لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ماذا يحدث؟..    مترشحة للرئاسة تطرح استفتاء للشعب حول تعدد الزوجات في تونس..#خبر_عاجل    عاجل/ تحذير من بيض رخيص قد يحمل فيروس أنفلونزا الطيور..    عاجل/ مقتل 10 اشخاص في تصادم طائرتين هليكوبتر تابعتين للبحرية الماليزية في الجو    خلال يوم واحد: تسجيل أكثر من 200 زلزال وهزة ارتدادية في تايوان    بطولة ايطاليا : إنتر ميلان يتوج باللقب للمرة العشرين في تاريخه    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    التوقعات الجوية لهذا الطقس..    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    عاجل/ تقلبات جوية منتظرة وأمطار غزيرة بهذه الولايات..طقس شتوي بامتياز..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    الأمم المتحدة: آسيا أكثر مناطق العالم تضرراً من كوارث المناخ ب2023    اتحاد الشغل بجبنيانة والعامرة يهدد بالإضراب العام    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    أراوخو يكشف عن آخر تطورات أزمته مع غوندوغان    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البنك التونسي السعودي ... الترفيع في رأس المال ب100 مليون دينار    في اختتام المهرجان الدولي «إيتيكات» بسوسة.. شعراء وفنانون عرب بصوت واحد: «صامدون حتى النصر»    هذه أبرز مخرجات الاجتماع التشاوري الأول بين رؤساء تونس والجزائر وليبيا    بيان أشغال الاجتماع التشاوري الأوّل بين تونس والجزائر وليبيا    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    المنستير.. الاحتفاظ بمدير مدرسة إعدادية وفتح بحث ضده بشبهة التحرش الجنسي    بنزرت: غلق حركة المرور بالجسر المتحرك في الساعات الأولى من يوم الثلاثاء    الحشاني يشرف على جلسة عمل وزارية بخصوص مشروع بطاقة التعريف وجواز السفر البيومتريين    بوعرقوب.. عصابة سرقة الاسلاك النحاسية في قبضة الحرس الوطني    الإعلان عن تأسيس المجمع المهني للصناعة السينمائية لمنظمة الأعراف "كونكت"    بوعرقوب: القبض على 4 أشخاص كانوا بصدد سرقة أسلاك نحاسية خاصة بشركة عمومية    بداية من يوم غد: أمطار غزيرة وانخفاض في درجات الحرارة    مدنين: العثور على 4700 حبّة مخدّرة وسط الكثبان الرملية بالصحراء    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 %    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    حليب أطفال متّهم بتدمير صحة الأطفال في الدول الفقيرة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    الرابطة الأولى: تعيينات منافسات الجولة الخامسة لمرحلة التتويج    رئيس غرفة القصّابين عن أسعار علّوش العيد: ''600 دينار تجيب دندونة مش علّوش''    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    حريق بمحل لبيع البنزين المهرب بقفصة..وهذه التفاصيل..    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    في سابقة غريبة: رصد حالة إصابة بكورونا استمرت 613 يوماً..!    أولا وأخيرا..الكل ضد الكل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا سقط اليسار بأيدي أبنائه في تونس
نشر في الحوار نت يوم 12 - 03 - 2014

ربّما يصاب البعض بالدهشة من طرح هكذا سؤال أو ربما يُتهم السائل بالخبل لأنّه يسأل فيما لا يلحقه السؤال، لأنّ اليسار من البديهيات التي لا يطرقها الشك ووجوده في تونس هو البديهة الأولى المسلم بها ولكنّ السؤال يبقى مشروعا طالما أن أبي الفلاسفة سقراط يؤكد: "أن العقل ينبهر بأكثر الأشياء بداهة".
