السيد الرئيس قيس سعيّد السلام عليكم وبعد، أقرّ بين يديك بداية سيدي الرئيس أنني محتار بأي أسلوب أخاطبك، ... هل أخاطبك كما خاطبت أسلافك بخطاب يجمع الطرافة والسخرية وفنّ المقامة والتلميح دون التصريح! ... هل أخاطبك من كوكبنا وأرضنا أم من كوكب آخر قد يكون شبيها بكوكبك الذي منه انحدرت؟! ... هل أخاطبك ناقدا أم ناصحا؟... فقد حيرتني فعلا سيدي الرئيس بين نظافتك الظاهرة واضطراب حديثك المخلّ! ... وحيرتني بين الصمت على طبعك الغامض أو التشهير بأسلوبك الصادم!... وحيرتني كذلك هل نهجك هذا الذي تسلكه هو مبلغك من المهارة السياسية وذاك هو "حدّ ما اعطى ربّي" أم هو خيار اخترته كما يمكنك أن تختار غيره! سيدي الرئيس، لا أحبّ أن أغلظ لك قولا أو نصحا وذلك لسببين أساسيين أولهما أنه ليس لي دليل على عدم صدقك أو سوء نيتك، وبالتالي مازلت أحترم بعض صدقك الظاهر، وثانيهما احترام بعض أنصارك المقتنعين بك لا المتاجرين بك والمستغلين لك، وهم بعض المؤمنين بمشروعك حتى وإن كان مشروعك هذا مجرّد كتابات على الجدران حسب تعبيرك. وعليه أحاول أن كون في رسالتي ناصحا أكثر من ناقد! وأعترف بداية أنني نادم وغاضب من نفسي اذ انتخبتك ودعوت الناس لانتخابك وقد تبين لي أن الميزان الذي اعتمدته كان مختلا أو متأثرا بحقول مغناطيسية ورياح قوية، فقد خُيّرنا في اعتقادنا بين "حسن وسيء" ولكن حقيقة الخيار كانت بين "سيء وأسوأ" دون أن نحدد الآن السيء والأسوأ فالأمر يحتاج إلى دراسة وتدقيق! وقد اضطررنا للاختيار بين الغموض و "الفساد" فكانت نتيجة ما نحن فيه على ما يبدو أن الغموض أضرّ من الفساد! فعدوّ ظاهر خير من "صديق" يتربص بك، والحديث هنا عن الثورة ومسارها لا عن الأشخاص! ولكن تلك عيوب الديمقراطية وميزاتها وعلى من أخطأ أن يحترم الصندوق اجتنابا للفوضى، ثم يصلح خطأه في أول فرصة وفق الطرق الديمقراطية المعتادة. لقد انسقنا سيدي الرئيس وراء موجة "شعبوية" ... مع ملاحظة أنني أكره استعمال هذه الألفاظ ولكني لم أجد غيرها. وقد بان اليوم أن الأمر لم يكن مجرّد هبة "شعبوية" تلقائية ولكن هناك كواليس خفية قد خدمت وسوقت وموّلت! ... ومع ذلك "بصحّتك سيدي" لو أنك ملأت مكانك! غير أنه بان بالتجربة أن ليس لك من الثقافة السياسية وآبجديات تسيير الحكم حظّ وأنت أبعد ما تكون عن ذلك، لأن الحكم ليس "محفوظات دستورية" تسترجع فصولها بأسلوب "روبوتي" يثير السامعين عند الوهلة الأولى ثم يثير الاستغراب والشفقة بعدها! وبان أنّ التعويل على ذلك الأسلوب اللغوي المتقعّر في إخراج البلاد من أزمتها، وتقليل التنافي الإيديولوجي فيها، والتخريب المتعمد لاقتصادها ومسار ثورتها "كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاه لم يجده شيئا " ... فقد ازداد الظمأ يا سيادة الرئيس وازداد التنافي والتباغض ولم تكن سيادتكم بمثابة الخيمة التي تجمع المتنافرين من "شركاء الوطن" بل كنت الجُحر الذي يفرّق ولا يجمع! سيدي الرئيس ما نصح لك الذين التفوا من حولك، ذلك أن النسبة التي انتخبتَ بها فتحت أمامك طريقا سيارة لتكون من رموز الوطن الجامعة ورئيسا لكل التونسيين بألوانهم المختلفة وأفكارهم المتقابلة مع شيء يسير من التواضع ونكران الذات. سيدي الرئيس، إن التعالي على الصغائر وعلى ما يُفرّق لا على ما يجمع هو منهج الكبار في التقريب واحتواء الخصوم، وبتصرفاتك وتصريحاتك اخرت أن لا تكون من الكبار ولا تقاربهم! وذلك المنهج هو منهج الحكماء ولكنك للأسف أكدت إلى حد الآن أنك والحكمة السياسية خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا إلا أن يغيّر الله الإحداثيات في وعيك! سيّدي الرئيس، خطابك قزّمك بعد أن جعل منك الشعب "عملاقا"! ... فأي رسائل هذه التي توجهها لشعبك وأنت تتحدث صباحا مساء وأيام الآحاد والعطل عن المؤامرات والغرف السوداء المغلقة والعصابات والخونة والتمويل الخارجي! ... أليس الأولى بك أن تقاوم ذلك على افتراض وجوده وتقدم قرائن الإدانة وتحاسب وتقاضي بدل بث الأراجيف ورفع مواويل الهلع في بلد فيه ما فيه من الأراجيف والإشاعات التي يبثها المغرضون واليائسون؟ سيدي الرئيس، منذ توليت منصب الرئاسة وأنت تقاوم "سطوا" موهوما ومزعوما على صلوحياتك وتقاتل من أجل صفة" الرئيس" تريدها لك وحدك لا شريك لك فيها! ... ورغم أنه لكل مقام مقال فلم نرك يا سيادة الرئيس تحسن اختيار مقام تنزل فيه مقالك، ولم نرك تكيف مقالك ليناسب المقام وهذا والله من أشد المآخذ عليك. عجيب أمرك أولا، رئيس منتخب له ما له من صلوحيات ليست قليلة ضبطها له الدستور ومع ذلك يخاطب شعبه بمنطق معارض عدميّ من جماعة "الصفر فاصل"! عجيب أمرك ثانية، رئيس منتخب يسمح بالنفخ في "تنسيقياته" وأتباعه من القُصّر خصوصا ليحدثوا الفوضى والقلاقل في لحظة زمنية فارقة من تاريخ بلده سياسيا واقتصاديا! ... في عمل لم أجد له شبيها إلا في جنون الوزير شاور حين أحرق مدينة الفسطاط قرب القاهرة سنة 1168 "ليصد الغزاة"! عجيب أمرك ثالثة، إذ أراك يا سيادة الرئيس كحطاب يقطع من الشجرة فرعا يقف فوقه، فإذا هوى الفرع بفعل المنشار هوى معه حامل المنشار! عجيب أمرك رابعة، أي خطاب توجهه لشعبك وأنت تخاصم رئيس حكومة أنت من اختاره وفرضه وفق تقدير أنه "الشخصية الأقدر" كما اختار سلفه، أليس في ذلك اتهام لنفسك؟! ... وتخاصم رئيس برلمان الشعب، والشعب من اختاره! ... وهب أنك في خلاف أو خصومة معهما، وهب أنهما ظالمان باغيان فهل سُدّت كل طرق التواصل وحل الخلافات، دون مزيد إرباك لمسار مرتبك أصلا بفعل مكر أعدائه وحماقة بعض "أنصاره"، وأي صورة تقدمها لشعبك؟! عجيب أمرك خامسة، تدعي ثورية وتمسكا "بالشعب يريد" وحبّا للوطن لا تصدقه بعض أفعالك وتصريحاتك وتحالفاتك المستغربة مع "جرحى" الصندوق من أعداء "الشعب يريد"، والأولى بك أن تكون إلى هوى الشعب أقرب دون تمييز بين أبنائه من القلة كانوا أو من الكثرة! عجيب أمرك سادسة، وأنت تدفع بالبلاد نحو الهاوية وتهدد تهديدا مبطنا بإدخال الجيش الوطني والقوات الأمنية في مسارات أثبتت فشلها في كل البلدان وكانت وبالا على من مشى في ذلك الطريق العدمي! وتزعم أنك تريد الإنقاذ وما ذلك فعل إنقاذ ولا مقاومين إنما فعل غزاة وصفتهم طوعا وتكرما من عندك ب"الحماة" "البروتكتاريون" مقبّلا أكتاف أحفادهم متنكرا لتضحيات آبائنا وأجدادنا رحمهم الله! عجيب أمرك سابعة، دخلت التاريخ من باب كبير في غفلة ولكنك مصرّ "إلحاحا" على الخروج من بابه الصغير وهو ما لا نتمناه لك ولا لتونس، خاصة وقد عُدّ يوم فوزك بمنصب الرئيس يوم من أيام تجدّد الثورة في مواجهة حرب الرّدة على الثورة! السيد الرئيس، خطابك عن شرعية قوة الدولة وأنها الوحيدة التي لها حق ممارسة القوة لفرض الأمن بيّن أنك "أُذُن" وأنك تقول ما يصبّه في أذنك كاذبون متطرفون مروّجون للفتنة! ... ذلك أنه لا خلاف على ما قلتَ، ولكن الخلاف حول فهم الخطاب المسبّب "لدرسك" في هذا التوقيت بالذات، فهل سمعته يا سيادة الرئيس قبل أن تتكرم علينا بدرسك القانوني الجاف دون موجب أو مبرّر؟! سيدي الرئيس، هب أنك خرجت من مسكنك بصفتك مواطنا عاديا، فوجدت أحداثا يحاولون الاعتداء على محل لتهشيمه وسرقته، ألن تحاول التدخل بالمتاح لك لحماية ملك مواطن ولو بكلمة تحاول بها تغيير منكر؟ ذلك بالضبط ما ورد في الكلام المذكور الذي عقبت عليه بدرسك القانوني في أن الدولة هي وحدها صاحبة حق احتكار القوة ولم يقل صاحب الخطاب خلاف قولك ولا خص فئة من الناس بما قال! السيد الرئيس، أتمنى لك أن تتدارك أمرك فتصلح ما أفسدت وتبعد من لا ينصح لك، وتتحرر من هوى النفس، وتأثيرات رياح السموم الإيديولوجي الاستئصالي، فلا تفرّق بين شعبك. وتمارس ما أتاحه لك الدستور من صلوحيات بدل تدوير طواحين هواء في معارك نفوذ. ولا تجعل يا سيادة الرئيس نفسك خصما وحكما خاصة في تأويل الدستور فذلك لا يليق بالكبار وليس من فعلهم، ونتمنى لك أن تسجل اسمك مجددا بينهم أو على الأقل لا تزد في محوه من قائمتهم وقد كُتبت معهم صدفة! السيد الرئيس، نصيحة مخلص، دعك من "القذّافيات" وجنون العظمة فلو أفادت لأفادت صاحبها المقبور، وابحث عمّا ينفع الناس ويمكث في الأرض. تحياتي والسلام طه البعزاوي 27 جانفي 2021