لعل علة اختياري للعلماء بديلا عن كلمة المثقف كون الأخيرة أعم وأشمل فهمي تضم حاليا العلماء والأدباء وأهل الفن بتلاوينهم والصحافيين , ثم لأنني أود التركيز على العلماء باعتبارهم الأقدم والأكثر ظهورا وبروزا وكونهم يملكون مفاتيح قيادة الجماهير لمكانتهم التقديرية في قلوب محبيهم, وهو موضوع طالما كان موضع حوارات مطولة جمعتني بثلة من أهل العلم والمثقفين ممن يناصرون السلطة ومن يعادونها ومن يقفون موقفا وسطا و ومن لايملكون موقفا أو كما يزعمون, فالحياد في تصوري خرافة. وقد شرفت بلقاء العلامة عبد الباري الزمزمي , أحد أعظم علماء الأمة فهو خريج مدرسة بن الصديق إحدى كبريات مدارس الفقه والحديث بالعالم الإسلامي, ومن سمع الشيخ أو قرأ له سيعجب من قوة حجته ومن جرأته في الحق ووقوفه لأزيد من أربعين سنة خطيبا وكاتبا وسياسيا ينافح عن أسلوبه الفقهي ويواجه مخالفيه ممن أزعجتهم جرأته وتصرحه بالحق المر وثباته رغم ضريبة التوقيف والمضايقات الأمنية وما يشاكلها, وحين استفسرت الشيخ عن سر قوته فهمت أن قوته ليس مصدره رواتب الحكومة, وهو مادعاني أن أصوغ خواطري حول تلك العلاقة الملتبسة بين العلماء والحكام. يدرك الحكام وأجهزة السلطة عبر التاريخ أن العالم يملك عقول وقلوب الناس دون الحاجة إلى جهاز دعاية ترهيبي ,فامتلاكهم لمفتاح العلم سلطنتهم على القلوب تمر دون انقلابات أو اغتيالات فهم مسنودون بنصوص مقدسة تجعلهم أخشى الناس لله وورثة للأنبياء نهاية العلم بنهايتهم ولك م أن تتأملوا في عجز أحد خلفاء بني أمية عن تخطي الصفوف بالحرم حين نهره عطاء بن أبي رباح والتزام الخليفة وصمته ثم تعليقه أن ما أكسب العالم هيبته هو علمه رغم سواد لونه, ويملك العالم المقدرة على إدراك عوار الحكم ومدى احترام السلطة لقانون السماء ورحمتها بالرعية من عدمها فيكون سوطا على الظالمين حين يحولون دون العالم والناس فيتخطاهم ويطأ الألغام ويرمي بكلكله عليهم ويمارس دور الأنبياء في مواجهة الملأ من القوم والمترفين فيكون ناصحا لينا حين تتاح له المناصحة وتفتح له الأبواب ويصبح شديد المراس حين تواجه مناصحته بالسياط , ولعل سعار المواجهة يشتد حين يسعى الحكام لإخضاع العالم وتحويله لدمية و تقزيمه فيخرجونه من مملكة الأحرار إلى قبيلة العبيد ما يتنافى و نزعة الإستقلال عنده. حين توفي العلامة المحدث الأوزاعي, جلس على قبره بعض الولاة فقال: رحمك الله، فو الله لقد كنت أخاف منك أكثر مماأخاف من الذي ولاّني يشير إلى الخليفة المنصور! ويحفل تاريخ أمتنا بصور الجفاء بين العلماء الربانيين ورموز السلطة حين يشيع الجور؛ فابن حنبل لم يصل خلف عمه إسحاق حين بلغه أنه نال جائزة سلطانية! وأصروا على تجنب عطايا السلطة لأنها رشوة مقنعة ودعوة ناعمة للتحول إلى عبيد لا يعصون ما أمروا ويفعلون ما يؤمرون, وتأمل معي في قول بن منبه لعطاء الخراساني : كان العلماء قبلكم قد استغنوا بعلمهم عن دنياغيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيايبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم.. فإياك يا عطاء وأبواب السلطان، فإنعند أبوابهم فتناً كمبارك الإبل، لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دنياكمثله. صور المواجهة بين العلماء الربانيين وسدنة الطغيان لا حصر لها في تاريخ أمتنا وعدها يصعب والأمر يحتاج بابا حول محن كابدوها ولشد