكلة توجه ثقافي وليست مشكلة جزئية تتعلق بصوابية هذا التشريع أو عدم صوابية ذاك.. مشكلة هوية حضارية إسمها : أسست تونس منذ اليوم الأول من إستقلالها العسكري على قاعدة أن الغرب الفلسفي الثقافي الحضاري بعجره وبجره هو قبلة الإصلاحات ولا يكون ذلك إلا على أساس تولية الدبر للثقافة الوطنية الموروثة أي العروبة لغة وقومية والإسلام دينا وتاريخا وتراثا وحضارة وأم قواعد مرتكزات الإصلاح والتغيير مهما طوحت بعيدا أو إنحسرت قريبا..
عندما تكون نهاية التشريعات التقدمية إنتحارا وتطالقا..
عندها يحق لكل بشر فوق الأرض أن يطرح ألف سؤال وسؤال حول حملة التشريعات الأسرية والعائلية التي أسست عليها تونس الحديثة .. تونس التقدمية التي أدارت ظهرها لهويتها بما لم يجرؤ عليه بلد عربي ولا إسلامي واحد عدا تركيا.. ولكن تركيا تداركها الرحمان برحمته بأن قيض لها رجلا من مثل المهندس أربكان والمصلح الكبير أردوغان.. أما تونس فلا أربكان لها ولا أردوغان فيها.. لا بل الحقيقة هي أن تونس : عضلتها الدكتاتورية والإستبداد أن يجد فيها أربكان واحد أو أردوغان واحد مترا مربعا واحدا يعرض فيها بضاعته على الناس..
أليس من حق كل بشر فوق الأرض أن يطرح السؤال التالي : طيب. رضينا بالإصلاحات وبالتشريعات وهي تبني لتونس تقدمها ونهضتها وتحررها من الشرق المتخلف وتقربها من الغرب المتقدم زلفى.. رضينا وآمنا وصدقنا.. دفعنا الأجور الباهظة عقدا بعد عقد.. والآن بعد مضي أكثر من نصف قرن .. آما آن لنا أن نحاكم التجربة.. لا نحاكمها إلى الإسلام و لا إلى الهوية الوطنية للبلاد قبل جلاء الإحتلال العسكري.. المحاكمة إلى ذلك هو رجع صدى لمشروع حركة النهضة التي إنما تأسست مشروعيتها على إعادة الإعتبار للهوية العربية الإسلامية لتونس بعد التخريب البورقيبي بأثر من التغريب الثقافي.. ولكن نحاكم التجربة إلى نتائجها فحسب.. ها هي نتائجها معروضة بين أيدينا .. ألا يكفينا عارا وشنارا أن نكون الأول تطالقا بين شعوب العروبة والإسلام طرا مطلقا.. الأول بين 300 مليون عربي .. الأول بين مليار ونصف مليار مسلم.. ألا يكفينا تخلفا وإنحطاطا أن نكون في مقدمة شعوب الأرض تطالقا.. المرتبة الرابعة.. عبث والله بكل المقاييس أن تكون المرأة والأسرة في العالم الغربي ذي الحضارة المادية الكالحة العجفاء أولى بالفطرة وبالسنن الإجتماعية منا نحن في بلد الزيتونة والقيروان.. عبث والله بكل المعايير أن لا يؤثر إنتماؤنا لشهامة العروبة وكرامة العروبة ووفاء العروبة ولعدل الإسلام وحرية الإسلام ووسطية الإسلام.. عبث والله بكل المعايير ألا يؤثر ذلك فينا لا من قريب ولا من بعيد في الحقل الحساس جدا.. حقل المرأة والأسرة .. الحقل الذي يلون المجتمع كله بلونه.. الحقل الذي بصلاحه نصلح وبفساده نفسد.. الحقل المضغة..
تلك هي المصيبة فأين هو الحل.
المصيبة ظاهرة للعيان بادية للأبصار لا خلاف عليها. لو كانت تلك المعدلات في الصين الشعبية أو الهند حيث يزحم الأرض مليار ونيف من الأنام لهان الأمر.. لو كان ذلك في بلد شيوعي أو مادي أو عالماني بالكامل أو أصلا لهان الأمر.. لو كان الأمر في بلد نكبته التقاليد البالية بإسم الإسلام والتدين لهان الأمر.. المصيبة أن تونس غير ذلك تماما.. فهي لا تتجاوز 10 ملايين نسمة.. وهي عربية إسلامية حتى لو أنهكتها العالمانية المتطرفة المفروضة.. حتى وهي تستقبل آخر صيحات الموضة الفرنسية الهابطة قبل أن تستقبلها بعض أحياء باريس نفسها..
ألا تحيلك تلك الإحصائيات والمعدلات الرسمية إلى جبال من الحزن والهم والغم والألم.. ألا يكفيك سخرية أن 4 من التونسيين ( بل من التونسيات ) يحاولون الإنتحار مع مطلع كل شمس.. في حي واحد من أحياء محافظة واحدة.. ولك أن تتصور المعدل العام في البلاد كلها.. ألا يكفيك سخرية أن حوالي 60 بالمائة من الزيجات التي تغدق في عطلة الصيف على ضيوفها في كرم حاتمي ما لذ وطاب .. تنتهي بالطلاق مع لذعات البرد القارس في فصل الشتاء..
