مقدمة : يعد الغضب من الانفعالات التي حظيت قديما و تحظى حديثا باهتمام متزايد ، لنتائجها و آثارها على الأفراد و المجتمعات و الأمم . بل لا نغالي عندما نقول بأن العدوان و مقاومته يتفاعل فيهما الغضب بدرجة كبيرة ، فالاعتداء في أحد صوره هو انتقام أو تشفي مفرط على حدث ما ، و مقاومته هو صورة للحمية التي هي استجابة طبيعية في صورة غضب يتشكل وفق حجم و آثار العدوان و امكانات المعتدى عليه . و يتجلى الغضب أيضا في صور من الأحداث المهمة في الحياة : السلم و الحرب ، الأمن و التسيب ، الوحدة و الفرقة ، الأنانية و التعاون و غيرها . و في هذا البحث سنسعى إلى تقديم مقاربة معرفية مسنودة من التراث النفسي الاسلامي . و هدفه ليس تمجيد للتراث أو بحث عن مبررات تراثية للثورة المعرفية و تسويقها في المحيط العربي و الاسلامي . فهدفنا هو المعرفة بالتنقيب في تراثنا و قراءته على ضوء التطور المعرفي الحديث . كتاب " احياء عوم الدين " : تم اختيارنا لأبي حامد الغزالي لأنه كما يقول العثمان " من الأوائل اللذين نحوا لدراسة النفس موضوعيا " ( العثمان ، ص 14 ، 1981 ) . و يعتبره الأهواني عالما نفسانيا ، بل و واضعا لأسس علم نفس إسلامي ( في : العثمان ، ص 14 ، 1981 ) . و يذهب نجاتي إلى أن الغزالي قد ابتكر بعض الأساليب الفعالة في تعديل السلوك الانساني و يشير إلى أنه قد سبق بهذه الأساليب علماء النفس و المعالجين النفسانيين و السلوكيين المحدثين ( نجاتي ، ص 166 ، 1993 ) أما اختيارنا لمصنف " احياء علوم الدين " للبحث فيه عن مفهوم الغضب و حقيقته و أسبابه و آثاره ، فهو ينبني على أهمية هذا المصنف و صاحبه . و قد أحصى بدوي ما يقارب 26 شرحا و مختصرا للإحياء ( الخالدي ، ص ب ، 1998 ) , و يعتبر الخالدي كتاب الإحياء " موسوعة شاملة لكل ما يهم الفرد المسلم في أمور دينه من حيث العقيدة و العبادة و الأخلاق . و يشمل مصالح الفرد و الجماعة " ( المصدر نفسه ) . يتضمن الإحياء في مختلف طبعاته خمسة أجزاء . مع ان متن الكتاب يتكون من أربعة أجزاء أساسية وهي : ربع العبادات ، ربع العادات ، ربع المهلكات و ربع المنجيات . و كل ربع يتضمن مجموعة من الكتب . و الربع الثالث هو الذي سيتركز عليه اهتمامنا ، لتضمنه " كتاب ذم الغضب و الحقد و الحسد" . و يقرر الخالدي في مقدمته للإحياء بأن هدف الغزالي من مصنفه هو " الارتقاء بقارئه من صورة التعليم العادية الجافة إلى مستوى العلم السلوكي الذي يدفع إلى العمل و التطبيق لا مجرد العلم فقط " ( المصدر نفسه ) . تعريف الغضب : يعرف الغضب لغة بأنه " بُغض الآخرين و حب الانتقام منهم " ( دليلي مقياس الغضب المتعدد الأبعاد ( د.م ): http://www.bnikhaled.com/vb/showthread.php?t=2643 ) . و يعرف نوفاكو الغضب بكونه " حالة انفعالية تتحدد بوجود إثارة فيزيولوجية و عنصر ادراكي معرفي " و هو ما أكده أيضا لازروس ( عبدالرحمن و عبدالحمد ، ص 8 ، 1998 ) . أما تشارلز سبيلبيرجر فيعتبر الغضب بأنه " إحساس أو عاطفة شعورية تختلف حدها من الاستثارة الخفيفة انتهاء إلى الثورة الحادة " (الغضب (د.م) : http://www.feedo.net/QualityOfLife/Happiness/Anger.htm#10 ) و يفرق سبيلبيرجر بين الغضب كحالة أو سمة : · حالة الغضب : و يعرفها بأنها حالة عاطفية تتركب من أحاسيس ذاتية تتضمن التوتر و الانزعاج و الاثارة و الغيظ . · سمة الغضب : و تعرف بلغة الكم بعدد المرات التي يشعر فيها المفحوص بحالة الغضب في وقت محدد و الشخص مرتفع سمة الغضب يميل الى الاستجابة لكل المواقف أو غالبيتها بالغضب ( عبدالرحمن و عبدالحمد ، ص 9 ، 1998 ). و عربيا يعرف دسوقي الغضب بكونه " استجابة