بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العناية بالضاد والتفلسف في القرآن عند محمد الفاضل ابن عاشور
نشر في الحوار نت يوم 28 - 02 - 2010

لا تزال الأمة حية ما دامت تعاودها ذكريات ماضيها ومالنا والمستقبل إذا لم يكن من ماضينا ما يرسم في نفوسنا المثل الأعلى الذي تمتد نحوه آمالنا غير متناهية. وما حاضرنا إلا خطوة نخطوها من ماضينا إلى مستقبلنا، فلماذا نخطوها إذا كنا لا نتذكر ما وراءنا ولا نأمل فيما أمامنا..."1
الاحتفال بمرور قرن على ولادة الفاضل بن عاشور "1909-1970" الذي عرفته بلادنا في الآونة الأخيرة اتخذ طابعا فلسفيا عندنا هذه المرة، حيث كان الاتجاه نحو البحث عن الفلسفي فيما كتب الرجل. والمفاجأة حدثت حيث نعثر له على مقالات في الفلسفة الإسلامية من جهة العلوم والاجتهاد والأعلام وأيضا من جهة الحضارة والمدن والجغرافيا والبحوث اللغوية ومراجعة الكتب والمتفرقات والأدب والجامعات.
فماهو تصوره لتاريخ الفلسفة عند المسلمين؟ وماهي خصائص الفلسفة التي عثر عليها في القرآن؟ وكيف توصل إليها؟ هل عن طريق الاجتهاد أم من خلال التفسير؟ وكيف نفسر شدة انبهاره بالغزالي؟ وبأي معنى ننسبه إلى الإرث الخلدوني؟ وما السر وراء نظرته إلى الكندي من زاوية علاقته بمدينة بغداد والى بغداد من جهة حضور الكندي فيها؟ هل من ضرورة تقتضي التعريب؟ وماهي المشاكل التي وقعت فيها اللغة العربية؟ وكيف يمكن تجديد النظر فيها؟
ماهي العناصر التي تتكون منها الثقافة الإسلامية؟ وأي دور لفلسفة القرآن في تبويب هذه العناصر؟ ألا يجوز الحديث عن إشارة الشيخ الفاضل إلى مفهوم حضارة اقرأ في مدونته؟ بمن تأثر أكثر؟ هل بالكندي أم بالغزالي؟ وهل كان متكلما أشعريا أم فقيها مالكيا؟ ماهي منزلة الفكر التونسي في هذه الحضارة؟ وضمن أي مجال تتنزل دعوته إلى الوحدة المغاربية؟ هل ضمن فكرة الجامعة الإسلامية أم في اتجاه الوحدة العربية؟
ماهو الدور الذي يلعبه الفقه في توطيد العروة الوثقى للأمة؟ وهل تتوقف قاطرة الإصلاح على استئناف باب الاجتهاد؟ ما سر الحنين الذي يجذبه إلى الدولة الحفصية ومدينة بجاية الجزائرية وصقلية؟ هل يمكن أن نعتبر بن عاشور هو اشراقة من اشراقات العقل المستنير الذي جادت به علينا جامعة الزيتونة المباركة نتيجة ما عرفته من نمو لحركة الاجتهاد وعصرنة زمن تحديات الاستعمار؟
ماهو في ميزان النظر بالنسبة إلينا هو الابتعاد عن هاوية التقليد والإعراض عن الرجوع القهقرى والإقبال على منهج الاقتداء وأسلوب الربط بين الالتزام الاجتماعي النقابي والموقف الأدبي والنظري.