المتأمل جيدا في صيغة السؤال يدرك أنه سؤال ليس فقط ملم بمسألة اليسار في تونس بل هو يحدد موقفا من وضع اليسار في تونس، فهو ليس سؤالا استنكاريّا ينفي وجود اليسار في تونس. ولكنه ينزع نحو المعرفة ما إذا كان اليسار الماثل الآن بالصورة التي هو عليها هو ذات اليسار التي عرّفت به أدبياته وعدّدت في أكثر من أطروحة خصائصه ومميزاته رغم من أن الساحة التونسية تعج بعديد التشكيلات اليسارية بشتى هياكلها التنظيمية وتحتل مراكز مرموقة في مواقع القرار مبثوثة تقريبا في كل مفاصل المجتمع. لكن ما يستشف من ضمنيات السؤال، سؤال جديد هل ينطبق على هذه التشكيلات تسميتها باليسار أم أنّها لا تتقمص من اليسار إلا الاسم؟

1) اليسار كما تعرّفه أدبياته
تؤكد أدبيات اليسار أنّه في جوهره توجّه اجتماعي ينشد العدالة والمساواة ومناهضة الظلم والاستغلال والانحياز المطلق لشرائح البؤس والمضطهدين، مع النضال المستمر من أجل تأسيس الدولة الديمقراطية التقدمية على قاعدة العلمنة والحداثة ومن منطلق شخصيته الاعتبارية المتميزة بأيدولوجيتها والمستقلة بآرائها ومواقفها. فاليسار بهذا المنظور نظرية اجتماعية تتمايز عن غيرها من النظريات في مقاربة الواقع ومتقدمة عنها بوعيها التقدمي المتفرد بالرؤية العلمية الصحيحة.
هذا التوصيف لا يحتاج إلى حجج وشواهد للبرهنة على صحته لأنّ كل مصادر اليسار تزخر بالتدليل على إيجابية المعطى اليساري. لكن، لنرى ما إذا كان اليسار في تونس تتمثل فيه هذه المقومات التي تشهد بيساريته.

2) اليسار زمن الاستعمار
تسجل دفاتر التاريخ أنّ بدايات القرن العشرين حوالي 1920 شهدت ظهور أول نواة يسارية في تونس متمثلة في الفرع الفيدرالي للأممية الشيوعية مستمدا نموذجه من المثال السوفياتي لكن سرعان ما خفت بريقه ولم يُعمّر كثيرا لغموض أهدافه وضبابية رؤيته من الحماية الفرنسية ليفسح المجال للحزب الشيوعي التونسي( حركة التجديد ثم حزب المسار حاليا) الذي كان من ناحية التكوين والأفكار فرعا تونسيا للحزب الشيوعي الفرنسي.
الملاحظ من أوّل وهلة أن اليسار لم يختط لنفسه سيرة ذاتية خاصة به، فالحزب الشيوعي التونسي الممثل التاريخي له في تلك الحقبة بدا مبتز الشخصية يتلقف ما ترشح به النخب الفرنسية من أفكار ومواقف حتى في الوضع الاستعماري الذي ترزح تحت طائلته البلاد ويظهر ذلك جليا في المسألة الوطنية بخصوصيتها التونسية التي كانت شبه غائبة من أطروحاته، فهو لم ينظر لها على أنها قضية احتلال، مطلوب منه أن يحرر وطنه من براثنه بل نظر إليه باعتباره جزءًا من صراع طبقي تخوضه الطبقة العاملة التونسية والطبقة العاملة الفرنسية ضد الاستغلال الذي تسلطه الرأسمالية الفرنسية والتونسية على حد سواء. وبالتالي ليست المشكلة مع الاستعمار لأنّ أنجلز ثمّن استعمار فرنسا للجزائر. ولكن المشكلة مع الاستغلال وهو ما حدى به إلى الاختباء وراء عباءة النقابة وفاءً لتصوّره والانخراط في الدفاع عن حقوق العمال تجنبا لانكشاف موقفه الحقيقي من القضية الوطنية وتحايلا لكسب الدعم الشعبي. لكن رغم ذلك لم يمنع اليسار من تكبد فشل ذريع في أن يتحول إلى قوة شعبية فعلية على غرار منافسه الليبيرالي الحزب الحر الدستوري التونسي بل ظل مجرد نخبة معزولة عن الجماهير، تعيش حالة من الاغتراب النفسي غير قادرة من الاقتراب من الوجدان الشعبي جراء سمعتها الملطخة بأفكار العلمنة والمعاداة للدين.