انفعالية تثيرها إهانة أو تهديد أو تدخل في شؤون المرء و تتميز بتقطيبات وجه معينة ظاهرة ، و بردود فعل ملحوظة من جانب الجهاز العصبي المستقل و بفاعاليات دفاع و هجوم رمزية صريحة أو خفية " ( عبدالرحمن و عبدالحمد ، ص 10 ، 1998 ). أما أبا حامد الغزالي فيعتبر " قوة الغضب محلها القلب ، و معناها غليان دم القلب بطلب الانتقام ، و إنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها ، و إلى التشفي و الانتقام بعد وقوعها " ( الغزالي ، ص ص 211-212 ، ج 3 ، 1998 ) . فهو قد جمع في تحديده بين تصوير صورة من الحالة البيولوجية التي يكون عليها الغاضب و الغاية المطلوبة و السبب المؤدي إلى هذه الحالة ، قبل الحالة و بعدها . و يعتبر الغزالي الغضب من أحد الآليات التي أودعها الله في الانسان لتحميه من الأسباب الخارجية التي يتعرض لها و تهدده بالفساد و الهلاك . و يؤكد الغزالي في تعريفه على بُعد الانتقام في ماهية الغضب و يعتبره " قوت هذه القوة (الغضب) و شهوتها و فيه لذتها ، و لا تسكنُ إلا به " ( الغزالي ، ص 212 ، ج 3 ، 1998 ) . و يقسم قوة الغضب إلى ثلاث درجات : أ- التفريط : و يؤكد هنا على أن فقد قوة الغضب أو ضعفها مذموم و بأن صاحبها يطلق عليه بأنه لا حمية له . و يعتبر بأن قوة الحمية هي الغضب . ب- الإفراط : هو أن تغلب صفة الغضب حتى تخرج عن سياسة العقل و الدين . و تعود أسباب هذه الغلبة إلى أسباب غريزية و أخرى اعتيادية من خلال المخالطة و توهم الغضب بكونه شجاعة و رجولة . ت- الاعتدال : المحمود غضب ينتظر إشارة العقل و الدين ، فينبعث حيث تجب الحمية ، و ينطفئ حيث يُحسن الحلم ، و حفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة و الوسطية . ( الغزالي ، ص 214 ، ج 3 ، 1998 ) . أسباب الغضب ومثيراته : يُصنف دافيس العوامل و الأسباب المباشرة المؤدية إلى الغضب إلى ثلاثة أصناف أساسية : · الازعاجات التي يتعرص لها الفرد في حياته اليومية . · الضرائب التي يدفعها الفرد عن سلوكه و يمكن أن تكون مادية أو نفسية . · خرق القواعد العامة التي تسير عليها المجموعات أو التحيز في تطبيق القوانين .( Davies, 2008, PP 18-23 ) و بصورة مُجملة يحدد عبدالرحمن و عبدالحميد أسباب و مثيرات الغضب في ثلاث عوامل أساسية : 1) الظروف و العوامل الخارجية : و هيالبواعث القريبة أو المدركة للغضب مثل العجز عن اشباع الحاجات أو حالات الاحباط و الانزعاج و الاهانات التي يتعرض لها الفرد . و يعد تقدير الفرد للضرر أو الخسارة المترتبة عن الحدث أهم العوامل المرتبطة بدرجة العضب . 2) العمليات الادراكية و المعرفية الداخلية : يرى بيك بأن " الناس ينفعلون تبعا للمعاني التي يسبغونها على الأحداث و التفسيرات الشخصية لأي حدث تؤدي إلى استجابات انفعالية مختلفة للفرد الواحد في المواقف أو الآوقات المختلفة " ( عبدالرحمن و عبدالحميد ، ص 11 ، 1998 ) . و " طبيعة الاستجابة الانفعالية للشخص أو اضطرابه الانفعالي تعتمد على ما إذا كان يدرك الاحداث على أنها إضافة إلى - أو نقصان من – أو تهديد أو إعاقة لمجال الملكية أو السيادة أو النفوذ الشخصي ، و عليه ينشأ الغضب من إدراك أن هناك هجوم مباشرا مقصودا يقع في الميدان الخاص بالفرد " ( عبدالرحمن و عبدالحميد ، ص 12 ، 1998 ) . و يشير باترسون إلى ما أشار إليه دافيس سابقا إلى أن الغضب ينشأ أيضا " من خرق القوانين أو القيم أو المعايير التي يؤمن بها الشخص " ( في : عبدالرحمن و عبدالحميد ، ص 12 ، 1998 ) . و تركز المدرسة المعرفية في تفسيرها لمثيرات الغضب على عمليتين ادراكيتين : · التوقعات : و هي الاحتمالات الذاتية التي يتوقعها الفرد في الحوادث المستقبلية . · التقويمات : و ترتبط بتفسير الفرد للأحداث الراهنة و الماضية و حكمه على تقديره على التعامل مع ما يواجهه . إضافة إلى حجم و قدر الخسارة أو الضرر المترتب على الحدث . 