* فلسفة القرآن
"إنهم في الحقيقة كانوا فلاسفة عظاما ونمت الثورة الفلسفية متعاقبة متسلسلة على أيديهم وكانوا أيمة الفلسفة على الإطلاق في عصرهم."1
منذ البدء يعترف المصلح ابن عاشور بشمولية القرآن وبكون العرب والمسلمين شرفوا بالفرقان الحكيم لأنه كتاب مجيد وكنز عظيم ومصدر الحقيقة ومفخرة وسر تقدم وسبب تميزهم عن بقية الأمم وتساءل لو كان عند غيرنا فكيف سيكون وقتها موقفنا منه وكيف سيكون حالنا بقوله: "لو كانت أمة من الأمم لها مثل ما لنا من هذا الكتاب المجيد...ماذا يكون موقفنا منه؟"2 وماهو موقفنا من القرآن العظيم طيلة هذه الأربعة عشر قرنا التي لم يزل القرآن العظيم قائما فيها بأنواره المشعة من بين أيدينا وعن أيماننا وعن شمائلنا؟"3 و"هل يرى المسلمون حرجا في أن تجرى مثل تلك الاختبارات والنقود على نصوص القرآن العظيم"4؟
من هذا المنطلق يدعو ابن عاشور إلى النظر إلى القرآن في جملته ونعتبر من نظرة الأمم الأخرى إلينا ونحدد نظرتنا إلى أنفسنا بالانطلاق منه ويبرهن على هذا الرأي بأن القرآن لا نظير له ولا شبيه ولا يمكن مقارنته بالكتب الأخرى لاسيما "أن هذا القرآن الذي نتساءل عن موقفنا منه إنما هو كلمة الله القائمة فيما بيننا ومعجزته الدائمة على مر القرون."5
إن الطابع الاعجازي الدائم وكونه كلمة المطلق المتعالي الباقية إلى المخلوقين تشتمل على الهدى والرحمة يجعله فريدا وله ميزة سامية ومنقطع النظير بين ما أوتيت الأمم الأخرى من كتب وبينات. كما تقترن المعجزة بالوحي والرسالة وألفاظها وآياتها البينات و"ثبت العجز عن معارضته فيما تحدى به"6.
يستنتج ابن عاشور من هذه المقدمات أن رسالة الإسلام هي الحق وأنها بنيت على أربع أركان خاصة بها عن الكتب المقدسة الأخرى وهي الأسلوب والقصد وطريقة النقل واللغة. وفي ذلك يقول:"الإسلام يدعو البشر إلى سبيل من النظر العقلي يسلكونه متجردين عن آثار الوراثات والعصبيات، متخلصين من تضارب القوى الذهنية بين عقلية واحساسية واعتقادية، حتى يصلوا بأنفسهم إلى إقامة الحكمة الحق، المتجانسة مع العقل الصحيح والفطرة السليمة، الجامعة لما تشتت بين مذاهب الحكماء من صواب، المنزهة عما علق بها من خطأ، حيث تكون العقيدة بنت عقل إرادي جعل الوجود كله ميدانا لحركته."7
لقد أوجد القرآن من الناحية الفكرية جملة من التصورات الذهنية والأحكام العقلية والمعاني العلمية التي انفرد بها وتميز وحث من الناحية السلوكية على حب الخير والعمل الصالح وحب الناس والتسامح والسلم.
ما يلفت النظر هنا هو المعنى الأصلي وهو التخلق بالقرآن وآدابه وترسيخ الملكات الذهنية والخلقية على ضوئه وذلك بالخشوع لمعاني الآيات وحسن التلقي ومحاسبة النفس والاطمئنان وتوجيه الأعمال نحو الفلاح والسداد. إن القرآن عامل إيمان وركن العبادة وكتاب دعوة ومظهر معجزة وأساس الكيان الاجتماعي وقوام الشخصية الفردية والجماعية ومدد التفكير ومادة للتعبير وأساس النظام فيه أصول المعاملات وآداب الجماعات وروح العلاقات بين الذوات.
