في تأكيد جديد على أن حكومة حزب العدالة والتنمية تسير بخطى ثابتة وواثقة على طريق أسلمة تركيا ، أعرب رئيس المحكمة الدستورية التركية هاشم كيليتش يوم الأربعاء الموافق 3 مارس / آذار عن خشيته من أن تضطر المحكمة إلى البت في إصلاحات قضائية مزمعة من شأنها أن تثير توترا شديدا في العلاقات بين الحكومة ذات الميول الإسلامية والمؤسسة العلمانية. ونقلت صحيفة "حريت" التركية عن كيليتش القول إن تركيا بحاجة لإصلاحات دستورية جدية ، لكن ذلك يجب أن يتم من خلال توافق واسع. وأضاف "سببت مبادرات تغيير الدستور في تركيا في الآونة الأخيرة كثيرا من التوتر ، أخشى أن يحال إلينا الإصلاح القضائي وتعديل الدستور". وتابع بالقول : "ستحقق تركيا إن آجلا أو عاجلا هدف أن تكون دولة القانون والديمقراطية ، لكننا نتقدم على هذا الطريق بأفدح الأضرار". ولم تكد تمر ساعات على تصريحات كيليتش إلا ودعا الرئيس التركي عبد الله جول زعماء المعارضة إلى محادثات مع دنيز بايكال زعيم حزب الشعب الجمهوري وهو حزب المعارضة الرئيس في تركيا لمناقشة الإصلاحات المزمعة. وجاءت التصريحات والتحركات السابقة بعد ساعات من إعلان رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوجان أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يعتزم عرض تعديلات دستورية على البرلمان قبل نهاية مارس/آذار . وقال أردوجان :" المقصود ليس إعادة نظر كاملة بالدستور بل تعديل بعض مواده خصوصا تلك المتعلقة بطريقة حظر الأحزاب وعمل القضاء". ومعروف أن حزب العدالة والتنمية جعل من تعديل الدستور نقطة أساسية في برنامجه الانتخابي الذي فاز على أساسه في الانتخابات التشريعية عام 2007 ، إلا أنه لا يحظى بأكثرية في البرلمان تتيح له وحده إقرار تعديلات دستورية ، لكن يمكنه عرض التعديلات الدستورية في استفتاء شعبي في حال رفضت المعارضة الموافقة عليها. فرصة ذهبية
ايلكر باشبوغ قائد الجيش التركي ويبدو أن التطورات المتسارعة الأخيرة والتي ألقي خلالها القبض على أعضاء خليتين كانتا تسعيان للإطاحة بالحكومة شكلت فرصة ذهبية لأردوجان للإسراع بتنفيذ الإصلاحات التي تمهد شيئا فشيئا للقضاء على نفوذ المعسكر العلماني والمتمثل أساسا في الجيش والقضاء. وكانت محكمة تركية قبلت يوم الثلاثاء الموافق 2 مارس النظر في اتهام قائد قوات الفرقة الثالثة الجنرال صالدراي بيرك ومدعي عام ولاية أرزنجان إلهان جيهانر بالتآمر على الحكومة والتخطيط للإطاحة بها فيما يعرف باسم تنظيم "أرجينيكون" القومي المتشدد. ويعد الجنرال صالديراي بيرك قائد الجيش الثالث المتمركز في إقليم ارزينكان شرقي تركيا أول ضابط لايزال في الخدمة يواجه محاكمة تتعلق بما يسمي بتنظيم "ارجينيكون" ، فيما ألقي القبض في فبراير الماضي على إلهان جيهانر ممثل الادعاء العام الذي تولى مهمة التحقيق مع جماعات إسلامية ، وهو ما أثار نزاعا متصاعدا بين السلطة القضائية والحكومة التى هددت بالدعوة لاستفتاء حول إدخال تعديلات دستورية تحد من سلطات القضاة. ووفقا لما جاء في عريضة الاتهام التي وقعت في 61 صفحة ، فقد اتهم الرجلان بالتآمر لتشويه سمعة حزب العدالة والتنمية والتنظيمات الإسلامية في ارزينكان عبر إثارة النعرات القومية المناوئة للحكومة ودس أسلحة في منازل يستخدمها مقربون من الداعية المسلم الشهير فتح الله جولين للإيعاز بأن الحركة الدينية متورطة في أنشطة مسلحة. وبجانب بيرك وجيهانر ، فقد وجهت أيضا لما يزيد على 200 شخصية بينهم ضباط متقاعدون ومحامون وصحفيون اتهامات بصلتهم بتنظيم ارجينيكون الذي كان يخطط لإثارة الفوضى من خلال حملة من العنف لتبرير استيلاء الجيش على السلطة. ولم يقف الأمر عند ما سبق ، ففي 22 فبراير / شباط ، وجه أردوجان ضربة موجعة جديدة للعلمانيين حينما اعتقلت قوات الأمن 40 شخصا بتهمة التدبير لانقلاب في البلاد فيما عرف ب " مخطط بليوز " الذي تورط فيه عدد كبير من العسكريين وكان يهدف إلى تنظيم سلسلة اعتداءات تشمل تفجير مساجد وإسقاط طائرات تركية ، بالإضافة إلى التحريض على النزول إلى الشارع كي تبدو حكومة أردوجان عاجزة عن القيام بمهامها ما يسهل عملية إسقاطها. وسرعان ما وجهت محكمة في اسطنبول اتهامات إلى 20 من العسكريين المتورطين بالمخطط بالانتماء إلى منظمة سرية والتخطيط لقلب نظام الحكم في البلاد وقررت سجنهم. والمثير للانتباه أنه تورط بمخطط "المطرقة الثقيلة" أو "بليوز " عدد من