بعض القراء يعرفون ذاك التعبير الذي وصف به «الجنرال ديغول» في ستينات القرن الماضي الأممالمتحدة في مسألة «الكونغو» حينما اختلف مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في رؤيتها لدور أوروبا - وهي جنين - في حل الإشكال... قال الجنرال أنذاك ما معناه أن هذه المؤسسة «كي بيها كي بلاش»... الوصف ذاته يمكن أن نستعمله في حق جامعة الدول العربية والسياسة التي تستعملها منذ فترة في مسألة الإعلام الفضائي العربي... ذلك أن العالم العربي بمنظمته ومؤسساتها، بدوله وشعوبه، بمواطنيه ورعاياه، بنسائه ورجاله... هو اليوم كما بالأمس محل اهتمام عديد مراكز قولبة الرأي العام العربية كما الأجنبية... وإن أظهر الراحل صلاح جاهين في رسم كاريكاتوري بالأهرام في منتصف الستينات إمرأة أجنبية لابسة «ميني جوب»، ممسكة يعصى تشير بها إلى خارطة العالم العربي وهي مقلوبة، فإن هذه الصورة تنطبق اليوم على المنظمة والعالم الذي تمثله مع تحوير طفيف هو أن المرأة استبدلت بعربي ذو رسالة خالدةٍ، أصيل في هيئته وموقفه... هذا، مع ملاحظة صغيرة وصغيرة جدا، وهي أن المنظمة ما هي إلا مرآة عاكسة لحالة العالم العربي اليوم من التماسك ووضوح الرؤية وكمال الاستشراف والتأثير على ميزان القوى العالمي بدأ بالقاعدة وانتهاء بهايتي مرورا بالبيئة... التوازن... ظاهريا
منذ مدة أقيمت «جلسة تشاورية» خلفها «مجلس وزراء الإعلام العرب» بمبنى جامعة الدول العربية بالقاهرة ترأسهما أمين عام الجامعة وحضرهما وزراء الإعلام في كل من السعودية ومصر والأردن والبحرين والإمارات والصومال والسودان ولبنان واليمن والمغرب مع ممثلين عن باقي الدول العربية ومنهم تونس على مستوى وكلاء الوزارة أو معاوني الوزير أو السفير أو حتى من «لا ناقة له ولا جمل في هذا المحفل»... مواضيع الجلسة الاستشارية والمجلس الوزاري إثنان لا ثالث لهما إلا «الشياطين الموجودة في جيب كل من حضر». هذان الموضوعان هما : «المفوضية الخاصة بالإعلام» و»الرد على قرار مجلس النواب الأمريكي بشأن الأقمار الاصطناعية التي تحمل قنوات يصنفها الأمريكان بالإرهابية»... كان الرد العربي على القرار الأمريكي كما عهدنا دائما معتدلا، «لا حر ولا صقيع»، بمعنى «أن الجميع مطالبون بوقف بث الكراهية» على حد تعبير الأمين العام وإن بخفايا الموقف الرسمي ما يفهم على أنه رفض ل»معاقبة الفضائيات المناوئة لواشنطن»، وأن الأقمار الاصطناعية مشاريع تجارية لا تتحمل مضامين القنوات التي تحملها... بل على واشنطن أن تتوجه إلى الحكومات التي تنطلق من بلدانها إشارات التحميل... وأنه من الأجدر التريث وتكثيف الإتصالات مع الجانب الأمريكي للتفاهم (هكذا!!!) حول مشروع قرار مجلس النواب الأمريكي والبحث عن تفاهم يحفظ حقوق ومصالح الجميع... كلنا يعلم المثل الشعبي وإن به استنقاص للمرأة القائل «اضرب القطوسة، تخاف العروسة»... وهو ما لم تتفطن إليه الجامعة الموقرة أو غضت الطرف عنه أو هي لا تود أن تتعامل معه هو أن أمريكا، سواء على رأسها «بوش» أو «أوباما»، تدافع عن مصالحها التي قررت ان تكون خارج حدودها وبالتالي ما فعلته قرنسا في خصوص «المنار/هوتبورد» هو ذاته الذي تقوم به أمريكا في خصوص «المنار» و»القدس» و»الجزيرة» و»العالم» و»الكوثر» وغيرها من القنوات الخاصة التي لا تتماشى سياستها التحريرية مع سياسة الحكومات الأمريكية، ليس لأنها تعبر عن موقف عدائي من أمريكا بل لأنها مثل «حصان طروادة»، تتقل الصراع داخل الشعب والمجتمع الأمريكيين عبر البث الفضائي تماما كما تفعل هي بالضبط فيما يخص مناهضتها لما تصفه بالإرهاب» خارج حدودها في اليمن وباكستان وأفغانستان... وبين الفريقين العربي والأمريكي، الميزان الفضائي معتدل... في الظاهر.