يتساءل ابن عاشور في النهاية عن علاقتنا التاريخية بالقرآن:" هل كنا من القرآن على ما تقتضيه هذه المنزلة التي له منا؟ أو أننا كنا في ذلك مقصرين؟ وتساءل عن مبلغ اعتنائنا بالقرآن العظيم طيلة هذه القرون الأربعة عشر المجيدة التي بين ابتداء نزول القرآن وبين يومنا الحاضر؟"8
* عناصر الفلسفة الإسلامية
"الروح القرآنية إنما هي سائرة في كل فكرة تشتغل بعلم من العلوم في عصور الحضارة الإسلامية سواء كان ذلك على معنى النشأة أو على معنى العمل له أو على معنى الامتزاج به"9
لقد نشأت حول القرآن علوم تسمى بعلوم القرآن وهي العلوم الدينية التي تعتني بالشريعة والعقيدة والآداب الشرعية. وقد ظهرت علوم له تحافظ عليه وهي العلوم اللغوية تعتني النحو وتقويم الخط والإعراب للتفرقة في الحروف بين المعجم والمهمل.
أما النوع الثالث فقد امتزج بالقرآن وصارت منه وصار فيها وذلك لاعتنائها بمقاصده وهي العلوم الحكمية والعلوم الرياضية والعلوم الإنسانية.وقد تفرعت عن هذه العلوم القرآنية العامة علوم مختصة مثل علم التفسير وعلم التجويد وعلم الرسم التوقيفي وعلم إعراب القرآن وعلم أحكام القرآن وعلم إعجاز القرآن وكانت الغاية ضبط القراءات وحفظ القرآن.
" كانت الفلسفة الإسلامية بحاجة إلى الحكمة القديمة لتجمع أطرافها وتسيطر عليها بالبحث الفاحص والحكم الممحص ثم لتخرج منها فلسفة جامعة مهذبة قوامها روح النظر الإسلامي، ومادتها كل ما أنتج الأوائل من آراء وما سلكوا من مذاهب، ومنهجها التقريب بين كل ما ظنه الأوائل متباعدا والتأليف بين ما حسبوه متنافرا وخاصة فيما بين العقل والعقيدة والطبيعة وما بعد الطبيعة"10.
علاقة الفيلسوف بالمدينة هي النقطة التي يكشف عنها ابن عاشور من خلال بحثه في نسبة التفاعل بين فيلسوف العرب الأول الكندي وبغداد والتي قادته إلى استنتاج وجود اتفاق غريب ربطت به الأقدار بين المدينة وربيبها، ويبرهن على ذلك بأن الكندي جاء بمصباح العقل مهتديا وسط الظلام وبغداد بما تضمه من خليط عجيب من الأجناس والثقافات تحتاج إلى مثل هذا العقل من أجل التنظيم والحوار والتفاعل فكان بينهما اللقاء.
وإذا كان الفقه قد ولد في الكوفة والكلام في البصرة والحديث في المدينة والنشر في الشام فإن بغداد شهدت ميلاد الفلسفة، إذ يقول هنا: "فكانت بغداد ملتقى لهذه الفنون: تعارفت فيها وتقاربت وتمازجت بعد أن تباعدت في الديار وتشتت في الأقطار، فنشأ عن هذا التفاعل بينها أن تكون من كل منها وليد جديد يسير في المعرفة على غير النهج المألوف ويجمع بين أطراف من المعارف ترجع إلى مواضيع مختلفة وتتلاقى بما لاقت به الفكرة الإسلامية والتربية العقلية القرآنية بين نواحي المعرفة"11.
لقد اعتنى خلفاء بغداد بالحكمة وترجموا كتب المنطق والرياضيات والطبيعيات وكانت الفلسفة القرآنية في حاجة إلى مثل هذه الحكمة القديمة حتى تزهر وتتهيكل ويقع سبكها في أطر جديدة وكان الكندي هو المدشن والمبدع لأسلوب جديد في النظر أرقى من الكلام وفي بيئة عربية غير فارسية وغير سريالية.
"إن المعرفة الواسعة الشلة التي امتاز بها الكندي في العلوم القديمة هي التي أفادت الحكمة الإسلامية فيما كانت قوية التطلع إليه من استحضار الفلسفة بمذاهبها ومناحي آرائها وطرائق عرضها"12. لقد وسع الكندي العنصر الحكمي من ثروة بغداد العقلية والفنية وقومها وأضافها إلى ما تزخر به هذه المدينة من معارف دينية وعلمية وأدبية.