إن تجنب دخول اليسار في تواصل مباشر مع الشعب على الرغم من أن المشروعية قائمة في حد ذاتها لأنها نضال من أجل الاستقلال ولا تستدعي الإذن من سلطات الاحتلال هو نفور الجماهير لما علق بالمنظومة اليسارية من ازدراء فاضح لبناها الثقافية ونموذجها السلوكي وهو مأ أوقعه منذ البدء في اغتراب المنشأ الذي يتحدد بحالة من الشعور بالغربة بكل مضامينها في مجتمع عريض يلفظ تلقائيا ما هو غريب عنه وهذا نتاج منطقي للتمسك الدوغمائي بحرفية الإيديولوجيا وعدم الاستعداد للتزحزح عن منغلقاتها قيد أنملة ثم إسقاطها بكل حذافيرها دون مراعاة خصوصية الواقع محل التجربة أو أقلمتها مع النسق الثقافي الاجتماعي للمحيط العربي الإسلامي، فالإيديولوجيا مهما تمددت في التجريد لا تستطيع التخلي بتاتا عن سمات التحولات السياسية والاجتماعية التي تشكلت من رحمها. وإذا كانت مأساة اليسار ابتدأت باغتراب المنشأ، فإنّ المأساة تتعمق أكثر باغتراب المصير وهي أزمة اليسار الدائمة بعجزه في النفاذ إلى البنى الاجتماعية للشعب والتغلغل في النسق المجتمعي الذي ينظم نمط العلاقات بين أفراده وطريقة تفكيرهم، اغتراب المصير سيظل يلاحق دائما تاريخ اليسار لأنّه ذات السؤال الذي أطلقه المفكر الماركسي الطيب تيزيني ذات مرت في لحظة معاناة شقية على صفحات مجلة "اليسار العربي" الباريسية في عددها الصادر بتاريخ جوان 1983 : كيف لإنسان يدعو إلى التقدم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وهو لا يجد في جماهيره حليفا حقيقيا ؟ لكن التأصيل النظري الذي شكل الناظم الأساسي لكتابه "من التراث إلى الثورة " في مقاربة للإجابة عن سؤاله لم يعفي الطيب التيزيني من الخضوع المطلق لمنهج المادية الجدلية التي كانت سببا في انقداح السؤال في ذهنه وانصراف الجماهير عن حوضه وبالتالي لم يكتفي بإسقاط إيديولوجي على الواقع بل أضاف إسقاطا إيديولوجيا على التراث .
لقد سجل البيان الإحصائي لنشاط اليسار إبان مرحلة الاستعمار درجة سلبية جدا تكاد تكون منعدمة تماما، فلم يعثر على مواقف ثورية ميدانية تقاوم الاحتلال وتثبت أن هناك نضال تقوده شرائح اجتماعية مثقفة معروفة بانتمائها لليسار وتحاول ان تفرض أسلوبها في ميدان المعركة كقوة شعبية تناصر الإرادة الوطنية في التحرر من نير الاستعمار بل كل ما ترامى عن تلك الحقبة من مختلف الاتجاهات أن ليس هناك يسارا مطلقا وكل ما هنالك حزب حر دستوري استأثر لوحده بمسار الحركة الوطنية واستأثر زعيمه بورقيبة بقيادة تلك الحركة.