3) ردود الفعل السلوكية : إن النتيجة المترتبة عن الغضب لها دور مهم في تحديد شكل التعامل مع هذا السلوك مستقبلا . فإن كانت نتيجة الغضب ايجابية ، فسوف يعزز ذلك ميل الفرد لاستخدامه في المواقف المماثلة . أما إذا كانت النتائج سلبية فيميل الفرد إلى أحد الخيارات التالية : أ- قمع الغضب و كبته اراديا . ب-تحويل الغضب إلى مصدر أقل أو نقل العدوان إلى موضوع آخر . ت-النكوص ، أي التحول إلى ممارسة سلوك أقلع عنه الفرد مرتبط بمنطقة شبقية . كالعودة إلى التدخين بعد الاقلاع عنه مثلا ( عبدالرحمن و عبدالحميد ، ص 13 ، 1998 ). أما الغزالي فيعزو الأسباب المهيجة للغضب إلى مجموعة من الأخلاق "رديئة مذمومة شرعا " و يحددها في : الزهو ، العجبُ ، المزاح ، الهزل ، الهزءُ ، التعيير ، المماراةُ ، المضادّةُ ، الغدر و شدة الحرص على فضول المال و الجاه ( الغزالي ، ص219 ، ج 3 ، 1998 ) . فهو يحصر الأسباب أو يركزها على ما بداخل الانسان من أخلاق مكتسبة . و هذا مفهوم لأن كتاب الإحياء يستهدف التغيير ما بداخل الانسان من تشوهات معرفية و سلوكية نتيجة بُعدهم عن علم طريق الآخرة الذي يعتبره الغزالي " قد أصبح من بين الخلق مطويا و صار نسيا منسيا " و تتطلب مواجهته باعادة فهم العبادات ( أسرارها و سننها ) و ادراك العادات ( أسرار المعاملات ) و فقه المهلكات ( الخلق المذموم) و الاقبال على المنجيات ( الخُلق المحمود ) . فلم تكن غاية الغزالي التدقيق في العوامل الخارجية أو الموضوعية . بل توجه إلى تحديد الأسباب المباشرة التي إرادة تغييرها بيد الإنسان و هو الذي يملك مفتاح ولوجها و تعديلها . و قد أفاض الحديث في آثار الغضب و طرق علاجه . و يقرر بأن للغضب آثار تتوزع على : · الآثار الظاهرية / البيولوجة : مثل تغيّر اللون و شدة الرعدة في الأطراف و اضطراب الحركة و الكلام .. و يقرر الغزالي بأن تغيّر الظاهر ثمرة تغيّر الباطن . · أثره على اللسان : الشتم و فحش الكلام و بقية أشكال العنف اللفظي . · أثره على الأعضاء : بالاعتداء المادي و استخدام العنف .. · أثره على القلب : الحقد و الحسد و اضمار السوء .. و يشير الغزالي إلى ان هذه الآثار السلبية لا تقتصر على الغضب المفرط فقط ، و إنما للتفريط أو ما يطلق عليها بالحمية الضعيفة آثار لا تقل خطورتها عن الإفراط . فهو يقرر بأن للغضب المحمود وظيفة أبلغها حفظ الأنساب و الأوطان و عزة للنفس " فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحسّ من نفسه بضعف الغيرة و خسة النفس في احتمال الذل و الضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه " أما " من مال غضبه إلى الإفراط حتى جرّهُ إلى التهوّر و اقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه " ( الغزالي ، ص ص 214-215 ، ج3 ، 1998 ) . فليس في الغضب مشكلة في ذاته و إنما المشكلة في الآثار المترتبة عنه كما بينها الغزالي . و قد أشار نوفاكو إلى مجموعة من الآثار و وظائف الغضب : · فهو يزيد من زخم و قوة الاستجابة وردود الأفعال . · هو تشويه لعملية تشكيل المعلومات و انجاز الأعمال . · هو اتصال تعبيري يعكس الشعور السلبي المنافى . · رد فعل فعل دفاعي على تهديد الأنا . · الارشاد إلى التعامل التكيفي مع المشاكل . · يُحرض على النشاط العدواني . · يقوي الشعور بالسيطرة و الضبط . · يُحسن اعتبار الذات و يزيده ( في : عبدالرحمن و عبدالحميد ، ص 14 ، 1998 ) .
