الأغنية الملتزمة ولدت وعاشت مع بورقيبة... فماذا فعل بها بن علي؟
تونس – الحوار نت – إذا كانت المرحلة البورقيبية قد مهّدت لكل ما يحدث الآن...، ومن رحمها ولدت انتهاكات ما بعد السابع من نوفمبر فإنّها ومقارنة بأسلوب الأرض المحروقة التي اتبعها نظام بن علي تكون قد تركت بعض المنافذ التي يعبر من خلالها شيء من الحراك السياسي وتتسرب عبرها بعض الإبداعات التي وجدت لها مكانا رغم ما اتسمت به هذه المرحلة من قمع وقد نجت من سخط المجاهد الأكبر، لتسقط تحت نابالم ومحرقة بن علي.
إن كان العهد الجديد قد نجح نسبيا في إنعاش البنية التحتية في البلاد، فإنّه وبالتوازي هشّم قيمة الإنسان، وحكم على كل المبادرات وحركات الإبداع ومحاولات تجميع مقوّمات الإنسانية لزرعها في المواطن التونسي بالفشل وحال دون أيّ امتيازات قد يضيفها الشعب إلى رصيد حريته وكرامته، بل وسلب البعض الذي انتزع من العهد السابق.
المساحات التي انتهكت والإنجازات التي تراجعت وأفلت في العهد الجديد أكبر وأكثر من أن تعدّ أو تحصى، غير أنّنا وبنظرة موجزة على ما تمّ إنجازه سابقا في مجال الأغنية الملتزمة وما آل إليه حالها اليوم ستغني المعلومة المجرّدة البسيطة عن كل كلام وتحليل، وسنصل إلى معلومة مفزعة ومؤلمة مفادها أنّ كل تراث الأغنية الملتزمة وخزينتها كاملة وبرمّتها تعود إلى المرحلة البورقيبية، ورغم قصر الحيّز الزمني والتضييق المتواصل على الإبداع فإنّ عشاق الكلمة الجادّة واللحن الهادف ما زالوا يحنّون إلى إبداعات فرقة الشمس الموسيقي ورائعتهم التي انتشرت عبر أرجاء الوطن العربي وتغنى بها كبار المنشدين، تلك رائعة وهذه كلماته الرائعة: خيوط الشمس دايمة المد ** والحصّادة ما تتحد بعد يسلم يَامَّا رحمك اللي يمد ** بالرجّآلة زنودي ما تترد سد يَامَّا بيديك الملاح ** نجمة حمرة وهليل الذباح أنا وليدك تحتهم نرتاح ** هُمّ الخيمة واسعة ونمراح سد يَامَّا رصي عالخلالَ ** ما تخلي ثلة للبدالة ياما ركبوا الشمس والعدالة ** شرقي وغربي.. ناصبين ذلاله نادي يَامَّا لصبايا الكل **يغزلولك خيوط من غزل في المسيرة إيد واحدة الكل **يخف الكيل يتوزع الحمل
إلى جانب هذه الفرقة تميزت فرقا وخامات أخرى على غرار أصحاب الكلمة: عشاق الوطن، أولاد المناجم، البحث الموسيقي، الحمائم البيض، أولاد بومخلوف المرحلة، القناطر، محمد بحر، الزين الصافي، لزهر الضاوي.. هؤلاء الذين تعاملوا مع شعراء صنعوا كلماتهم تحت سطوة السجّان وأعين البوليس كلمات تقول شيئا وتحمل في مضمونها شيئا آخرا، وتنتزع الحريّة إن لم تكن مجملة فشيء منها.. نعطّر النص ببعض عناوين قطع بِكر أحالتها السلطة على التقاعد الجدّ مبكر: بابور زمر، بلادي الأسى، الهوية، أرى النخل يمشي، بوك كان زناد، حمام الشط، الشيخ الصغير، هيلا هيلا يا مطر، البسيسة، المال قليل، الدغباجي، مشايخ دوارنا، الأرض، ضحايا الداموس، طيب أنت أبي، نسرين، متى نعود، موال الغصّة، يا ذراعي، بحارة... أشعار تلامس الصميم، إن لم نحترمها كلها.. لا يمكننا إلا أن نحترم جلّها، ليست هذه كل العناوين فالقائمة التي أعدمتها وزارة الثقافة عشية التغيير "المبارك" طويلة طول المحنة وعريضة عرض المصيبة التي أصابت هذا الوطن. للتنويه هناك بعض الأصوات التي سُمح لها بعودة مشروطة للنشاط، ولكن بعد أن خربوا الأذواق وميّعوا الفضاءات التي كانت تحتضنها وتحتضن غيرها من المجموعات الموسيقيّة.