3) اليسار ودولة الاستقلال
ربما في هذه الحقبة الوجيزة التي هي من حالات التاريخ الشاذة التي ظهر فيها اليسار بوجهه الحقيقي، فبعد حل الحزب الشيوعي التونسي الذي لم يكن ذا أثر بالغ، تدارك اليسار وضعه حين قررت سنة 1963 مجموعة من الطلبة في باريس تأسيس "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي" وإصدار مجلة بيرسبكتيف التي حاولت أن تكون أكثر حضورا وفعالية في الواقع التونسي وهكذا وجد اليسار ضالته في حركة أفاق بديلا عن الحزب الشيوعي التونسي أكثر راديكالية في صراعة مع الديكتاتورية الناشئة، ومع أن اليسار الجديد كان يرنو إلى فتح آفاق رحبة من العمل النضالي إلا أن أفقه الشعبي المنعدم دفعه إلى الاقتصار على العمل الدعائي في الجامعة والتستر بالاتحاد الذي كان منبرا للقيام بالعمل التحريضي في صفوف العمال .
في المقابل كان النظام البورقيبي في عنفوان سطوته وغطرسته خاصة بعدما قضى على كل معارضيه وبدا زعيمه "المجاهد الأكبر" حريصا على احتكار كل المفاخر لحضرته فلقد تقمص موضة الستينات السياسية بأن غير اسم حزبه من الحزب الحر الدستوري التونسي إلى الحزب الاشتراكي الدستور التونسي لسببين اثنين: أولا لينتزع صفة اليسارية من الفاعلين معه في الساحة السياسة وبالتالي لا تبقى كعلامة مميزة محتكرة وهو ما يعني أن اليسار ليس قالبا معلبا بل هو أفهام متعددة لها دواعيها وحججها وثانيا أن المنافسة كانت على أشدها في تلك الفترة بين بورقيبة وعبد الناصر الذي كان يصنف على أنه أبو الاشتراكية في الوطن العربي ومعروف عن بورقيبة شعوره بالعظمة الذي يدفعه أن يكون عظيما على كل الواجهات فلم يترك لعبد الناصر الفرصة أن يستأثر لوحده بزعامة الاشتراكية بل لا بد أن يكون له نصيبا فيها يضفي به مفخرة على مفاخره الأخرى.
لا يذهب الاعتقاد بأن اليسار وبورقيبة كانا على طرفي نقيض بل كانت المشكلة الثقافية هي القاسم المشترك الذي لا يختلفان فيه قط. ربما لم يدرجها اليسار في طروحه كمسألة ذات أولوية في البدء لأنه يتناغم مع بورقيبة في هدف علمنة الدولة وافتكاك المواقع التقليدية للإسلام في المجتمع لفائدة الحداثة لكن هذا الموقف لم يلبث على سيرته الأولى عندما برزت نواة جماعة إسلامية سرعان ما تبلورت في تنظيم حركة الاتجاه الإسلامي حيث ناصبه العداء في قراءة سخيفة تتدعي تشكيل هذا التيار بإيعاز من النظام ذاته للحد من فعالية اليسار دون التعمق في ملابسات المرحلة التاريخية وتحليلها تحليلا موضوعيا وهي مرحلة منيت بإخفاقات كبيرة على أكثر من مستوى ويمكن تحديد أهم الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل :
أ- دولة الحداثة التي عمدت إلى إعادة تشكيل البنى الثقافية والاجتماعية للشعب التونسي وفق متطلبات العصر دون ربطه بالفضاء المعرفي والحضاري للمجتمع مما أفرز في أغلب جوانبه نموذجا هجينا انتهى إلى تهميش البعدين الأساسين للثقافة الشعبية الإسلام والعروبة.
ب- هزيمة 67 التي أحدثت صدمة عنيفة هزت أعماق الوجدان الديني للجماهير التونسي حتى أن المظاهرات التي قادها الطلبة تنديدا بالصهيونية تحولت إلى تحرك عنصري ضد اليهود .
ج – تجربة التعاضد التي تحولت إلى كابوس ضاغط على كل الشرائح الإجتماعية مما جعل المواقف الإجتماعية تختلط، فيقف صغار الفلاحين والعمال مع الكبار للحيلولة دون دون مواصلة التأميم.
