دأبت "النخبة" التونسية منذ عهد بعيد على جعل شهري ديسمبر وجانفي ساخنين سياسيا خلافا لبرودتهما المناخية وأصبح الحديث عن شتاء ساخن أو صيف بارد في تونس أمرا عاديا حين نتحدث عن المحرار السياسي!... هذا الشتاء ليس بدعا عن سابقيه خاصة عقب سقوط نظام الاستبداد. المربك في الموضوع أن كل المتكلمين و"الثائرين" يدّعون بالثورة وصلا ويصفون مخالفيهم "بالثورة المضادة" ولا نزعم هنا أننا سنحسم الإشكال أو نصدر فيه حكما باتا، ولكن نحاول أن نضع بعض النقاط على الحروف ليتبين "الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الثورة" ومن أعدائها وأنصارها! ومما حملنا على هذا أن أحد "جهابذة" التحليل السياسي المندسين في الإعلام العمومي قد تحدى أي أحد يضع له تعريفا دقيقا يفصل بين الثورة والثورة المضادة! كما أن الزعيم اليساري "الكبير" الذي عاد بعد سبات طويل، عاد مُنصّبا نفسه ناطقا باسم الثورة محددا لمن معها ومن ضدها، وجاعلا لنفسه شرعية فوق شرعية الصندوق والانتخابات، وداعيا لاسقاط نتائج الانتخابات وما أفرزت من سلطة تنفيذية لأنها ليست وطنية ولابد حسب رأيه أن يستلم "الوطنيون" السلطة عبر ثورة جديدة ليخرجوا البلاد من أزمتها! ... كيف ووفق أي معيار؟ لم يقل ولم يخبرنا. ومع ذلك ينتظر منا أن نسلم له وأن نقبل بما يريد ولسان حاله يقول "ما أريكم إلا ما أرى"! هذا زمان كثر فيه الاستثمار السياسي في الغباء من جهة، والخيبات والمرارات من جهة أخرى. ولسنا هنا لندافع عن إنجازات أي طرف أو تبرير إخفاقاته، ولكن وجب التذكير أن الإنجازات تونسية والإخفاقات تونسية وكلها مجتمعة، لنا مجتمعين. فالذي نَصَبَ الفِخَاخَ منا وكذلك الذي وقع فيها أو تجاوزها. ولعله من أكبر عيوب الذين تعاقبوا على السلطة بعد "الثورة" أنهم لم يشيدوا بما أنجزوا ولم يطلعوا الشعب على الإخفاقات ولم يجدوا الجرأة لذكر أسبابها، فكان ما كان مما نحن بصدده الآن. وقد وجدت ماكينة الثورة المضادة الميدان فارغا فتمددت فيه وباضت وفرخت ونشرت اليأس ودست الخذلان! هناك تزييف متعمد بشكل واضح وصارخ ذلك أن أغلب التحليلات والتقييمات تحصر المشاهد أو المستمع في "اللحظة" فهي تحليلات "الكوكوت مينت"! ... من أراد أن يحلل عليه أن ينشط الذاكرة وأن يربط النتائج بالأسباب البعيدة والقريبة لنعرف ما الذي أوصلنا إلى هذا الحال ومن يتحمل المسؤولية. مع وجوب فهم الواقع والتنسيب بين الإخفاقات المحتملة في واقع "ثوري" متحرك ودولة "مستضعفة" وبين جرائم متعمدة وخيانات للثورة وشهدائها ولكل من شارك فيها. دون أن نغفل كثرة المطالب مقابل ندرة الموارد في ظل النمط الاقتصادي المفروض والفساد المستشري والمتغلغل في كل المفاصل! بلا شك للثورة أعداء و"أنصار"، فأما الأعداء الواضحون فهم الذين ثار الشعب ضدهم من الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وهم الذين يتمتعون اليوم بمكتسبات الثورة في الحرية ويلعنونها جهارا نهارا! هؤلاء موقفهم مفهوم، فالشيء من متآه لا يستغرب وكما يقول المثل "أخرج الضفدع وضعه على كرسي من ذهب يقفز مجددا للمستنقع"! ... والعبيد عموما لا يعرفون معنى الحرية وكثير منهم إن منحها رفضها ورأى استحالة الحياة خارج أسوار السيد المالك! وهم يستطيبون كأس الحياة بذلة ولا يتحلمون بالعز رؤية الحنظل ولو من بعيد! وأما "أنصار" الثورة فقسمان: أحدهما وهو الذي يعنينا قسم يظن أن الثورة أصل تجاري يمتلك مفتاحه وحده قد يعيره لبعض القريبين منه، ويُنصّب نفسه قاضيا وحكما يصنّف الناس على هواه، فهذا عنده ليس ثوريا أو لم يشارك في الثورة، وهذا "إخواني"! وهذا ظلامي! وهذا رجعي! وهذا إرهابي! وهذا صهيوني! وهذا عميل! ... وهو وحده "الثوري التقدمي الحداثي المناضل المقاوم الشريف"! ... هذا النوع من الخطاب العدمي الممجوج متمركز أساسا عند البعض من حملة الفكر اليساري أو القومي، وهو العدو الأول للثورة بتسببه في التباغض والتنازع وإن ادعى بالثورة أوصلا أو ساهم في مسارها وإنجازها، فالعبرة بالخواتيم والنتائج لا بالمقدمات. وعلى من أراد أن يربط الحديث عن هذا الفريق بسهم يقابله في الخطاب والمضمون فليعد لحوار السيد حمة الهمامي في القناة الوطنية مساء 15 ديسمبر 2020 وخطاب "الصحفي" المحلل بعده، أو لينظر في بعض بيانات اتحاد الشغل التي يحررها يساريون