رؤية الغزالي في العلاج من الغضب : يبني الغزالي رؤيته في العلاج من الغضب على قاعدة التفكيك المعرفي لمسبباته و مظاهر آثاره و إعادة فهمها على أصلي الدين و العقل . فهو في البداية يقف موقفا وسطا بين القائلين بامكانية العلاج الكامل و إزالة الغضب بالكلية و بين من يقول باستحالة العلاج . و يشرع في التأكيد على حقيقة نفسية تحرك الغضب و التي تقول بأنه " ما بقي الإنسان يُحب شيئا و يكره شيئا فلا يخلو من الغيظ و الغضب ، و ما دام يوافقه شئ و يخالفه آخر فلا بد من أن يحبَّ ما يوافقه و يكره ما يخالفه ، و الغضب يتبع ذلك فإنه مهما أُخذ منه محبوبه غضب لا محالة و إذا قصد بمكروه غضبَ لا محالة ( الغزالي ، ص 215 ، ج 3 ، 1998 ) . و يقسم ما يحبه الانسان إلى ثلاث أقسام : أ- ما هو ضرورة في حق الكافة : كالقوت و المسكن و الملبس و صحة البدن ، فهي ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها ، و من غيظ على من يتعرض لها . و قمع أصل الغيظ من القلب هنا ليس مقتضى الطبع و هو غير ممكن كما يقول الغزالي . ب- ما ليس ضروريا لأحد من الخلق : كالمال الكثير و الجاه و هي صارت محبوبة بالعادة . و يشير الغزالي إلى أن أكثر غضب الناس على ما هو غير ضروري . و يمكن التوصل بالرياضة ( المعرفية و الروحية ) إلى الانفكاك عن الغضب عليه . ت- ما يكون ضروريا في حق بعض الناس دون البعض : كالكتاب في حق العالم و أدوات الصناعات في حق المكتسب الذي لا يمكنه التوصل إلى القوت إلا بها ، فهي وسائل إلى الضروري و المحبوب هنا يصير ضروريا و محبوبا ( الغزالي ، ص ص 215 – 219 ، ج3 ،1998 ).
و يؤكد الغزالي على حقيقة يدور عليها قوله في العلاج بأن طريق الخلاص و التحرر من الغضب يكمن في المعرفة بحقيقة الدنيا و الأخلاق التي يتوسل بها فيها و التي هي مهيجة للغضب كما مر بنا في هذا البحث ، يقول : " و حاصل رياضتها يرجعُ إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها و تنفر عن قبحها ، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس " ( الغزالي ، ص 220، ج 3 ، 1998 )
المصادر
1. العثمان ، عبدالكريم : الدراسات النفسية عند المسلمين و الغزالي بوجه خاص ، القاهرة : مكتبة وهبة ، ط 2 ، 1981 . 2. الغزالي ، أبو حامد : احياء علوم الدين ، تحقيق : الخالدي ، عبدالله ، بيروت : شركة دار الأرقم بن أبي الرقم ، 1998 3. عبدالرحمن ، محمد السيد و عبالحميد ، فوقية حسن : مقياس الغضب كحالة و سمة ، القاهرة : دار أنباء ، 1998 . 4. نجاتي ، محمد عثمان : الدراسات النفسانية عند العلماء المسلمين ، القاهرة : دار الشروق ، ط 1 ، 1993 . 5. Davies,William :Å bekjempe sinn og irritasjon , Oslo, Tapir akademisk forlag , 2008 . 6. الغضب(د.م) : http://www.feedo.net/QualityOfLife/Happiness/Anger.htm#10 7. دليلي مقياس الغضب المتعدد الأبعاد ( د.م ): http://www.bnikhaled.com/vb/showthread.php?t=2643