د- تنامي الإحساس بإنسحاق الهوية الوطنية بإعتبارها عنصرا مفقودا في الخطاب السياسي الرسمي أو في الخطاب اليساري المعارض.
لقد كانت هذه الأسباب وغيرها التي لم نأتي على ذكرها هي الإطار الذي مهد لنشوء الحركة الإسلامية في تونس ولا يمكن قراءة العمل الإسلامي المعاصر خارج إطار تلك التحولات وعلاقة الأنا بالأخر ،هذه العلاقة التي شكل الاستعمار بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عاملا أساسيا في تبلورها .
لم يدرك اليسار مكونات تلك المرحلة بكل تعقيداتها المحلية والدولية وهو ما حدا به في حمأة انفعاله الإيديولوجي من الغريم الإسلامي إلى إفراغ الصراع من مضامينه الفلسفية الداعية للنضال ضد الاستبداد والاستغلال ونقل مركز ثقله من الحقل المادي إلى الحقل الثقافي، فلم يرى في الاتجاه الإسلامي قوة جديدة صاعدة تعاضده في النضال من أجل الحرية بل نظر إليها كقوة رجعية ظلامية مغايرة له في المرجعية والتفكير وتعتبر هذه اللحظة الفارقة التي تنصل فيها اليسار نهائيا من ماهيته الجوهرية المناهضة للسلطة السياسية بقطع النظر عمّن يشاطره مبدأ النضال على الساحة السياسية ذاتها ليجعل من ذاته هيولى ماركسية تتقاذفها كل الصور التنظيمية من ماوية، ستالينية، خرتشوفية، تروتسكية، خوجية (نسبة إلى أنور خوجة: ألبانيا) المعادية للتيار الإسلامي. منذ تلك اللحظة فصاعد لم يعد التناقض السياسي مع النظام البورقيبة في سنواته الأخيرة هو التناقض الرئيسي بل صارت الهوية بكل تمظهراتها الرمزية وأساليب تعبيرها هي محك الصراع والهدف المطلوب نقده بكل الأفكار العلمانية التقدمية وإذا استحال ذلك فممكن نقده بالحلول الأمنية عن طريق السلطة. ومنذ تلك اللحظة كذلك لم يعد هناك يسار ينظر للواقع التونسي بكل مركباته الاجتماعية والثقافية التي تعتمل في رحمه وتضبط قوانينه الداخلية وتسير حركته كما كانت تنظر كل حركات اليسار سواء في المشرق العربي من خلال محاولات الطيب تيزيني وحسين مروة أو في أمريكا اللتينية من خلال "تحالف اللاهوت و الناسوت ". فعلاوة على موقفه العدواني من الثقافة الوطنية بشكل عام فإن ما يسمى باليسار لم يتورع من محاولة كسر إحدى أجنحتها الأساسية اللغة العربية من خلال إصداره لكراس ثقافي يلقن فيها العامل أدوات شغله باللغة الدارجة على غرار " بينسة، برويطة، بالة، كلاّب"، على أساس أنّ تلك الكلمات هي المتداولة العفوية في لغة التخاطب بين العمال والتي يستطيع بواسطتها فهم عمله كما ينبغي إلا أن الغرض الحقيقي هو ضرب الشخصية التونسية في مقتل من خلال قطع صلة العامل بتاريخه وتراثه.
4) اليسار ذراع الحقبة النوفمبرية
يظهر جليا أنه لم يعد هناك ما يمكن أن نسميه يسارا في تونس بالمفهوم الذي تتوافق عليه مقاييس الأممية الاشتراكية ولكن من باب الإجراء الشكلي للتمييز فقط نستطيع بمجازفة اصطلاحية وصفه بمجموعات سياسية مغامرة تتلحف بميولات يسارية فقدت بريقها وقدرتها على التعبئة والإقناع بسبب الزحف الإسلامي وسقوط الشيوعية (1986-1990) ،فانخرطت كذراع تزكي تصور المخلوع بإمكانية إقامة تعددية بدون الإسلاميين .