استئصاليون! ما حققته الثورة التونسية إلى اليوم بهناته وعلاته يعتبر نموذجا قابلا للتحسن كما أنه قابل للانتكاس، وهنا تتمثل معركة ليّ الأذرع بين أنصار الثورة الحقيقيين وأعدائها من الشقين، السابقين من أيتام الاستبداد ومحتكري الثورة لفصيل محدد. أنصار الثورة هم كل الذين يحبون أن تصبح الحرية واقعا معاشا والديمقراطية وسيلة لفض النزاعات السياسية، والكرامة الإنسانية قيمة مقدسة يحترمها الجميع ولا يمسها بسوء عن قناعة أو رهبا! تماما كما في الفصل الأول من الدستور الألماني "الكرامة الإنسانية لا تمس"! وأما ادعاء الثورية والديمقراطية فيحسنه الجميع، والأفعال هي التي تصدق تلك الدعاوى أو تكذبها، وهي التي تبني وتؤسس لدولة ديمقراطية مدنية أو لدولة قمعية استبدادية. وهنا تطرح بعض الأسئلة المشروعة: لو لم تكن الثورة التونسية قد حققت بعض الأهداف المهمة التي قد تجعلها نموذجا ملهما لماذا يحاربها أعداء الثورة من آل نهيان وأبو منشار والسيسي ومن لف لفهم؟ ... أم أن هذا العداء ظني ووهمي؟ ... لماذا ينفقون الأموال الطائلة في جيوب عملائهم أو في حربهم الإعلامية لوأد الثورة التونسية؟ أليس غريبا أن تلتقي أهداف الرجعية الخليجية مع أهداف "التقدمية" اليسارية التونسية ضدّ "الرجعية" النهضوية الإخوانية؟ لو أن "أمانة" الثورة امتلكها اليسار عبر الصندوق وكان الشعب راضيا باختياره واليسار يحقق أهداف الحرية والكرامة هل كان آل نهيان وأبو منشار ليلتقوا معه ضد الإخوان في المعارضة! ... وهل أصل العداء "للإخوان" أم لخيار الشعب وللديمقراطية والحرية؟ وليعرف كل منّا أين يقف هل هو في شق الحرية أم في شق الاستبداد هل هو مع الثورة أم ضدها بقطع النظر عن النوايا التي تكون أحيانا مناقضة للنتائج والأهداف وجب أن نعرض مواقفنا وأفعالنا على ميزان ثابت وبوصلة دقيقة تحدد الجهة المستفيدة منها! فمثلا الذين طالبوا بحل المجلس التأسيسي بدعوى أنه تجاوز سنة ولم يكمل الدستور مع استعمالهم لكل العراقيل الممكنة خلال تلك السنة هل كانوا ثوريين أم كانوا "خلفانيين" "دحلانيين" أعمتهم الإيديولوجيا، أو ملأت جيوبهم جهات مشبوهة لتحقيق المهمة؟ الذين تنادوا لإقصاء "الإسلاميين" وطائرة بن عليّ الهارب لم تحط بعد هل كانوا ثوريين؟ الذين ذهبوا لكمال اللطيف وطلبوا منه "انقلابا" على انتخابات 23 أكتوبر 2011 هل كانوا ثوريين؟ الذين أصدروا أحكامهم في الاغتيالات السياسية قبل أن يقول القضاء كلمته هل كانوا ثوريين؟ الذين تظاهروا وأوقفوا الإنتاج وحركة القطارات وبنوا جدرا إسمنتية فوق السكك الحديدية منذ اليوم الأول في حكومة الترويكا ورفعوا شعار "التشغيل إستحقاق يا عصابة السراق" هل كانوا ثوريين؟ الذين يستندون إلى الحق الدستوري في التظاهر والإضراب وينكرون الحق الدستوري في اعتماد نتائج صندوق الانتخابات هل هم ثوريون أم فوضويون؟ الذين نظموا آلاف الإضرابات وعطلوا الإنتاج في الفسفاط والنفط وغيره هل هم ثوريون؟ الذين استخفّوا بقيمة العمل في كل المجالات هل يمكن أن يكونوا أنصارا للثورة؟ "الحداثيون التقدميون" الذين تحالفوا مع "بقايا" التجمع لاستئصال الإسلاميين هل يقبل منهم بعد ذلك لوم الإسلاميين واتهامهم بالتحالف مع "التجمع"، مع الفرق الكبير بين من تحالف من أجل الإقصاء ومن تحالف للترويض ومنع الإقصاء؟! الذين يطالبون بوقف إغراق البلاد بالديون هل يشجعون العمل لإنتاج الثروة؟ الذين يطالبون بتجريم التطبيع هل يطالبون به من منطلق المقاومة أم من منطلق الوشاية؟ ... وهل يعرفون العلاقة بين التحرر الإقتصادي والعمل والمقاومة والتطبيع؟ كلمة الختام التجربة التونسية أو النموذج التونسي مازال يؤرق أنصار الاستبداد ومازال له بعض إشعاع يغبطنا عليه من خاضوا مسارات مشابهة ولم يفلحوا فيما أفلحنا فيه. وكذلك كثيرا من الشعوب المضطهدة في الخليج وغيرها يغبطون شعبنا على الحرية وهم يرونه لا يتخطف من أجل تدوينة أو مقال أو تصريح غمز أو لمز في "طويل العمر"! إذا كان الشاعر التونسي منور صمادح قد قال: "شيئان في بلدي قد خيبا أملي الصدق في القول والإخلاص في العمل: فإني أقول كلمتنان يرددهما "الثوريون" ولا يصدقون فيهما وهما "فلا عاش في تونس من خانها"! ... و"خبز وماء والاستبداد لا"! ومع ذلك فلا عاش في تونس من خانها! طه البعزاوي 17 ديسمبر 2020