إن بغداد أم الحكمة العربية وان الكندي هو الأب المؤسس وهي على ثلاث درجات من المعرفة المتصاعدة تبدأ بالمرئية النصية وترتقي إلى النظرية الجدلية وتنتهي بالعقلية الحدسية وتجمع بين تفاصيل الأحكام الدينية مع الحكمة العقلية العالية.
"ليست الحكمة الإسلامية في الحقيقة إلا علم الكلام الذي يمهد الطريق لتلاقي العقيدة الإسلامية مع الحكمة بإيراد الحجج ودفع الشبه حتى يقيم منهجا حكيما جديدا تكون العقيدة الإسلامية قصد السبيل فيه"13.
وهذا ما فعله الكندي الذي تعتبر حكمته امتدادا لعلم الكلام وارتقاء به نحو أعلى درجات العقلانية . زد على ذلك يؤرخ ابن عاشور لعناصر تشكل الفلسفة الإسلامية في بغداد بذكره مساهمات الأشعري والباقلاني والغزالي واعتبر أن "هذه المدرسة ليخلد ذكرها ذكر الكندي وتعلي الإشادة به لأنه هو الذي أمدها بالعنصر الأهم من العناصر التي تركبت صورتها منه"14.
وهذا العنصر هو الوجود والذي ينقسم الى ثلاثة مواضيع هي كالآتي:
- موجود جائز وهو موضوع العلم الطبيعي والفلسفة الطبيعية.
- موجود واجب وهو موضوع الوحي وتدرسه الفلسفة الأولى
- موجود قيمي وهو موضوع علم الفقه ويتعلق بالأحكام المستنبطة بالاستدلال.
لكن ابن عاشور ينتصر إلى الغزالي وابن خلدون ويعتبر "الفلسفة الإسلامية بمعناها الحقيقي الأخص إنما تعتبر مبتدئة مع الغزالي"، فهل هذا يعني أن ما كان قد دشنه الكندي واستمر إلى حد ابن رشد هو المعنى الناقص والعام من الفلسفة؟ وكيف مثل الاجتهاد روح هذه الفلسفة الأصيلة؟
* الاجتهاد بين الانقطاع والتجديد
"إن الطريق الأقوم إلى تحقيق تلك الغاية إنما هو الشروع في عمل علمي صحيح يبني قبل كل شيء على أن الذي يراد بعثه أو تجديده هو اجتهاد حق وليس نقضا للاجتهاد أو عبث به"15.
يبين ابن عاشور أن انقطاع الاجتهاد أمر حاصل وأن دعوى استئنافه من البعض لم تتجاوز الاستقلال بالفتوى والانتصار لمذهب معين أو قول متروك أو رجوع لاستنباط أحد السابقين وأن إدخال الجزئيات في الأحكام الكلية مثلما يفعل القاضي والمفتي المقلد ليس في الاجتهاد من شيء. ونبه أن ترك باب الاجتهاد المطلق وتعطل الاستنباط من القرآن قد انجر عنه خلل اجتماعي و"أصبح مظهرا لانعزال الدين عن الحياة العملية واندفاع تيار الحياة بالأمة الإسلامية في مجرى الهوى."16
إن انبعاث الحركة الإصلاحية الحديثة كان من أجل إرساء حركة عقلية في أحام الدين تهتم بالمصالح المرسلة وتطبق القواعد الفقهية الكلية على حياة العصر وفق نظرة مقاصدية أسوة بالقرافي في الفروق والشاطبي في الموافقات وعز الدين بن عبد السلام في القواعد ونجم الدين الطوفي.
إن تمكين الدين من السلطان على الحياة يمر لا محالة بالاجتهاد الرشيد في أصول الفقه باستنباط القواعد الكلية التي هي مقاصد الشريعة بالاعتماد على قول الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة وسد الذرائع.