«إللي يستنى خير ملي يتمنى»
وإن تخلصت الجامعة وممثلو الأنظمة العربية مؤقتا من الشوكة الأمريكية، فإنهم، وعلى عادتهم، وقعوا في مطب الشأن العربي/عربي المتعلق بمسألة «المفوضية الخاصة بالإعلام»... بادئ ذي بدء، التسمية في حد ذاتها ومن زاوية الممارسة العربية المعهودة للشأن العام لها وقع «ستاليني»... الكلمات ليست بريئة مما تخفيه، والممارسات اليومية التي تلاقيها الصحافة في غالبية الدول العربية لا تعني «نيرفانا» الحرية... جامعة الدول العربية ومستشاروها وأخصائيوها يعرفون هذا جيدا وبالتالي كان من اللائق أن تختار الكلمات بحذر... ثم أن تقدم الجامعة مشروع «المفوضية» وهي لم تنته من تداعيات مسألة «وثيقة تنظيم البث الفضائي» التي تمت دراستها منذ عامين وأودعت أدراج متاهات مكاتب المنظمة. هذه الوثيقة التي كان الغرض منها «تنظيم» البث حتى لا تتساقط عليك من السماء أحجار نارية تضج هدوء المجتمع واستقراره، فهمها البعض من المؤثرين إعلاميا وماليا على أنها «تكميم للأفواه»... وهو موقف لا يخلو من الحقيقة لكون الأنظمة العربية لم تتعود بعد على قبول الرأي المخالف بتعلة أن الشعوب ليست ناضجة لتقبل الحرية والديمقراطية بعد... وكما قال الفيلسوف «كانت»: «لا يمكن أن ننضج للحرية إن كنا لا نعيشها»... «من هنا نحرق ومن هنا تكوي»... مشروع «وثيقة البث» و»مفوضية الإعلام» هي من الأمور التي كان من واجب جامعة الدول العربية وخاصة إتحاد إذاعات الدول العربية ألا يتركها تتخمر إلى شهر جوان وبعد ذلك إلى شهر سبتمبر، لحين... الفضاء التلفزي العربي اليوم مثل السوق الأسبوعية بريفنا التونسي أيام زمان، كل واحد ينصب بضاعته كما يحلو له (خاصة على النايل سات بقنواته القروسطية) ما دام يدفع ضريبة «المكس» لأمين السوق... هاذان المشروعان الذين أجلا لحين «تنضج المجتمعات العربية» فرصة أخرى ضائعة لتنظيم البث الفضائي العربي الذي «يفريس» مجتمعاتنا العربية، ومنها مجتمعنا التونسي. إلا أننا لا نفقد الأمل في أن نكنس سماءنا مما يعرقل تحررنا شريطة ألا نرمي الرضيع مع ماء الغسيل... وكما يقول المثل التونسي: «إللي يستنى خير ملي يتمنى»... غير أن ما جرى يجعلنا نؤمن بالمثل التونسي الآخر الذي يقول: «إستني يا دجاجة...» وتعرفون البقية...