تمتلئ الساحات والشوارع وواجهات البنايات ومداخل المدن والقرى وحتى الطرقات، بلافتات ضخمة تحمل صور بن علي وتعبّر عن الولاء له وتأييد ترشحه ل"انتخابات" أكتوبر القادم وتنادي به رئيسا للمرة الخامسة على التوالي، بل رئيسا مدى الحياة بدعوى أنه "صاحب الإنجازات الكبرى" و"ضامن مستقبل تونس: (الله وَحَدْ، الله وَحَدْ، بن علي ما كيفو حَدْ). وإلى ذلك ما انفكت الجهات الرسمية في كافة أنحاء البلاد تنظم احتفالات ومهرجانات منذ أن قدّم بن علي، يوم 26 أوت الماضي، ترشّحه رسميا للمجلس الدستوري، في انتظار الاحتفالات التي ستقام بعد "الفوز" المحقق في أكتوبر، وليس خافيا على أحدٍ، أن الهدف من كل هذا التهريج، بل من هذه الحملة الانتخابية السابقة لأوانها والممنوعة قانونيا (ولكن منذ متى كان للقانون معنى في نظام بن علي؟) هو الإيهام بأن بن علي مرغوب فيه شعبيا، وليس مفروضا عن طريق القوة البوليسية الغاشمة والتزوير وبأن "منافسيه" الذين يمنع عليهم حتى تعليق صورهم على واجهة مقرات أحزابهم لا وزن ولا تأثير لهم. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فالحملة لفائدة بن علي، ليست غير قانونية فحسب، بل هي تكلف خزينة الدولة المليارات من المليمات أيضا. فالأموال التي تصرف للدعاية لبن علي ليست من جيبه، أو من جيوب المقربين منه بل هي من جيوب المواطنين والمواطنات، من جيوب دافعي الضرائب ودافعات الضرائب، وهو ما يعتبر اختلاسا للمال العام وتبذيرا له. ولو أن ما يحصل في بلادنا، حصل في بلاد أخرى للقانون والمؤسسات فيها معنى، لاعتُبر جريمة ولتمت إحالة الضالعين فيها، بمن فيهم رئيس الدولة أو القضاء بتهمة الفساد أو الاستيلاء على المال العام. ولكننا في تونس حيث لا قانون ولا مؤسسات، يتصرّف بن علي وحفنة من العائلات القريبة والمقربة وكأن البلاد ملك لهم، لا حسيب لهم ولا رقيب عليهم في ما يفعلون. والأنكى من ذلك أن هدر المال العام في الدعاية لبن علي يتم في ظرف اقتصادي واجتماعي متأزم، فأوسع الطبقات والفئات الشعبية تئن تحت وطأة البطالة والفقر وغلاء المعيشة وتردي الخدمات الاجتماعية، وكان من الأجدر أن يصرف ذلك المال في إيجاد مواطن الشغل أو في تحسين الظروف الدراسية لطلاب والتلاميذ، الذين تفتقر مدارسهم في العديد من الحالات لأبسط المرافق والمعدات البيداغوجية، بل حتى للطباشير أحيانا، أو في تحسين وضع المستشفيات والمراكز الصحية الأساسية إلخ... ولكن هيهيات ! إن بن علي لا يهمّه سوى البقاء في الحكم والمحافظة على مصالح الأقليات الثرية التي تسنده والتي تنهب البلاد وتبيعها للدول والشركات الأجنبية. أما الطبقات والفئات الشعبية، فالبوليس جاهز دائما لمواجهة أدنى احتجاجاتها وفرض الصمت عليها، كما حصل في منطقة الحوض المنجمي خلال العام المنصرم. ومع ذلك يوجد في المعارضة من يحاول تجميل الوضع والإيهام بأنّ بن علي قد "يعود إلى رشده" و"يفهم أن من مصلحته ومصلحة البلاد" إحلال الديمقراطية وجعل الانتخابات القادمة "موعدا متميزا" ل"تطوير الحياة السياسية"، ولا ندري إن كان هؤلاء واعين أو غير واعين بأنهم ينشرون الوهم ويساعدون الدكتاتورية على البقاء. إن الأجواء التي يقع فيها الإعداد لانتخابات أكتوبر القادم هي بشهادة الجميع أسوأ من الأجواء التي تمت فيها جميع الانتخابات السابقة في عهد بن علي. ومن المعلوم أن نتائج هذه الانتخابات كانت دائما لصالح بن علي وحزبه. وبالتالي فإن الانتخابات القادمة لن تختلف نتائجها عن سابقاتها، فلماذا لا تتعظ بعض المعارضات التي تنسب نفسها إلى اليسار وإلى الديمقراطية بالتجارب الماضية وتقطع مع مسلسل "المشاركة مهما كانت الظروف" وتتجرأ على رفع صوتها ضد الدكتاتورية معلنة مقاطعة مهازلها معلومة النتائج مسبقا وتتوحد مع حزب العمال ومع كافة القوى الرافضة للتزوير من أجل إنجاز تغيير ديمقراطي حقيقي وجذري؟.