كما يشير العلامة إلى أن القرآن ظل مصدر التشريع الأبرز لأهم المدونات القانونية الحديثة بالرغم من ظهور دساتير ذات صبغة وضعية إلا أنها تنهل وتحترم المبادئ القرآنية الرحبة " إن الذي يتتبع المصطلحات التي يتصرف فيها رجال القانون ويتأمل في الرجوع بها إلى أوضاعها واستعمالاتها في كتب الفقه القديمة ليتبين له أنها استمدت من المصطلح الفقهي المشترك المشاع بين المذاهب الفقهية المختلفة، كما استفادت من المصطلحات الخاصة التي تنفرد بها بعض المذاهب عن بعض."17
لقد تميزت الفلسفة قبل الغزالي بطابعين هما:
- الفلسفة بمعناها الواسع بوصفها علما إنسانيا والتي يمثلها الكندي والفارابي وابن سينا
- الفلسفة الإسلامية التي تقرأ أصول العقيدة على ضوء المنهج الفلسفي والتي سميت بالكلام ويمثلها المعتزلة مثل واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والعلاف والنظام وابن أبي دوؤاد والجاحظ وواصلها الأشاعرة والغزالي هو امتداد لهم.
يعترف ابن عاشور بوجود دور بين الكلام والفلسفة من أجل حل المشاكل التي ترجع إلى العقيدة الإسلامية يعود علم الكلام إلى المنهج الفلسفي ومن أجل حل المشاكل التي تعود إلى الحكمة الفلسفية يعود المتكلمون إلى العقيدة الإسلامية وهو القائل:"كان علم الفلسفة يمد علم الكلام وكان علم الكلام يجر إلى علم الفلسفة"18 كما أن إعجاب ابن عاشور بالغزالي مرده أن هذا الرجل كان جامعا لنواح عدة من المعرفة و"الذي ميز مقام الغزالي وأعلى سمعته إنما هو تناوله للفلسفة على معنى منهجي كلي يعمد إلى بعض الأصول الكلية الفلسفية للفلسفات غير الإسلامية ويجعل من إسلامه منهجا فلسفيا خاصا به يبتدئ من الأصول الكلية وينحدر إلى المناقشات الجزئية"19.
اتجه الغزالي نحو تجديد مناهج العلوم ونقد النظريات المعاندة وبحث عن طرق لاستنباط فلسفة من القرآن ترتكز على علم الكلام والتصوف والفقه وتتكلم لغة فلسفية جديدة دون أن تتنافى مع العقيدة الإسلامية.
واللافت للنظر أن ابن عاشور يشيد بكتاب الغزالي تهافت الفلاسفة وتأثيره على الأوساط الفلسفية في القرن الرابع عشر وينفي وجود تعارض بينه وبين كتاب ابن رشد تهافت التهافت بقوله:"نحن نعتبر الكتابين متكاملين لا متناقضين ونعتبر الفلسفة الإسلامية مبتدئة بالغزالي وهو الذي وضع لها منهجها الكلي ومتسلسلة في ابن رشد ومن بعده من الفلاسفة وفي الرازي ومن بعده من المتكلمين."20 فماهي نظرة هذه الفلسفة الأصيلة إلى المسألة اللغوية؟ وهل يجوز الحديث عن فلسفة الضاد بالنسبة إلى حضارة اقرأ؟
* مشاكل لغة الضاد
"اللغة العربية إنما قامت بالقرآن وثبتت به وأوتيت الخلد بسببه وانتشرت بين الأقوام ".21
يتفطن ابن عاشور إلى أن اللغة العربية باتت غريبة في عقر دارها وذلك في ظل الهجمة التي تتعرض لها من طرف اللغات الاستعمارية ومن قبل العامية وكثرة الركاكة في الأسلوب والغرابة في التعبير وشيوع العجمة ولذلك فهو يكشف عن عشر مشاكل تعاني منها الضاد وهي تيسير الكتابة العربية، والإعراب، والاشتقاق، والشواذ والمستثنيات والقياس على السماع، وتدريس اللغة وطرائقها، وكتابة الألفاظ الأجنبية بالحروف العربية، والمصطلحات العلمية، وألفاظ الحضارة، والمعاجم، والازدواج اللغوي. لكنه يرى أن "هذه المشاكل لا تنسب إلى اللغة العربية بل إلى القصور العربي" وبالتالي لو تعود روح الإبداع إلى العربي فانه بإمكانه التغلب على هذه المشاكل والعثور على المصطلحات المناسبة للأفكار المستحدثة.