كبار القادة العسكريين الحاليين والسابقين ، حيث يوجد بينهم ثمانية جنرالات برتبة أميرال قيد الخدمة حاليا ، بالإضافة إلى قائد قوات بحر الشمال السابق الأدميرال فياز أوغوتسو وقائد قوات بحر الجنوب السابق الأدميرال لطفي سنقر وقائد القوات الجوية السابق الجنرال إبراهيم فيرتينا وقائد القوات البحرية السابق الأدميرال أوزدين أورنك ونائب قائد الجيش الجنرال المتقاعد إيرغن سايغون والعقيد المتقاعد كوبيلاي أكتاس. وبالنظر إلى أن الاعتقالات السابقة سببت حرجا بالغا للجيش التركي ، فقد سارع للادعاء بأن الكثير من الأدلة حول المخطط ضعيفة أو مختلقة وأن ما يجري عبارة عن عملية انتقام ذات دوافع سياسية هدفها تلويث سمعة أكثر مؤسسات البلد وطنية ، إلا أنه تناسى أن القضاء وهو شريكه في الدفاع عن العلمانية هو الذي قال كلمته وليست حكومة حزب العدالة والتنمية . بل ورجح كثيرون أن جنرالات الجيش يقفون حاليا مكتوفي الأيدي بينما تضمحل قوتهم ومصداقيتهم ، خاصة إذا تم الأخذ بالاعتبار هيمنة الجيش على كل شيء في تركيا قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002 . فمعروف أن الجيش تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك هو الذي أسس تركيا الحديثة العلمانية وينظر قادة الجيش وحلفاؤهم في الإدارة المدنية والسلطة القضائية ووسائل الإعلام إلى القوات المسلحة باعتبارها الحامي الأكبر لإرث أتاتورك ، بل وتدخل الجيش للإطاحة بحكومات منتخبة أربع مرات منذ عام 1960 كان آخرها انقلاب عام 1997 الذي أجبر نجم الدين أربكان أول رئيس حكومة إسلامي على التنحي . ومنذ فوز حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية بقيادة الرئيس الحالي عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوجان في انتخابات 2002 ، انقلب المشهد السياسي تماما في تركيا وظهر تحد جديد لم يألفه الجنرالات من قبل ألا وهو أن حزب العدالة والتنمية فاز بأغلبية كبيرة سمحت له بتشكيل الحكومة منفردا دون الاعتماد على ائتلافات هشة كما كان الوضع في الماضي ، كما حصل الحزب بفضل الاصلاحات السياسية والاقتصادية التي أدخلها بهدف الوفاء بشروط الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا إلى صفوفه على ثناء الخارج ، بالإضافة لارتفاع شعبيته بشكل ساحق في الداخل . سياسة ذكية
رجب طيب أردوجان ويبدو أن الكشف عن المخططات الانقلابية السابقة يعجل بتحقيق أحد أهم الإصلاحات التي يسعى إليها حزب العدالة والتنمية ومن شأنها إتاحة المجال واسعا أمام أسلمة تركيا ألا وهو إبقاء الجيش في ثكناته والحد من تدخله في الحياة السياسية. ورغم أن البعض قد يرجح احتمال قيام الجيش بانقلاب جديد للحفاظ على هيبته ، إلا أن هذا الأمر مستبعد تماما ليس فقط لأن الوضع الدولي لا يسمح بذلك ، وإنما أيضا لأن حكومة حزب العدالة والتنمية تسير بتركيا على طريق إعادة الهوية الإسلامية عبر التمسك بالديمقراطية ومبادئ العلمانية نفسها ما يضع مؤيديها في حرج بالغ ليس أمام الأتراك فقط وإنما أيضا أمام العالم بأكمله ، حيث نجحت حكومة حزب العدالة في أن تغير أو تعدل الكثير من مواد الدستور التى وضعها جنرالات الجيش وتم حتى الآن تغيير أو تعديل 75 مادة من مواد الدستور وعددها 176 مادة ، أبرزها ما يتعلق بالحد من صلاحيات الجيش في الحياة السياسية والاعتراف للأقليات القومية والدينية والمذهبية بحقوقها السياسية والثقافية ، كما كانت حرية العقيدة وهى أحد مبادئ العلمانية هى الأساس في التعديل الدستوري الذي تم بمقتضاه رفع الحظر عن ارتداء الحجاب في الجامعات ، وإن كان ألغى بعد ذلك بقرار من المحكمة الدستورية . وأمام الحقيقة السابقة ، فإن أردوجان أصر على عقاب المتورطين بمؤامرتي أرجينيكون وبليوز ، بل وأكد أيضا أن الأدلة التي تشير إلى تورط الجيش في محاولات للانقلاب على حكومته قوية جدا ولا يمكن تجاهلها. والخلاصة أن الجيش التركي بدأ يعي حقيقة أن تركيا اليوم ليست بأي حال من الأحوال هي الجمهورية العلمانية التى أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 وأن الانقلابات العسكرية لم تعد أمرا سهلا كما كان يحدث سابقا في ضوء الحرص على الانضمام للاتحاد الأوروبي ودعم الغرب لحكومة حزب العدالة التي يرى فيها النموذج الأمثل الذي يمكن تطبيقه في العالمين العربى والإسلامى باعتباره يجمع بين الإسلام المعتدل والعلمانية والديمقراطية.