تقمصت هذه الذراع دورها بكل حرفية وذكاء ،فلم يعد يعنيها أن ترفع قفاز احتجاجها في وجه الطاغية الجديد كما هو مسلم به عند كل يساري في مواجهة الطغيان بل صار كل همها التواطؤ مع أجهزة القمع النوفمبرية سواء بالتنظير لسياسة تجفيف المنابع الهادفة للقضاء على الإسلام السياسي من خلال المزيد من الإمعان في علمنة التعليم والثقافة أو بالمقايضة الرخيصة من خلال السقوط الأخلاقي في تشويه عرض الإسلاميين مقابل السماح بإصدار جريدة أو مجلة .
من مزايا ذلك الخنوع المتسربل بالدعاوي السياسية الواهية والتي لا تقنع إلا المسكون بالعجز والانتهازية تمكن قيادات تلك المجموعات من الالتحاق بالمراكز العليا في صناعة القرار تربية، إعلام، أمن. وهي مواقع يسّرت تصفية الحساب ثقافيا وأمنيّا مع منظومة الهوية ورموزها. ولقد صدرت في تلك الفترة العديد من الكتب التي تنال من ذهن المواطن تشويشا والتباسا حتى لا تتبلور في فكره صورة نقية وناصعة على التيار الإسلامي وربما على سبيل الذكر لا الحصر نرصد (القرآن والتشريع، الحرية والالتباس الحضاري، الإسلام والحداثة..) وهي كتب كانت للعناصر التي تدعي اليسارية ضلوع كبير في إصدارها وصياغة مواضيعها المتركزة أساسا على نسف الأساس التي ترتكز عليه هوية الشعب وسلم القيم والأخلاق التي تسود تفكيره وعلاقاته. ليس هناك شك بأن انتحال صفة اليسار ما هي إلا امتداد لسمة المراحل السابقة لكن المرحلة النوفمبرية كانت أبشع المراحل من حيث النوع ومن حيث الدرجة لأنها مرحلة انعدمت فيها الأخلاقية النضالية ولم يعد يستفز تلك المجموعات آلام المضطهدين ولا بؤس البروليتاريا الرثة ولا ضحايا النفي والتعذيب ولا سياسة الاستبداد التي تغتال الحرية في اليوم ألف مرة ولا استشراء الفساد الضارب أطنابه في معاقل السلطة وزبانيتها، ولا المضامين الثورية التي كانت فحوى بياناته وشعاراته بل كان البرنامج الأول والأساسي هو التصدي للإسلام السياسي ولم تمنعه البراغماتية السياسية من تصنيف المشاطرين له في مقاومة المخلوع أعداء له في حين كان الظرف السياسي وقتها يحتم على الجميع الاستفادة من كل الجهود بقطع النظر عن الخلفية الفكرية التي تدعمه مادامت المصلحة تلتقي في النضال ضد الطغيان النوفمبري والذود عن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية ، ربما كان هذا أقل خصلة حميدة تحفظ بها تلك المجموعات ماء وجهها وتعلن توبتها من مناصرة الظلم والتبرير له، ولقد كان الكثير من المثقفين يعتبر مشاركة بعض فصائل تلك المجموعات في الإمضاء على وثيقة 18 أكتوبر ببنودها الثلاثة بمثابة مراجعة تصحيحية للخط التحريفي الذي وصم مسطرتها السياسية واعترافا منها بخطأ تقديري في موازين القوى وتكفيرا عما بدا منها من خذلان لمبادئها وخيانة لرفقاء النضال في الوطن لكنه تبين أن ذلك الموقف هو الأسوأ من جانبها في الانتهازية لأنه كان رد فعل جبان اتجاه النظام الذي انقلب عليها بعدما أفرغ غيظه من التنكيل بالإسلاميين وعوض أن تعيد ترتيب أولويتها من جديد هرولت نحو التناقض الرئيسي نكاية في النظام وكأنها تستجديه بالهروب في الاتجاه المعاكس أملا أن يحتضنها هذا الأخير خشية ان تنفلت من بين يديه . لم نرى ضرورة الاستشهاد بالحجج والقرائن والشواهد التي صدرت من بعض اليسارين سواء التي تؤكد تواطؤهم بصفة تنظيمية أو التي تؤكد كذلك بصف فردية إدانتها لذلك التوجه وتبراها منه لأنّ ذلك يتطلب مساحة أكبر مما هو متاح في هذة المقالة لكننا أردنا مقاربة السمة العامة للخط البياني لليسار وتوجيه الانتباه لما يريد دراسة التصرف اليساري بأكثر عمق وأكثر تحليل.

5) هل أنقذت الثورة اليسار؟
هناك رأي شائع على الثورة التونسية، يقول إنّها صيغت دون زعامة سياسية موجهة لها. ورغم مما يحمل هذا الرأي من وجاهة فإنه كان غير دقيق في توصيف قيادة الثورة حتى بلوغ قيامها، صحيح أن الثورة تبدو تحرك شعبي هائج تسوقه التلقائية ولكن ما يعتمل في رحمها من حركية فعالة مصرة على الدفع بها إلى أقصى غاياتها ليست بمنأى عن سياقات الدوافع السياسية، فقد كانت الإيديولوجيا حاضرة بتنوع المشهد الثوري من خلال قواعد الأحزاب المبثوثة في كل المفاعلات التي تمدها بالطاقة وتشحذ العزائم للهبة الجماهيرية الرابضة أمام رمز الإرهاب والاستبداد الممثل في مبنى داخلية المخلوع، وما يشهد به التاريخ أن الثورة التونسية كانت على حس وطني منقطع النظير فلم تشأ أن تكون ملكا لتيار فكري بذاته أو يحتكرها فصيل سياسي بعينه بل كانت مفتوحة للجميع حتي لا يشعر أي كان بأن له الفضل على الآخرين على أن المطرود الوحيد من هذا الانفتاح الثوري هو التجمع الحزب الحاكم بحكم أن الثورة أطاحت به و أطاحت بالنظام الذي استباح به السلطة والثروة والسلاح وكان أول قرار أصدرته الثوة بعد انتصارها هو تجريم حزب التجمع ومنعه قانونيا من مزاولة أي نشاط سياسي.
لكن هل عاد اليسار إلى رشده وتصالح مع ذاته؟
إنّ الأحداث التي تعاقبت بعد فرار المخلوع، أفرزت صورة وطنية ناصعة إذ بدت كل القوى الوطنية معتزة بإنجاز الشعب التونسي، تحدوها إرادة قوية في استكمال الثورة لكل استحقاقاتها إلا أن تلك اللحمة المتوحدة التي أطاحت بحكومة محمد الغنوشي سرعان ما بدت تتصدع خاصة بعد حصول حركة النهضة على الترخيص القانوني وتحديد تاريخ 23 أكتوبر 2011 موعدا لإجراء الانتخابات لا سيما أنّ هناك ثلة من القوى السياسية على رأسها اليسار لم ترحب بانضمام حزب حركة النهضة للمجتمع السياسي بصفة شرعية لأن النهضة بالنسبة لها ليست مجرد حزب سياسي ينشد حظه في الحصول على السلطة وإنما هي مشروع نمط مجتمعي سيحدث الكثير من التغيير على نسق حياة التونسيين وطريقة تفكيرهم وربما يقطع مع النموذح الغربي الذي طالما اجتهدت دولة الحداثة اليعقوبية في تركيز أسسه وتثبيت رموزه في كل مفاصل المجتمع الحيوية، لقد كان تواطؤها مع الاستبداد قبل الثورة للحد من تأثيره العميق لدى الأوساط الشعبية في العهد البائد كنوع من المهادنة المسكونة باستحالة سماح منظومة العداء للدين بالعمل القانوني لها ولذلك لا يضيرها حضور حزب حركة النهضة في الساحة مادام سيتلهى بالانشغال الدؤوب نحو البحث عن الشرعية ومادام سيضطر للانقطاع عن العمل طالما أن الهرسلة الأمنية ستلاحقه بدون موعد، أما الآن فإن الوضع اختلف وصار للحزب من القانونية والشرعية ما يمكنه من الالتفاف إلى مشروعه وصياغة برنامجه المجتمعي بالإضافة إلى الاستعانة بأدوات الدولة التي يخولها العمل القانوني، لذلك انصرف اليسار عن طرح القضايا الجوهرية التي نادب بها الثورة كالتنمية والتشغيل والحرية والديمقراطية والمواطنة والعدالة وانخرط يساند المواقف الصادمة لشعور الشعب ووجدانه ظنا منه أنّ شيطنة التيار الإسلامي سيقلل من شعبيته بل أمعن في الهزء والسخرية والاستخفاف من قيم هذا الشعب الأصيل الذي قاوم صروح الاستبداد ببساطته وإيمانه بهويته.
