الصحافة، واجهة النظام ورهان السلطة من سيرث الرئاسة التونسيّة؟ يمرّ الصحافيون التونسيون في ظروفٍ حرجة. فما زال اثنان منهم، هما توفيق بن بريك (الذي يحاكم بالاستئناف في 30 كانون الثاني/يناير) وزهير مخلوف، اللذان أوقفا غداة الانتخابات الرئاسية، وراء القضبان. كما تمّ الحكم على فاهم بو قدّوس من قناة الحوار التونسي التلفازيّة بأربع سنوات من السجن في 13 كانون الثاني/يناير. ويلاحق كثيرون غيرهم ويتعرّضون للترهيب. هذا التشدّد كان متوقّعاً؛ ففي خطابٍ بثّ عشيّة الانتخابات، هدّد السيّد زين الدين بن عليّ بتطبيق القوانين بصرامة على كل الذين يشكّكون في شفافية الانتخابات ونزاهتها. وكانت محاولات تدجين الصحافة الوطنية قد بدأت منذ تسعينات القرن الماضي؛ حيث كانت الصحافة الحزبية أوّل من دفع الثمن. وعلى الأرجح، إنّ صحافيي مجلّة "الفجر" الأسبوعية التي تصدرها حركة "النهضة" هم الذين دفعوا الثمن الأغلى. فمديرها حمادي جبالي، الذي أطلق سراحه في شباط/فبراير العام 2007، أمضى ستة عشر عاماً في السجن؛ كما سجن عبد الله الزواري، وهو كاتبٌ آخر في المجلة أحد عشر عاماً، إضافةً إلى سبعة أعوامٍ تحت الإقامة الجبريّة. أما المجلاّت الأسبوعيّة المستقلة، مثل مجلة "الحقائق Réalités" الثنائيّة اللغة، فقد انضوت تحت لواء الحكم لكي تنجو بنفسها. وما تكتبه الصحف اليومية الكبيرة، الحكوميّة أو الخاصّة، وهي المراقبة عن كثب، هو في منتهى البداهة؛ حيث تملك وكالة الصحافة المحلية، تونس إفريقيا للأنباء، احتكاراً فعلياً على "المعلومة السياسية"، أي نقل مختلف النشاطات الرئاسيّة؛ وتنشر برقياتها غير الموقّعة كما هي في كلّ صحف البلاد. التغيير الوحيد اللافت في السنوات الأخيرة هو ظهور صحافة صفراء tabloïd، متعطّشة إلى الوقائع المتنوّعة والفضائح، مثل يوميّة "الشروق" أو مجلّة "كلّ الناس" الأسبوعية. وإذ يسيطر عليهما مقرّبون من الحكم، فهما تستخدما للتهجّم على منتقدي النظام ولتشويه صورتهم، مثل الصحافيين سهام بن سدرين وعمر المستيري، والمعارضين نجيب شبّي وخميس شمّاري أو منصف مرزوقي، المتّهمون على طول أعمدة هذه الوسائط بالفساد الجنسيّ، والمقدّمون على أنّهم عملاء في خدمة الامبريالية الأميركية أو الفرنسية، أو حتى أنّهم خدمٌ للصهيونية. كما أمّنت تونس، الحريصة جدّاً على صورتها في الخارج، لنفسها منذ تسعينات القرن الماضي جهازاً ذا فاعلية رهيبة: وهي الوكالة التونسية للاتّصالات الخارجيّة. فمن مهمّات هذه الوكالة التي سيطر عليها لفترةٍ طويلة أقرب مستشاري الرئيس، السيّد عبد الوهاب عبد الله (وزير الخارجية السابق)، أن "تبيع" تونس في الخارج، وخصوصاً في أوروبا. ولا تنحصِر نشاطاتها بأعمال اللوبي: فهي تموّل وتكافئ عدداً من الصحافيين الأجانب. وهي هكذا على علاقةٍ وثيقةٍ جدّاً باللبناني أنطوان صفير، مدير مجلّة "دفاتر الشرق Cahiers de l'Orient"، والذي وقّع كتاباً موصى عليه، نشر في العام 2006 في دار "أرشيبيل" تحت عنوان: "تونس أرض المفارقات". إلى جانب شراء الضمائر، تملك الوكالة التونسية للاتصالات الخارجية رافعةً أخرى من أجل التأثير على مضمون تحرير الصحف والمجلاّت الأجنبية: تتمثّل في توزيع المنّة الإعلانيّة للشركات الحكوميّة التونسية. فهي التي تموّل أو تدفع إلى تمويل الملاحق والأعداد الخاصّة المخصّصة لتونس، والتي تصدر تحت إشرافها. هكذا تستفيد دوريّاً من منّتها منشورات مثل "Valeurs Actuelles" و"Le Figaro Magasine" و"Paris Match" أو أيضاً الإفريقية الأسبوعية "Afrique-Asie". ومحور المواضيع المنقولة لا يتغيّر، إذ يجري امتداح النجاحات الاقتصادية والاجتماعية للنظام، وتقديم الرئيس التونسي على أنّه صديقٌ الغرب، مبشرٌ بإسلامٍ معتدل، وأفضل متراسٍ في وجه العدوى الإسلامية. لكن عدم اهتمام التونسيين بوسائل الإعلام هذه والدخول الكثيف للمحطّات الأجنبية عبر الأقمار الصناعية، خاصّةً العربية منها، والتي انتشر استعمالها، قد دفع السلطات إلى الردّ بتحرير المشهد المرئي والمسموع عبر السماح بإنشاء قناة خاصّة، هي "تلفاز هنيبعل". وفي موازاة ذلك، بذلت المحطة الرسمية "تونس 7" جهوداً جبّارة لتحديث نفسها؛ وقد نجحت في ذلك، إذ استعادت جزءاً من جمهور مشاهديها. إلاّ أنّه لا يسمح فيهما حتّى الآن بنشر الأخبار السياسية. أمّا بالنسبة إلى الإذاعات، فقد تمثّل التجديد في أيلول/سبتمبر العام 2007، عبر إطلاق إذاعة "زيتونة إف.إم."، وهي إذاعة دينيّة سرعان ما أصبحت الإذاعة الثانية المسموعة في البلاد. وليس مؤسّسها سوى محمد صخر الماطري، صهر الرئيس بن علي؛ وهو اشترى أيضاً في شباط/فبراير العام 2009 المجموعة الصحافيّة الأولى الخاصّة في البلاد، دار "الصباح" التي تنشر "الصباح" و"Le Temps". فهل في ذلك مجرّد تنويعٍ في النشاطات؟ أم إنّه مقدّمة لمناورات كبرى تحضيراً لمعركة الوراثة؟ وهل يمكن للمال وللسيطرة على وسائل الإعلام وللنفوذ الاقتصادي أن يعوّضوا عن النقص في الشرعية السياسية؟ لا أحد قادرٌ فعلاً على أن يقسم نافياً أنّ صهر الرئيس لا يحلم سرّاً بتقليد المدعو سيلفيو برلوسكوني... فارس العمراني نقلا عن "لوموند ديبلوماتيك" النسخة العربية