إن تطهير اللغة العربية من الشوائب وإخراجها من حالة الانحباس يتوقف على ضبط المصطلح والتدقيق في الترجمة وتخير ألفاظ الملائمة للمعاني والاعتناء بالسند اللغوي وفن المعاجم والتمييز بين الرموز.
فكيف ارتبطت الدعوة إلى التعريب بالتمكن من القدرة على التوليد عن طريق الاشتقاق والتأويل؟
"أصبحت حضارتهم قائمة على صنفين من المعرفة متواصلين متداخلين: صنف المعارف الدينية الراجعة إلى فكرة الاسلام وصنف المعارف الحكمية الراجعة إلى طبيعة الفكر الانساني."22
خلاصة القول أن ابن عاشور يجعل من الإسلام أساس الثقافة العربية ومن القرآن جوهر الإسلام بقوله:"من حول هذه الفكرة الدينية تكونت مدينة الإسلام، فبها تأسست الأمصار وامتزجت عناصر الأمة واليها استند نظام الحكم وعليها بنيت المعالم والهياكل وبها تغذت الصنائع والفنون وعن روحها أعربت ألسنة الآداب. فكان في جملة ما تولد عن انتشار الفكرة الإسلامية نشاط عقلي وهمة ثقافية امتازت بهما حياة المجتمع الإسلامي ودفعا بالأمة إلى طلب المعرفة الحكمية والتطلع إلى الإجادة فيها"23.
لقد تبلور هذا الحرص التأصيلي عند مفتي الديار التونسية في الزمن الأول من الاستقلال في التزامه بالمنهج الخلدوني على الصعيد التاريخي والاجتماعي والعمراني و"لقد أفصح حكيمنا ابن خلدون على ازدواج هذين العنصرين في إقامة حضارتنا وأبدع في تفكيك إحدى الناحيتين عن الأخرى. فلا جرم ان كانت هناك فكرة إسلامية وفكرة علمية عالمية في بيئة للإسلام."24
غير أن هذا الانتصار للعروبة والإسلام يأتي ضمن رؤية متبصرة ومنفتحة تعطي وزنا للتنوع والتعدد وتحترم اللغات والأديان الأخرى وما حديثه عن التسامح الديني في صقلية والتعايش بين المسيحية والإسلام وكذلك تطرقه إلى دور اللغة الأمازيغية في نشر الثقافة الإسلامية في بجاية وتأييده للفكرة المغاربية رغم ايمانه بضرورة الانضواء في الدائرة العربية والجامعة الإسلامية وتمثل ذلك في دعوته إلى الامتزاج بين الزيتونة والأزهر إلا يتنزل في إطار هذا التصور العقلاني المنفتح والاستشرافي.
هذه بعض من ومضات الشيخ الفاضل ابن عاشور، فماذا أخذنا نحن أحفاده مما ترك؟ وماذا بقي منها حتى يمكن أن نستفيد منها ونهتدي به؟
_________________________
المرجع:
* كاتب فلسفي
1- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982.
2- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص. 173.
-3 محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.98
4- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص7
5- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص8
6- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص9
7- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص8.
8- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص10
9- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.146
10- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص24.
11- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص29.
12- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.148.
13- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.147.
14- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.150
15- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.152,
16- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.155
17- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.40
18- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.39
19- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.5118
20- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.98.
21- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.109
22- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.116.
23- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.25.
24- محمد الفاضل بن عاشور، ومضات فكر، الدار العربية للكتاب، تونس 1982. ص.378.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.