عد إن شئت وتناسى صديقك أحمد الذي قاسمك بالسجن كل همِّك ونصف سريره وكلَّ ملابسه وأكله القليل... لم يكن أحمد يعرف عن السّياسة شيئا سوى ما كان يقوله له أبوه: "وليدي سايس روحك"...ولم تكن روحه كما كان يقول إلاّ فاطمة خطيبته ...فكان يسايسها... حتّى مرّ "بالخطإ" ليصلّي بجامع الزّرارعيّة...وكانت حملة أمنيّة حملته إلى السّجن ثمّ إلى المستشفى ،بعد سنين، مليئا بالعلل... ومنه إلى مثواه الأخير! لا تدري أين ستبكي بسرّيّة وأنت تذكر يوم أُذِن بعد عذابات بترحيله إلى المشفى؟ كان أحمد يومها يُجهد النّفَس أن يسأل :"يا عمّي لحبيب... هل صحيح أنّ الواحد... مع من أحبّ... في الجنّة...طيِّب ماذا لو... تزوّجت فاطمة من بعدي... يا شيخ...؟" ويضمّه عمّ لحبيب برفقٍ لكثرة مواطن ألمه... ولا ندري أيٌّ منّا قد بكى أكثر... ستبتسم وأنت تذكر عشقه لفاطمة ذات السّبعة عشر ربيعا وصيفا كما كان يقول. كأن يحدثك عنها مبتهجا كأنما ينظر إليها أمامه بغنجها وعيونها السوداء الحالمة وكأانها تبادله النظرات ويسمع صوتها وهو في قعر السِّجن تصبّره بحبهما الخجول..وبعد أن يغرق ويغرقك معه في حلم مسموع إذا هو يفتح عينيه،فيراك فاغرا فاك والى جانبه "الباكية" فيمسك وجهك بعنف وهو يصرخ باتجاه "الكبران": "ياربِّيييي هذا وجه تبليني بيه!؟"... فتضحكا عاليا وطويلا حتي يغضب "الكبران"... كان أحمد لا يأبه للسّجان وكان" يقول لا فرق بينه وبين السّجين إلا ساعات النوم بالبيت" وكان يقول "لقد تركوا فيك آثارا فاحرص أن تترك فيهم اثرا ينغص عليهم ساعات نومهم " كان مشاكسا رافضا لسجنهم حتّى كان ما كان...! عد إن شئت، وانسه، ان أنت استطعت فلا أحد من بعدك سيُلام. ستسير مندفعا نحومقهى يقع مقابل السّجن الذي قضيت فيه عمرا لتجلس علي كرسيٍّ وحيدا ...منفردا... تنشر أمامك كلَّ الجرائد والمجلات نكايةً في يوم حُرمت أن تُعطى فيه ورقة مكتوبة تؤانسك داخل زنزانتك. ستطلب من القهواجي "كابوسان" وقهوة عربي و" بوقا" و"كسكروت بالتّن حار" و"لبلابي سخون"... وتتشهّى بشراهةٍ كلّ ما حُرمتَه من نعيم "السِّيفيل" لمّا أن كنت داخل هذا السجن... لكن لن تجد ذلك الطّعم الذي كنت ألِفته ... ستري جموعا منذ غادرتَ وهاجرتَ وهي وهي، لا تغدر أو تهجر هذا المكان...إنّهاتقف في صفٍّ طويل يمتدّ لعشرين سنة لتسلم "القفّة" ثم تعود لتصطف من جديد في صفٍّ أطول لرؤية حبيب لمدّة عشر دقائق وبينهما أمتار وأسلاك شائكة تحجب الرّؤية وأعوان السّجون بينهما في جيئة وذهاب يمنعون النّظرات أن تصل بعمقٍ فتمدّد زمن العشر دقائق... وأنت ترشف قهوتك التونسيّة المرّة ستهبّ نسمة صيفيّة فتذكر تلك اللّيلة القارصِ بردُها حين جرّدوك من ملابسك وأُخرجت إلى ساحة السِّجن لتركض خلفك الكلاب، بجُرم كتابة كلمات تشبه الشِّعرعلى ورق علبة السجائر..وتضيق أنفاسك فتستذكر الرّبو والدّواء الذي لا يُعطى... ستشعر بحكة تذكّرك "بالقمل" الذي نهش جلدك لسنين بالسِّجن وتري وجه "الكبران" يسب الدّين ووالديك ويسقطك بدفعة على الأرض لأنّك تصلي فأزعجت السُّلطات... سترى أمّهات يبكين، فتذكر أمّك التي تسافربين ثلاثةِ سجون بحثاعنك وحين تجد سجنك الجديد لا يسمح لها بالزّيارة لأنّها وصلت متأخّرة بثلث ساعة...! ستتزاحم وتتحلّق من حولك الذّكريات التي عُدت ووعدت بمحوها، فترشف آخر قطرة من قهوتك المرّة وتغادر المقهي مرتبكا متأبِّطا وعدك الكاذب وأنت تتمتم، لتُسمع العيون من حولك،شاكرا ربّك أن ترى نفسك خارج هذا السِّجن... وأنك تقريبا... نسيت!؟ عُد إن شئت وستتأكّد أكثرأنّ السِّجن الذي خرجت منه قد بنى بداخلك أسواره...وأنّ الأبواب الحديديّة المشبكة والتي طالما ادّعيت نسيانها صارت تحيط بك من كلِّ الجهات، وأنّ أعوان السجون بلباسهم الأسود ما غادروا مطلع الشّمس... وأنّ "الكبران" الذي "طيّح قدْرك" في سنين ولّت أضحى مرافقا لك في كلِّ السِّنين القادمة... وإذا "بالراقو" في دمك يشوِّه لون الكريات البيضاء والحمراء وينتج كيانا تائها بين خطوط الزّمن الثّلاث... ستصرخ في صمتٍ : "ليس أنا من عاد... من عاد غيري... أمّا أنا، لكأني لم أُهاجر، بل لمّا أخرج من سجني بعد!" سترى الأرض متشققة من أسراب فرق الأمن ... والقمر لا يكاد يضيء خيالات العسس ...وأشجار اللّوز والزيتون التي تنعّمتَ بخضرتها في أعالي الوادي تيبّست عيدانها وجيء لهم بها حطبا وفحما... الهواء العليل لجبل الشّعانبي يختنق ويعتلّ بدخان سيّارات التّفتيش و بعجاج الخطى الرّاحلة... وهذا سفحه الوسيع صار أضيق من الأزقّة القديمة... هنالك سيهزّك الحنين إلى زيارة ذلك المعبرالحدوديّ وتعجب: ماأكثره وما أكثر التّدافع من حوله...! ستستقلّ سيّارتك وسائقك يقود ولا يتكلّم ، أمّا أنت فتعبّ المناظر من حولك عبًّا وتملأ عيونا جوعى وعطشى لم يشبعها رحيل ولم تروها عودة...وحين تصل إلى ذلك المكان الذي عبرته نحوهجرتك منذ عشرين سنة ، بسرعة تترك أشياءك لتتسلّل نحو الحدود كجدول ماء ينساب من أعلى الجبال لا يملك إلاّ أن يُجاري المسارالمرسوم... قدلا أحد ينتظرك هنالك... غير أنّك ستفتش في كلِّ الخطوات الماضية والآتية عن خطوة تعترف لك بك وتقبل أن تكون البداية لتوقف إدمان الرّحيل والعودة وترقبك العيون من خلفك بالعتمة حائرة تتساءل: نسيت أم لم تنسى... !؟ تعود أم لن تعود...!؟ المنجي المنصوري لندن 2010