في عالم السّياسة لا توجد مشكلة حول نوعيّة العلاقات البينيّة، مع من تتحالف أو إلى جانب من ستقف أو كيف ستبني شراكتك، في السّياسة أيضا لا يمكن التركيز كثيرا مع الأحزاب التي مرّت من بوابة الدستور ومصفاة القانون، فقط يمكن التوافق الأخلاقي الوطني على إزاحة الأحزاب المتعنّتة التي مرّت عبر نصوص الدستور وتعمل ضدّ الدستور بل وتسفّه الدستور وتهدد المسار وتحن الى عهود العار، أمّا بقيّة المكوّن الخاضع لقوانين الملعب السّياسي، فهو هناك ليتحالف أو يعارض أو يمتنع أو يقرّ أو يعقّب.. هو هناك ليشارك في بناء حالة حكم أو في إنشاء حالة معارضة. المشكل ليس في استعمال السّياسة إنّما المشكل كلّ المشكل في الاستعمال المضرّ للسّياسة! المشكل في استعمال السّياسة بطريقة مضرّة وخطرة وقد تكون مدمّرة، إذْ لا أحد ينكر على هذا الحزب أو ذاك أن ينسج تحالفاته على الطريقة التي تخدم تصوّراته، لكن يجب أن لا ينزلق الأمر إلى مستوى العمليّات الانتقاميّة العمياء، وتتحوّل التحالفات والتوافقات إلى آفة قاتلة مبيدة للأحزاب الراقصة على وقع الفلامنكو الايديولوجي، لا يمكن أن تتحوّل نعمة التحالفات التي من شأنها تقويّة الجسم الحزبي إلى نقمة كورونية مدمّرة لخلايا الحزب متلفة لكيانه. يجبّ أن تتعظّ الأحزاب التونسيّة من تجربة الجبهة الشعبيّة، حين تحالفت مع نداء تونس وتحوّلت إلى صدريّة واقية تصدّ هجمات خصومه وتلاحق روابط حماية الثّورة، فعلت ذلك نكاية في الترويكا ورغبة في جني ثمار التحالف المشروم المائل الأعرج، الذي انتهى بفناء الجبهة الشعبيّة ثمّ تبخّر حلم حمة الهمامي بعد أن وعدوه وحدّث نفسه بأنّه سيفسح إلى سي الباجي لكي يمرّ إلى قرطاج، وهم بدورهم سيفسحون له في قادم المحطّات.." مازال في سمعي رنين حديثهم - تو سي الباجي والمرة الجّايا رقم 7" اليوم تصنع البصيلات الأيديولوجيّة بنفسها أبشع ممّا صنعته الجبهة الشعبيّة، يعمدون إلى بناء تحالفات خارج زمانها وخارج مكانها ولأغراض خارجة عن الأغراض السياسية، في حين كان عليهم أن ينتبهوا إلى أولى شروط التحالفات، وليس من شرط أكبر وأهمّ من شرط التكافؤ، على الأحزاب أن تراعي الميزان عند بناء تحالفاتها في ساحة تميد بالحسابات، لا يمكن لوزن الريشة أن يدخل في تحالفات مخاتلة ومحفوفة مع الوزن الثقيل، يهضمه إذا! يمسح به لعابه ويرميه إذا! يفصّله ملابس داخليّة إذا! كذا تفعل بعض الأحزاب اليوم بنفسها وكذا فعلت الجبهة الشعبيّة بالأمس. انتهت الجبهة الصغيرة حين تحالفت مع حزب تمّ تركيبه على عجل بإمكانيّات ضخمة "النداء"، بعد الجبهة مباشرة تحالفت النهضة الحزب الكبير مع النداء ضخم الجثة، فتنازلا وتصارعا وترافقا وتزاحما، ثم انتهى الأمر بسقوط النداء، كان ذلك احتكاك الفيلة الذي لا يمكن نسخه وإسقاطه على الوعول أو الجديان. ثم انقضى الدرس ولم يتعلّم الرفاق الدرس! عادوا مرّة أخرى في ثوب آخر للتحالف مع حزب تمّ تصنيعه بمقدرات رهيبة "قلب تونس" أي نعم أسقط لهم حكومة الجملي، وهذا فعل إسقاط.. أيّ إفساد.. أيّ تدمير، بينما قبلها كان قلب تونس تقارب مع النهضة، فأنتج التقارب رئاسة البرلمان للحركة والنائب الأول لقلب، هذا فعل بناء.. إنجاز.. تشيّيد.. إعمار للكرسي الأول والثاني في البرلمان. بعد إسقاط حكومة الجملي عاد قلب إلى النهضة، هم الآن بصدد الحديث عن العتبة، ليست عتبة3% بل عتبة 5% ، ماذا يعني هذا ؟ هذا يعني أنّ حلفاء الحلقة الضعيفة كان لديهم رئيس حكومة مستقلا والكثير من الوزارات بما فيهم بعض السياديّة، فأصبحوا أمام شبح إعادة الانتخابات مع إمكانيّة مرور عتبة كؤود وصل منسوبها إلى 5%، والملفت أنّ بعض الأخبار تتحدّث عن إشارات من الرئيس تفيد بأنّه لا يرغب في توقيع القانون "البايت" بل يرغب في قانون جديد وربّما صدرت منه إشارات تحثّ على عتبة ال5%، فكيف سيكون أصحاب الحلقة الأضعف الذين بكّروا بالدعوة إلى حكومة الرئيس وماذا سيكون مصيرهم إذا مرّت العتبة المفزعة. دعونا نراجع بهدوء ودون تشنّج، نحن أمام سلسلة من التحالفات، نفّذتها قوى صغيرة أو متوسطة، تحالفت الجبهة مع السبسي لإسقاط المرزوقي"لصالح السبسي"، تحالفت ثانية مع النداء لإسقاط الترويكا "لصالح النداء"، ثمّ كان أن سقطت الجبهة واختفت، ثم تحالفت النسخ المعدّلة من الجبهة مع قلب تونس لإسقاط حكومة الجبلي،"لصالح حكومة الرئيس"، ثم هاهي النهضة تنسّق مع قلب تونس من أجل تمرير عتبة قاتلة، عبارة على كورونا انتخابيّة.. فيا انتم! لماذا لا تتحالفون من أجل أنفسكم؟ من أجل جني أرباح إليكم، لماذا تتحالفون فقط من أجل مصالح الآخر مقابل تجهيز رفاتكم واقتناء كفنكم وكافوركم؟! الحصيلة: كلّ التحالفات التي عقدوها كانت للتهديم وليس للبناء، كلّ التحالفات التي عقدوها عادت عليهم بالهزائم والوبال، كلّ التحالفات التي عقدوها انتهت بانتصار شريكهم وباندثارهم، كلّ التحالفات التي عقدوها للنيل من خصم أيديولوجي قلب الخصم نتائجها لصالحه! لماذا هذه الحصيلة؟ لأن غالبية الاحزاب لا تقوم بفك شفرتها قبل التوجه الى الحلبة، بينما يتحتم على كل حزب التعرف اليه! التعرف على نفسه قبل ان يباشر أي نشاط او حين يباشر النشاط ضمن مراجعات دورية ومتقاربة، هل انت حزب الشعب ام حزب الملياردير ام حزب الفئة، هل انت حالة حكم ام حلة معارضة ام حالة انتقام ام حالة تشويش، والاهم هل انت حالة وطنية ام حالة استيطانية هجينة. الخلاصة: في الغرب كما في أصقاع الدنيا التي تزاول الديمقراطيّة بطلاقة، هناك الأحزاب الكبيرة التي تؤثّث السّباق وتخالط الدولة وتقود المعارضة، وهناك الأحزاب الصغيرة والمتوسّطة التي مازالت ومنذ السبعينات تمارس دور المعدّل، المرجّح، المراقب.. تلك أحزاب قانعة موقنة بأنّها خلقت للعب الأدوار الثانويّة المهمة "في الديمقراطيات المحترمة" نتيجة للعديد من المعطيات، عشرات الأحزاب العريقة في أوروبا ومنذ عقود تمارس تلك الأدوار وتتقنها ولا تحاول أن تنتفخ على إنائها، لأنّها تدرك أنّ للأحزاب الكبرى خصائصها وشروطها الاجتماعيّة الفكريّة التاريخيّة النضاليّة البيئيّة.. تماما كما للأحزاب الصغرى والمتوسطة خصائصها الأخرى، والأحزاب الناجحة هي تلك التي تقف عند قدراتها وتعلم حقيقة جيناتها وطبيعة نموّها ولا تبحث عن الصدارة بكلّ الوسائل وإن تعذّر فتسعى إلى المرور بقوّة بين فيلين في حالة عناق أو في حالة شقاق، إذا كان العناق فسترديك خراطيمهم لأنّك أفسدت اللحظة الحميميّة، وإذا كان الشقاق فستدوسك حوافرهم ويخنقك غبار معاركهم. نصرالدين السويلمي