كثيرون كتبوا تدوينات قصيرة أو مقالات عن حوارات سياسية جرت بينهم وبين سائق تاكسي في أحد المدن التونسية وخاصة منها تونس الكبرى مما يجعل السامع أو المحاور يعتقد أو على الأقل يتوقع أن لا تكون المسألة مجرّد صدفة وإنما هي عمل هادف وممنهج ذلك أن أغلب آراء سوّاق التاكسي تصب في اتجاه واحد وهو تحميل كل مشاكل تونس الجديد منها والقديم وفشل النهوض الإقتصادي والتشغيل وإخفاق الثورة لحزب النهضة. فالتاكسي عبارة عن "وكالة أنباء" متنقلة وسائقها هو محرر الأخبار أو مذيعها.
والغريب أن اعتبار سائق التاكسي مصدرا للأخبار موجود حتى في الثقافة الألمانية خاصة لدى كبار السن، فحين يستقلون "التاكسي" في الصباح يفتتحون الحوار مع السائق بالسؤال عن جديد الأخبار أو ما خفي منها عن المصادر الرسمية للأنباء. هذا ما لاحظته بحكم عملي عدة سنوات في المجال. أوقفت يوم 2 فيفري 2019 تاكسي قرب محطة منصف باي باتجاه حيّ الانطلاقة، وسائق التاكسي في تونس عموما يشعرك بأنه صاحب فضل عليك وأنه "عمل مزية" إذ أركبك سيارته! وانطلق الحوار من اللحظة الأولى بعد ركوبي حيث أعلمني السائق أنه سيحسب سعر "باقاج" أي حقيبة ولم يكن معي حقيبة سفر وإنما كان معي حقيبة يدوية أصغر من تلك التي يصعد بها المسافر داخل الطائرة وحقيبة حاسوب محمول، تساءلت فقط من باب حب الإطلاع ومن باب "الزمالة" في المهنة! وبقصد المقارنة حيث أنه عندنا في ألمانيا يحق لسائق التاكسي أن يحسب معلوما إضافيا إذا كان الراكب يحمل معه أكثر من حقيقة سفر ولو أن ذلك نادرا ما يحصل! لم أحصل على جواب واضح وفهمت من كلام السائق أنه من حقه قانونا أن يضيف دينارا إذا كان مع المسافر "باقاج" وتشعب النقاش! سائقي حسب ما فهمت، هو مالك السيارة والرخصة وليس مجرد أجير على سيارة غيره وهو في عقده الرابع من العمر تقريبا، له قدر من الثقافة، تنقل من مشاكل القطاع ومن "الظلم" المسلط عليهم من الدولة والحكومات الفاسدة والمواطن، وطلب منّي أن أكتب عن مشاكلهم، عن الدخلاء عن القطاع والذين هم أساسا حسب ما قال من أعوان الأمن الذين يعملون دون رخصة ولا يدفعون أداءات مثل أهل القطاع، وذكر أن من أكبر الظلم أن الرخصة تعتبر ملكا للدولة فلا يحق لصاحبها بيعها أو توريثها خلافا لما هو في بلاد الغرب! كنت أحاول أن أسمع أكثر مما أتكلم وقد كانت أمور أخرى تشغلني أكثر من الحديث معه استرسل صاحبنا في الكلام محللا للوضع السياسي ولأداء الحكومة ولمسار الثورة! تحدث عن الذين سرقوا البلاد ونهبوها، احتملت أنه يتحدث عن أقارب المخلوع وأصهاره ولو أن بوصلة الكلام في غير ذلك الاتجاه، استمر يتحدث عن النهب والسرقة والفشل والإندساس في مفاصل الدولة وتوزيع المهام والوظائف على الأبناء والأنصار! ثم قال ندمت أشد الندم لأنني انتخبتهم يوما أو تعاطفت معهم بسبب ما تعرضوا له من ظلم وقهر! ... ولكنهم الآن يمارسون الظلم والقهر ولا أدري لماذا يكرهوننا؟! ... أغرقوا البلاد بالديون وغرفوا التعويضات دون رقيب أو حسيب وزعوا ميزانية الدولة على أنفسهم والمناصب المهمة وتركوا الشعب يعاني! ... ساندناهم وتعاطفنا معهم أيام محنتهم وانتخبناهم بعد ذلك فانتقموا منّا كأننا نحن المسؤولون عن اضطهادهم! ولم يبق إلا أن يضع النقاط على الحروف ويسمي من يتهم بالضبط، ترددت كثيرا في خوض النقاش معه ثم سألته "عمّن تتحدث بالضبط لم أفهمك"؟ قال "جماعة النهضة" قلت "وهل أنت واثق من معلوماتك وما تقول"؟ قال بكل وثوق " أنا عندي المعطيات الدقيقة ومعلوماتي غير قابلة للنقاش أو التشكيك، أنا أعرف ابن جيراننا أخذ تعويضات والآخر أصبح مديرا كبيرا ولم يكن قبل الثورة شيئا، وعلي العريض جاري وقل لي أين ابنه الآن؟ فهمت من سياق كلامه أنه يعتبر العودة إلى العمل أو التشغيل بعد العفو التشريعي العام نوع من أنواع التعويض! لاطفته ولم أغلظ عليه وقلت له إن معلوماته "الأكيدة والموثقة" كلها كذب حشى به المضللون رأسه وأنه وقع ضحية "لإعلام العار" إعلام سامي الفهري ومن لفّ لفه! قال لي "أنا لا أشاهد التيليفزيونات البوبال"! ... قلت هذا جيّد، ثم ليأكد لي أنه ليس خصما إيديولوجيا للنهضة وأنه مقتنع بما يقول أنه من خلفية إسلامية! ... قلت لا تعنيني الخلفية بقدر ما يعنيني الصدق والحيادية! أكّدت له أنني وأهلي وأصدقائي وإخواني الذين أعرفهم و ما أكثرهم المعنيون بالعفو التشريعي والعدالة الإنتقالية لا أحد أخذ مليما واحدا تعويضا أو جبر ضرر! وأن الحديث على أنه ليس من حقّ ضحايا الإستبداد أن يعودوا لأعمالهم أو يُوظّفوا أو ينصبوا في مواقع إن كانوا أهلا لها بصفتهم مواطنون مثل غيرهم هو جريمة في حقهم وحق الوطن! بالملخص أعتقد أنني بعد النقاش وربّما نبرة الصدق أحدثت ثغرة في جدار قناعاته غير القابلة للنقاش! وختمت نقاشي معه بنكتة حيث كان ثمن السفرة ست دنانير ونصف سلمته عشرا وقلت له احتفظ بالباقي رغم أنني فقير ولم آخذ تعويضات أو ثمنا لنضالي! وأعلمته أنني سأوثق ما دار بيننا في مقال!
بقي السؤال الذي وجب أن يُطرح على الفاعلين في النهضة هل تقدّرون حجم إخفاقكم الإعلامي وحجم فشلكم في التواصل مع شعبكم لتبرئة ذمتكم أولا ولإظهار الحقائق ثانيا! وتوعية الناس بما تحقق من نجاحات وما حصل من إخفاقات وما هي أسبابها. ملفات كثيرة يعمل عليها خصوم النهضة ويخططون ويمكرون بالليل ثم ينفذون بالنهار لحشر النهضة في الزاوية وتقزيمها انتخابيا وحفر هوة بينها وبين جمهورها ومن وثق بها يوما، أو يعملون على استئصالها من المشهد السياسي بأكمله! والنهضة في أغلب الأحوال صامتة لا تردّ ولا تُكذب، لا تُدافع ولا تُهاجم، ورغم أن لهذه السياسة بعض ميزات ولكن سلبياتها بدأت تطغى وبدأت الإشاعات تفعل فعلها في الجماهير المستغفلة التي تحولت هي بذاتها إلى مصادر لترويج الإشاعات. خصوم النهضة يحددون ملفات حساسة يهاجمون من خلالها النهضة فيما يشبه الوشاية الكاذبة لدى القوى الدولية! ملفات من قبيل "تغيير النمط المجتمعي الحداثي" أو "التمكين الإخواني" أو "الإغتيالات السياسية" أو "الجهاز السري" أو "دعم الإرهاب" أو "قبض ثمن النضال" وغيرها من الملفات الحارقة التي يفتعلها الخصوم بخبث ومكر وتصمت عنها النهضة لأسباب واهية! ثم تصبح بعد ذلك "حقائق" يتناقلها سواق التاكسي وسيارات الأجرة والجماهير المستغفلة! فمتى تنفر فرق مختلفة متخصصة للتعامل مع هذه الملفات لكشف الكذب وتوعية الناس وإظهار الحقائق حتى يذهب الزبد جفاء ويمكث ما ينفع الناس في الأرض! طه البعزاوي 8 فيفري 2019