لقد قاد التغابي السياسي اليسار إلى العجز عن إدراك الواقع الجديد وفهم كنه الثورة ودواعيها التي كانت متصلة بمعاناة التونسي وحرمانه وفقدانه لحريته وحقوقه ولم يكن حاضر في اللحظة الثورية ليستثمر كل ممكناتها المنفتحة على تطلعات الشعب وأشواقه والتصالح مع جذوره وثقافته وكانت نتائج انتخابات 23أكتوبر انعكاسا واقعيا لذلك التيه السياسي الذي أكد حجم اليسار الحقيقي والتي لم تبلغ النسب المتحصل عليها المعدلات الحافظة لكرامته كتيّار يدّعي الشعبية والنضالية.
لم تستطع الثورة ولا النتائج الانتخابية أن تنبّه اليسار بالوضع المزري الذي تردّى فيه لأنه استعار أنواعا جديدة من الولاء السياسي المقنع بالإيديولوجيا المنفعية التكتكية كضرورة حتمية للمصلحة، وهي أمور تجلت بالخصوص في التحالف مع قوى تمثل الثورة المضادة، قوى تتلقى الدعم من أطراف خارجية كان "ما يُسمّى اليسار" يستميت في وصفها بالرجعية والعمالة والرأسمال المعولم (الإمارات، السعودية) بل وصل الأمر بأحد زعمائه "التاريخين"، إلى الالتقاء بسفير دولة عظمى كان يعتبرها هذا "الزعيم التاريخي" أكبر داعم للرجعية والعدوّ الأول للشعوب التي تتوق للحرية.

6) أي مستقبل لليسار التونسي يا ترى؟
أبت الانتخابات إلا أن تعطي لليسار حجمه التاريخي الذي كان رافضا لحد ما التسلط البورقيبي، لكنه كان ذلولا خادما للتسلط النوفمبري، وفضّل التونسيّون إعطاء أصواتهم لكتلة إسلامية واضحة المعالم عوض تفريقها على أحزاب تتسمّى مجازا يسارية تتهم رفاقها بالتحريفية والدغمائية والبرجوازية والعفوية وغيرها من نعوت لم يحصيها المواطن البسيط في ثقافته اليومية.
أصاب اليساري صابر عباس في نقده لما يعتبره نفسه يسارا عندما جزم قائلا : المتأمل اليوم في المشهد السياسي التونسي يرى أن الاستقطاب الثنائي عاد إلى ما كان عليه من قبل نهاية الثمانينات وبداية التسعينات بين إسلاميين ودستوريين، وبقي اليسار هامشيا بعيدا عن المواطن البسيط لا يتكلم لغته ولا يعبر عن مشاكله ومنه من نزع ثوب اليسارية ليلتحق بالشق الليبرالي. فأي مستقبل لليسار التونسي يا ترى؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.