ما تثيرني محنة إمام دار الهجرة مالك بن أنس لروايته حديث: "ليس على مستكره يمين" فرأى الخليفة و الحكام أن التحديث به ينقض البيعة، إذ كانوا يكرهون الناس على الحلف بالطلاق عند البيعة، و بسبب ذلك ضرب بالسياط و انخلعت كتفه والأعجب عفوه رضي الله عنه عن جلاده قائلا :إني جعلت ضاربي في حل. تعملق مالك وتقزم جلادوه وماتوا بحسرتهم لم ينالوا شيئا وارتقى الإمام إلى مدارج العلى وله مذهب فقهي يتبعه الملايين وقد خاب من حمل ظلما ونظيره في المحنة ابن حنبل والشافعي وسعيد ابن جبير مع هولاكو العربي الحجاج ابن يوسف حين قطع رأس رجل تجد اسمه في كل كتب التفسير جريرته أنه مارس حق الإعتراض على البغي بلغة حضارية, وأبى أن يرسم أو يذوب وأن يصبح بوقا لبلاط الجور وهنا نعرج على القسم الذي خان أمانة ما يحمل فتحول كثير منهم لصحائف فتاوي كمثل الذي أفتى للفرنجة بجواز منع حرائر الحجاب من دخول المدارس وبخنق أبناء الأمة وتسويرهم وغيرها من الفتاوي الهمبرغرية مخيطة ومفصلة لأجل عيون فراعنة العصر وكهنتهم, وأغلب من باع سفر العلم ووظفه في خدمتهم نال نصيبه من عطايا أهل الجور مناصبا وضياعا وأموالا وسيادة كاذبة , يعلم سدنة الجور أن توظيف الكهنة ممن يدعون زورا علماء هو أشد وسائلهم تأثيرا في الرعية فتراهم يزكون بهم الإستعانة ببني الأصفر لضرب بني يعرب ويزكون التضبيع ويصافحون قتلة الشهداء في أقدس البقاع ويبيحون للطاغية التسري بجوار يتم اختطافهن من عوائلهن وتجميل صنم الربا وغيرها من كوارث العصر' وأشد الأمر استعانتهم بالأدوات الفقهية لتبرير والحيل الشرعية بألسنة مدلاة على الصدور لهثا مما يلقى إليهم من فتات موائد الجور ويتغشاهم الجزع حين يذكر نظراؤهم من العلماء العاملين, لقد أساءت تلك الثلة لمؤسسة العلماء منذ قيام الملك الجبري زمن بني أمية إلى يومنا هذا. ولايحسب أهل الرفض أننا نزكيهم بهذا فسجلهم أشد سوادا فقتلهم للعلماء زمن الفاطميين والحشاشين وزمن الخميني ليس ببعيد. لا يعدم تاريخ أمتنا صورا مشرقة لحكام عدلوا وأكرموا العلماء وأعادوا لمؤسسة العلماء هيبتها بل وجعلوا لها القدح المعلى واعتبروها جهازا رقابيا ينبغي أن يقومهم ولو دعاهم الأمر لاستخدام السيف, فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه وحفيده ابن عبد العزيز وهارون الرشيد ويوسف بن تاشفين وصلاح الدين الأيوبي وعمالقة حكام العدل, مواقفهم تشكل النموذج الأرقى الواجب احتذاؤه في العلاقة المنسجمة بين العالم والحاكم فلا جفاء ولا تماه, وإنما وسطية غلابة, فحين يحسن الحاكم نقره على خيره وندعو له ونعضده وحين يخطئ نقومه ونحسن به الظن فإن جار وطغى نجالده ونسير على نهج المصلحين غير هيابين. لسنا دعاة انقلابات ولاثورات حمراء قانية ولاجفاء مطلق ولا تماه مذيب , نحن ندعو لعودة مؤسسة العلماء لدورها في تقويم مسلكيات الحكم , حتى تنال رضا علام الغيوب وثقة الرعية, فليس من مصلحة الحاكم أن يحكم شعبا من العبيد وأن يشرعن له سدنة المعابد والكهان فتلك إذا كانت القاضية. وأدعكم أيها الأحرار والأيدي المتوضئة مع صاحب جوامع الكلم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حين يقول فيما وراه ابن عباس »: يكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون «فهل هم منتهون. لاتنسوا:أقدامنا في الأرض وقلوبنا في السماء مع خالص المحبة والتقدير.