الشيخ الفاضل راشد الغنوشي السلام عليكم، وبعد أوجه إليك هذه الرسالة مفتوحة لعلمي أن الرسائل الخاصة لا تلقى الإهتمام المطلوب ولأنني سأقول كلاما بعد تردّد أراه نصيحة في أمر عام بدأ الحديث فيه والتسريبات حوله، وليعلم الناس أن الذين ناصروا الحركة أو الخيارات السياسية لشيخها لا يفعلون ذلك عن موالاة عمياء أو دون وعي واقتناع. رسالتي كما هو ظاهر من عنوانها متعلقة بما يروج من عزمكم التّرشح إلى الرئاسة في الدورة القادمة لسنة 2019، وهنا أودّ أن أتطرق إلى ثلاث نقاط أولها تذكير بالمواقف الماضية وثانيها قراءة في الموقف الحالي وثالثها توقع مآل الأمور عند الترشح للرئاسة ثمّ خاتمة الرسالة وقبل ذلك كله كلمة عن الترشح المحتمل للرئاسة. كلمة عن الترشح المحتمل للرئاسة: لو أنني سئلت قبل سنتين عن احتمال ترشحك للرئاسة يوما ما لأقسمت بالأيمان المغلظة أن الشيخ لا يفعلها فقد سبق منه القول بنفي ذلك وهو مُكتفٍ بلعب أدوار في خدمة بلده وأمته وفق ما تسمح به"الديبلوماسية الشعبية" التى رآها أهم من الديبلوماسية الرسمية ومساعدة لها في الآن ذاته. كما أنه زاهد في لعب أدوار سياسية رسمية اجتنابا لشبهة حبّ الكراسي والتنافس عليها من أجل تحقيق المصالح الشخصية وهوى الأنفس. والشيخ مع إعطاء الأولوية للشباب والكهول في تولي المناصب السياسية وذلك ما به صرّح. وهو يرى أن الثغرة التي يقف عليها هي المساهمة في تطوير الفقه السياسي الإسلامي أو التفرغ إلى العمل الدعوي بمفهومه الواسع وتطبيع العلاقة بين حملة الفكر الإسلامي وبقية المكونات الفكرية كي يتعايشوا دون تنافر أو تباغض ويتنافسوا في خدمة أوطانهم كلّ وفق برامجه ومعتقداته. ولكن يبدو أن "الديبلوماسية الشعبية" قد أغرت الشيخ بالتحول إلى الديبلوماسية الرسمية، وكذلك تناول الإعلام الداخلي للحركة لنشاط رئيسها، فيه تركيز على الزعيم الفرد الذي سافر وزار وقابل واستقبل ونصح ووجه ... بما لا يختلف كثيرا عن أساليب ممجوجة عهدناها في الأنظمة الديكتاتورية. ولعل بعض المحيطين بالشيخ ينصحونه ويزينون له الترشح للرئاسة، ربما لمصالح شخصية يأملون تحقيقها. كما أنه في حوار مع المستشار السياسي لرئيس الحركة الأخ لطفي زيتون لم ينف إمكانية ترشح رئيس الحركة للرئاسة وذلك في معرض ردّه على تصريح للدكتور عبد اللطيف المكي وكان الأخ زيتون نفسه قد سبق وصرّح عند عودة الشيخ من منفاه أن الشيخ لن ينافس على المناصب السياسية في الدولة وأنه يعود إلى وطنه مواطنا عاديا، وسيكتفي بالمهام داخل حركته. بل إن كثيرين اعتبروا أن إلتزام الشيخ في هذا العمر بلبس ربطة العنق (الكرافات) وقد عرف عنه أنه لا يطيقها هو مندرج في إطار توفير شروط القبول به كمرشح للرئاسة ورئيس بعد ذلك! التذكير بالمواقف الماضية: منذ أن فتح الله علينا بثورة شعبنا وقبل عودتك من منفاك ألزمت نفسك بما لم يلزمك به أحد صراحة وهو عدم المنافسة على المناصب السياسية وقد كان ذلك في عدة تصريحات منها تصريح مستشارك السياسي المشار إليه آنفا. رغم أنه إلزام ظالم وجائر لكن قدّرتم أن المرحلة تتطلبه اعتبارا لمواقف القوى الدولية النافذة والمعادية لمشاركة الإسلاميين في السلطة ولتوحد العلمانيين وبقايا المنظومة القديمة على رفضك بصفة خاصة ورفض تصدر الإسلاميين للمشهد السياسي بصفة عامة. وأكدت بنفسك مرارا وبصيغ مختلفة أنّك لن تنافس على المناصب السياسية بما لا يدع مجالا لتأويل تلك الإلتزامات أو التراجع عنها خاصة ما ورد على لسانك دون كره في برنامج "الصراحة راحة" مع سمير الوافي حيث قلت " أنا قبل عودتي قطعت هذا الطريق على نفسي وقلت أنا ما عندي حتى غرض لأشغل أي منصب في الدولة لا وزير ولا سفير ولا رئيس ... أنا قلت لك ما عنديش طموح سياسي رغم أنه أمامي إنتخابات وعندي فيها فرصة ربّما أكثر من أيّ تونسي آخر ... وذلك لأسباب كثيرة منها أن هذه الثورة صنعها الشباب فما يلزمش يجو الشِّيّاب ويكونوا هم إلّي راكبين في الواجهة ... ومازال الشِّيّاب هم إلّي في الواجهة ... الشباب أولى أن يكون في الواجهة وأنا أريد أن أضرب مثلا"! (نقل بتصرف بسيط) وقد نبّهتَ أن من ينكص عن عهوده فإنه سهل جدا مواجهته بأقواله السابقة، وهو موقف لا نرضاه لك ولا نريد لمن ناصرك يوما وناصر خياراتك السياسية أن يقفه معك. قد سبق منك القول ولا مجال في نظري للتراجع عنه مهما كانت الدواعي والأسباب أو المغريات التي قد تراها أو يصورها لك بعض من لا ينصح لك! وقد تعلمنا عن آبائنا مثلا شعبيا وأنت من المحبين للأمثال الشعبية والمستعملين لها "إلّي أعطى كلمته أعطا رقبته" ولا نريد لرقبتك أن تؤخذ بسبب كلام قلته سابقا ولم تتوقع أن ترغب في الانقلاب عليه لاحقا. كما لا نرضى لك أن تُشبّه ببرهان بسيس الذي اشترط هو كذلك على نفسه في نفس البرنامج عقب أول ظهور له بعد الثورة وقال إنه لن يكون له أي نشاط سياسي أو إعلاميّ بعد ذلك وصرح أنه يستحق أن تطلق النار على رأسه إن تراجع عن موقفه، ومع ذلك انقلب على قوله وعاد لممارسة الإعلام والسياسة! وبما أن المسألة كانت كرها ولم تكن مبدأ فقد كان الصمت أولى بكم من تقييد أنفسكم قيودا لا تلتزمونها إن تغيرت الظروف في تصوركم! ورحم الله الشيخ أحمد ياسين فقد قال "لو أن الاحتلال اشترط عليّ شرب الماء مقابل خروجي من السجن ما خرجت"! قراءة في الموقف الحالي الواضح أن هناك ندم على التصريحات الماضية وسعي للانقلاب عليها وفقا لما ذكرتُ آنفا ولتصريحات خاصة من بعض المقربين منك ومن الدوائر القيادية في الحركة والتي يبدو أن أغلبها رافض أو متحرّج من المسألة ولا يجد "فتوى" للتراجع عنها، لأن ضرّها العام أقرب وأكبر من نفعها الخاص على افتراض وجوده. وحتى الرسالة المسربة التي وجهها لك بعض القياديين فيه إشارة واضحة لذلك حيث اعتبرتَ حسب ما ورد في الرسالة أن الموقف الدولي لم يعد رافضا لترشح الحركة وأنك تتساءل لماذا يستمر عدم القبول بك داخليا رغم كل التنازلات والتوافقات التي حملتَ الحركة عليها! وهنا يُحتمل بأن التراجع على الإلتزامات الماضية قد أغرى به "رعاة" لقاء باريس الذي جمعك "بالشيخ" الباجي قايد السبسي والذي نتج عنه توافقات المرحلة الماضية. ولأن الذين شاركوا في الحوار قد تمكنوا من الإبقاء على مضمونه سريّا فإن التحليل الذي يستند لنتائج اللقاء ولا يستند لمعلومات مفاده أن الشيخ الغنوشي يفتح طريق الرئاسة للباجي بعدم تمرير حركتة لقانون تحصين الثورة في الدستور الذي سبق للشيخ أن أشاد به وبشّر في حواره مع الإعلامي صالح الأزرق في برنامج بوضوح على قناة الحوار وقال إنه محل إجماع من أغلب الكتل في المجلس التأسيسي، وكذلك عدم التنصيص على سنّ قصوى للمرشح للرئاسة وهي النقطة التي سيستفيد