ألا يكفيك سخرية أن تونس هي البلد العربي والإسلامي الوحيد الذي يعرف ظاهرة الأمهات العزباوات.. وظواهر إجتماعية أخرى كثيرة تنذر بالخطر الوبيل .. بل هي الخطر الوبيل الذي حل بنا ولسنا في حاجة إلى إرهاصات.. خطر العزوبة المتنامية وخطر الزنى وخطر إستهلاك المخدرات وخطر السرقات الجماعية المنظمة التي تسمى حرابة في النظام التشريعي الإسلامي وخطر الشيخوخة والتهرم الديمغرافي الذي أغلقت بسببه مدارس أساسية كثيرة في بعض المحافظات.. وأخطار أخرى محدقة.. بعضه يتلافاه الناس عن طريق ركوب قوارب الموت إلى إيطاليا وبعضه عن طريق الكحول والفرار إلى المخدرات والمشروبات الكحولية ..
لو قالها السياسيون للعنّا السياسيين سيما إذا كانوا معارضين لإرتباطهم "بمصالح خارجية تكيد لتونس كيدا".. لو قالها غير الإجتماعيين التونسيين ومن غير السياسيين لكذبانهم وحق لنا أن نكذبهم .. هؤلاء أطباء الظواهر الإجتماعية السلبية.. فأنى لنا بتكذيبهم.. إنسداد الأفق في تونس أمر مجمع عليه من كل ذي عقل وبصيرة.. إنسداد الأفق داء سياسي وحله سياسي وينتمي إلى الحقل السياسي.. لسبب بسيط هو أن السياسة في تونس أممها القصر الرئاسي إليه بالكامل.. فلا سياسة وما يقتضيها من إعلام وتنظم وتحزب وحراك في الشأن العام إهتماما وعملا إلا دورانا في فلك مصلحة القصر.. تدور السياسة معه حيث دار.. أبرز تحقيق صحفي في تونس منذ سنوات قليلة منصرمة شمل آلافا من الشباب بحثا عن أسباب عزوفهم عن السياسة أن أهم سبب لذلك العزوف هو : الخوف من السجن والتشريد .. بكلمة واحدة مختصرة : يكفينا ما حل بحركة النهضة مثالا.. فإذا كان المنهاج الديمقراطي الذي سلكته حركة النهضة لم يشفع لها بل نالت ما لم ينله حملة السلاح في الجبال في الجزائر ومصر والسعودية وغير ذلك .. إذا كان ذلك كذلك فأنى للسياسة في تونس.. وتستعاد القالة الإنحطاطية القديمة ولكن بشطرها الأول فحسب : الأكل على مائدة معاوية أدسم.. أما شطرها الثاني : الصلاة خلف علي أسلم.. ذلك شطر لا محل له لأن السياسة في تونس لم تدع لعلي في تونس صلاة ولا صفا.. بل حتى الشطر الأول لم يكن متاحا للشباب العازف عن السياسة .. فلا هو ضيف على مائدة القصر حتى لو كان سحتا مسحوتا ولا هو حر في إرتياد المسجد سيما في الصلاة المريبة : صلاة الفجر..
الحل هو في بعث الأمل وتوليد الرجاء.
لا شك أن الحل للداء العضال : إنسداد الأفق.. هو حل معقد مركب يتطلب حسن قراءة وحسن تحليل وحسن رصد وإشتراكا وزمنا وصبرا وعملا .. ولكن المدخل المنهجي لكل ذلك هو : الأمل والرجاء .. ولكن في الله وفي عباد الله معا.. الأمل في الله واليأس من الإنسان يحمل إلى الصوفية المبتدعة ومن الصوفية معتدلون حتى لو أهملوا فريضة المقاومة أو يحمل إلى التكفير والتفجير وليس من التكفيريين معتدل ولا من التفجيريين متوسط .. أما الأمل في الله حق الأمل بما يملأ المرء أملا في الإنسان صنيعة الله وخليفته الذي علم وإبتلى وكرم وإئتمن .. ذلك هو الأمل الذي يوطئ لخطاب إسلامي عام يكون مقدمة منهجية صحيحة لمشروع الإصلاح في تونس.. إذا أفضى إنسداد الأفق إلى الإنتحار والتطالق فإن بعث الأمل يفضي بالضرورة إلى معانقة الحياة من جديد وإعادة الإعتبار للأسرة والمرأة والطفولة والشباب وقيم الحق والعدل والكرامة والقسط والمعروف والإحسان والفضل والتكافل والتواصي بالصبر وبالمرحمة من جديد..
تونس تنتحر .. تلك حقيقة علمية ثابتة بالإحصائيات الرسمية.. تونس تتطالق لبناتها الإجتماعية الأساسية .. تلك حقيقة علمية كذلك.. ولكن الأحق من ذلك كله هو : تونس جديرة بحياة إجتماعية أرقى وأحضر.. ليس الإنتحار قدر تونس ولا التطالق مصيرها المحتوم.. ولكن دون ذلك : وعي وعمل وأمل وتكافل وصبر وتضحيات..