منها رئيس الحركة نفسه عند الرغبة في الترشح. ويحتمل أن "رعاة" الحوار قد قسموا الأمر بين الشيخين، "فالشيخ" الأسن تكون له رئاسة 2014 والشيخ الأصغر سنّا تكون له رئاسة 2019. وطبعا إذا كان الأمر كذلك في تقديرات "رعاة" حوار باريس ومكرهم الذي ليس مطلوبا أن يطلعوا عليه طرفي الحوار وخاصة المُصنّف منهما خصما ينبغي تقزيمه أو احتواءه، فقد نال "الشيخ" الباجي الرئاسة ومدته توشك على الإنتهاء ولكنه لا يريد أن يغادر بشرف وأن يترك له صفحة بيضاء يذكره فيها التاريخ بخير، بل هو مُصرّ على ما يبدو أن لا يغادر القصر الرئاسي إلا نعشا محمولا على الأكتاف أو دبّابة! وهو أيضا ما يفسر انتهاء التوافق بين الشيخين لأنهما قد يكونان المتنافسين الرئيسيين في الإنتخابات الرئاسية القادمة. كما أن عزمك المحتمل يا فضيلة الشيخ لخوض غمار المنافسة الرئاسية يجعلنا نتذكر موقفك في المؤتمر التاسع للحركة حيث قرّعت في مداخلة لك الذين طالبوا بتقييد رئاسة الحركة بدورتين فقط، وافتتحت مداخلتك بأنك مستعف من طلب رئاسة الحركة رغم أننا جميعا كنا نعلم أنك أنت من سيكون الرئيس بعد المؤتمر! وجاء في مداخلتك التقريعية وهو الذي يعنينا أن تقييد مدة رئاسة الدول هو من صميم التداول الديمقراطي وذلك لا ينطبق على رئاسة الأحزاب، ذلك أن الأحزاب التي تحترم نفسها هي التي تلتزم مع رئيسها وتعمل معه حتى توصله إلى رئاسة الدولة. وقد استبعدتُ يومها أن يكون في مداخلتك بعض حظّ النفس أو تحضيرا للمستقبل، واعتقدت أن موقفك لا يعدو أن يكون توجيها وتأطيرا سياسيا لأبناء الحركة من حيث المبدأ وفي إطار ما أنت مقتنع به من أبجديات العمل الحزبي، ولكن قناعتي اليوم لم تعد كذلك وأنا أراك تهم بترشيح نفسك للرئاسة!
توقع مآل الأمور عند الترشح للرئاسة الموقف الدولي لا يتعامل مع الإسلاميين حتى وإن غيروا صفتهم من "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام الديمقراطي" إلا بمنطق الإحتواء والتدجين والتقزيم وهو ما أرادوه للنهضة بالسعي إلى إضعافها وبثّ الفرقة فيها وبناء جدر بين قيادتها وأبنائها والمتعاطفين معها، فلا يغرّنكم الموقف الغربي المتآمر على الإسلام والديمقراطية في عالمنا. ومنك يا فضيلة الشيخ تعلمت المثل الذي يقول: "ما يجي من الغرب ما يفرّح القلب، كانو ريح يسلّ القلب وكانو ابن آدم كلب ابن كلب"! ومصداق قولي في التعامل الغربي مع الرئيس التركي أوردقان وحزبه رغم أنه يتبنى العلمانية دون مواربة فهم يحاربونه "على ريحة الريحة" بالإنقلاب والإقتصاد وحقوق الإنسان وحرية الإعلام ودول الجوار مما أجبره على تجرع المرّ والتوجه لروسيا وإيران"! ورغم أنه لم يقطع مع إرث أتاتورك و"يُحيّي تماثيله صباحا مساء وأيام الجُمع" ولم يقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني وغير ذلك كثير! ... وهي مقارنة مع وجود فارق كبير. ودون أن نغفل كذلك من غير مقارنة ما حصل مع الرئيس مرسي فكّ الله أسره! وما الذي سيحصل نظريا عند ترشحك للرئاسة؟ ... إما أن تفوز أو لا تفوز! هب أنك فزت بها ستتحول البلاد إلى صحراء من الرمال المتحرّكة تحت قدميك وفي أحسن الأحوال لن تكون أكثر من رئيس ليس بيده شيء وإنما محاصر ليس له من صلوحية غير تقديم التنازلات التي لا يقنع بها الخصوم أبدا لأن رفضهم شخصي وليس مصلحي فحسب! وسلطة الدولة التي تفرض القانون وتحمل المخالفين على احترامه لن يكون أغلبها معك وستكون "سيوفهم" عليك وأيديهم ممدودة بالإبتزاز إليك! وما حصل مع حليفكم السابق ليس مختلفا كثيرا. ومع ذلك فالرئاسة لن تزيد في قدرك بل على العكس ستزري به ويأتي "الرئيس" على رصيد الشيخ والداعية والمربي والمفكّر المُجدد لفكر الحركات الإسلامية، الذي أنكر ذاته وسبّق مصلحة وطنه وحركته على مصلحته الشخصية! ولكن الأرجح أنك إن ترشحت للرئاسة فلن تكون طريق فوزك سالكة فالاستقطاب الثنائي سيكون على أشده "والحرب" في الحملة الانتخابية ستكون أشد قذارة من كل الحملات التي سبقت وسنعود إلى "الفوت إيتيل" بأشد فجاجة وتكون الحصيلة هزيمة وخسارة لماء الوجه بسبب التراجع عما ألزمت به نفسك! وتكون بترشحك للرئاسة فزت أم لم تفز قد وقعت في فخّ نصبه لك الأعداء بخبث وزيّنه لك "أصدقاء" بجهل وسوء تقدير أو طمع أو تزلّف! خاتمة رسالتي لا أرى لك يا فضيلة الشيخ ولا للوطن ولا للحركة مصلحة في الترشح للرئاسة فمكانك الآن بعد هذه التجربة الثرية والحافلة في التوجيه والكتابة والتأليف وتقييم آدائك عامة وبعد الثورة خاصة! أذكر أنني توجهت لك بسؤال في مخيم أقمناه بسويسرا سنة 2006 حول بعض آراء الشيخ حسن الترابي رحمه الله وقد أثارت حينها كثيرا من الجدل فكان مما ورد في ردّك أنه كان على الشيخ أن يطرح أفكاره ويناقشها بين العلماء ولا يعرضها وسط العوام حتى لا تسبب المشاكل وختمت ردّك بأن الشيخ الترابي مؤهل لاستكمال مشروع ابن خلدون في الأمة لو أنه يتفرغ ويتخفف من السياسة، وهو أيضا ما كنت نصحت به الشيخ رحمه الله. هو قد رحل وأفضى إلى ما قدّم دون أن يعمل بنصيحتك وأنت أولى بها منه الآن وأنت أقرب الناس إلى نهجه وعلمه رحمه الله. ما عملته حتى الآن بعد الثورة يقدره المنصفون بأن فيه كثير من نكران الذات والحرص على المصلحة الوطنية ومصلحة الحركة والتعايش السلمي بين مكونات الوطن، رغم حجم التنازلات ومرارتها أحيانا عليك وعلى أبناء حركتك، وإن لم ينصفك الحاضر سينصفك المستقبل إن شاء الله! أنا لا أناقش حقك كمواطن تونسي في الترشح لرئاسة بلده وإنما النقاش حول صلاحية الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة الإسلامية ومؤسسا في مآل ترشحه للرئاسة وسط بحر متلاطم من العداء وإن تظاهر البعض "بالصداقة" أو غض الطرف وفي سياق وعودكم السابقة التي لم تتغير أسبابها. وإنه لفشل يا فضيلة الشيخ أن الحركة الّتي عمرها الآن نصف قرن تقريبا لا تجد من أبنائها من تقدمه لرئاستها أو رئاسة بلدها غير شيخها! وإنه من المؤسف أيضا أن يكون مصير الحركة ووحدتها مرهونا بشيخها الذي حدثنا قبل وقت وجيز أن آخر ما ينزع من قلوب الصالحين حبّ الرئاسة! قد بلّغت نصيحتي وما رأيتُ فيه صالحا لك ولحركتك وبلدك، فإن وجدتَ في كلامي حقّا وصدقا فالحمد لله الذي وفقني لهذا، وإن وجدت أنّي طرحت أمرا غير مطروح تماما ولا خطر في بالكم فالحمد لله كذلك ومعذرة على الشغب! وإن وجدته تقديرا خاطئا رغم وجود النية للترشح فأتمنى لكم التوفيق والأيام كفيلة بتصديق قولي أو تكذيبه! وأما إن كان التلويح بالترشح للرئاسة مجرّد مناورة سياسية لإرباك المنافسين أو المفاوضة فذلك في عالم السياسة وارد ولست أناقشه! ... وختاما إليك مني فائق الإحترام والتقدير والسلام طه البعزاوي 6 أكتوبر 2018