صبغة خاصة الجزء 1 الصفحة 12 لحظة القبض عليك ، هيَ لحظة زئبقية ، تُرى و تُلمس ولكن لا تُمسك ، أذكر جيدا ، كيف انتقلت في لحظة ، من عالم إلى عالمٍ آخر ، لم تكن هناك فواصل أو مقدمات... مساحة الحرية المتاحة ، تصبح حلماً بعيد المنال... تتذكر التفاصيل الصغيرة ، الزيارات القصيرة عند عمتك ، أو عمك ، او إحدى خالاتك ، كلّ منهم يراك قادما عزيزا ، يحدثك عن همومه الصغيرة ، يثق بك ... تتناول عنده كأسا من الشاي المنعنع ، تمزح معه ، تضحكون بحب و براءة ، تعود إلى البيت ، تتدلل على أهل بيتك ، تسامر ابناءك ، تلاعبهم ، تعيش لحظات طفولة.... لأوّل وهلة ، رأيتني أدخل كهفا ، الرؤيا شبه مُعْتمة ...بدا لي الناس محشورين ...نصفهم عرايا الصدر ... أعمارهم مختلفة ، هناك أرى الأسرّة على الجانبين ، إنها أشبه شيء بالقبور الضخمة ...لقد شيدوها من الإسمنت ... أراها بوضوح ، رغم الأكداس البشرية...كل سرير به طابق سفلي ، و آخر علوي ... وضعت مرتبتان بكل طابق ...ولكن لثلاثة أشخاص ، ليناموا ( راس وذْنّبْ) ، يعني أن تنام ، ووجهك مجاور لرجليْ قرينيك في السرير...و رجلاك بوجهيهما ...هكذا قد تعيش لمدة لا يعلمها إلا الله... شخصيا ، أمضيت سنةً و نيف على هذه الحالة...ولكيْ أفصل لك أكثر ، يجب أن ينام سجينان (حق عام) في الأطراف ، وسجين (صبغة خاصة) في الوسط ، ولذلك أغلب من ينال هذه الحظوة ، يخرج منها بآلام في الظهر قد تلازمه ما بقيَ من حياته... سلمني العريف إلى الكبران و هو ناظر الغرفة من عتاة مجرمي الحق العام ، يعين من لدن الادارة ، ليكون عينا لها على ما يدور بالغرف، نادى بأعلى صوته : ( وينهم جماعة الانتماء هاوْ جايكم واحد جديد)... وأشار لي أن أواصل إلى وسط الغرفة... تقدم منّي أحد الشباب ، سلّم عليّ، سألني عن إسمي ، صعدت معه البلاطة ، جاء غيره ، بسيماهم في وجوههم يستبشرون بمن لحق بهم و يحبون من هاجر إليهم مع عدم تمنيهم لأحد ذلك... ثم ناولني ، هذا الشاب قميصا و سراويل ، ودلني على دورة المياه ، هناك حيث يجب أن أغتسل من اليوم فصاعدا بالماء البارد.... في هذا الجوّ المضغوط كنت مدهوشا ، أراقب هذه الفسيفساء البشرية ، التي بدت لي غير متناسقة ، لاشيء يجمعها غير هذه الحيطان الاربع... أعمارها تتراوح بين الثامنة عشرة و الستين سنة... حوالي عشرين بالمائة منهم مثلي بتهم سياسية ، و البقية ، لا تكاد تجمعهم تهمة ، و لا حكم قضائي.... كنت أعلم انني محظوظ ، إذ و بحكم و جود معارفي الذين لم أكن أعرفهم ، كنت أجد في النهار مكانا فوق بلاطة ، أتجنب فيه الوقوف طول اليوم بالممشى... كان عليّ فقط أن أتحمل الليل في الكدس... الكُدْسْ ؟ قاطعته مستفسرا . نعم الكدس ، الغرفة معدة لستة و خمسين شخصا ، إذا اعتمدنا عدد الاسرة المبنية بالإسمنت ، ولكن عددنا لم يكن ينزل عن المائة و الاربعين ، كانوا يثلثلون كل سريرين و ما تبقى ينام بالكدس ...يأتي الناظر بعد ان نفرش كل المساحة الرطبة ، على طول الممشى ، يضع رجله بالعرض ، و يصيح فيك :طيح ...سكين... عليك أن تلبّي فورا حتى لا تمضي الليل واقفا.... سكين، يعني على أحد جنبيك ... عليك أن تختار ،،، الجنب الذي تختاره عليه ان يتحملك طول الليل ...لا مجال للدلال هنا ، لن تتمكن من التحول على الجنب الثاني حتى يتمكن سمك السردين من ذلك في علبه...ثم الويل لك ، إن طاردتك حاجة بشرية ، ليس لأنك لن تتمكن من ذلك فأنت ستصل لا محالة لدورة المياه ، دعسا على الرقاب ، ولكن ان تجد مكانك الذي غادرت، هيهات ...لقد إلتحم الكدس... إبق هناك راقب شخير المتعبين... كان ظافر الصامت ، يحاول جاهدا أن لا ينسى ، لم يكن من هواة الرواية ، ولكني شعرت من حرصه على رواية التفاصيل ، أنه يتجاوز محنته الشخصية ، ليكون شاهدا على ما أسميه حرب استنزاف ... كيف يمكن لك أن تستنزف طاقات بشرية في توافه يومية ، ليتحول اهتمامها من شريك في الهم العام ، إلى مجرد أفراد يتقنون فن البقاء.... كان لي صديق يضيف ظافر من صفاقس إلتقيته هناك ، بعدما تعارفنا ، سألني :كم للإسلام من قاعدة. خمس ، أجبته... اعلم أن للسجن ايضا خمس قواعد ... ماهي ؟، سألته و انا اضحك ... أولا : الصبر ،فأنت لتحصل على نصيبك من (الصبة) ، عليك بالصبر ، و لكي تدخل دورة المياه الوحيدة المخصصة لأكثر من مائة إنسان ، عليك بالصبر ، و لكي تنام عليك بالصبر إلخ... ثانيا : الانتباه ، قد تأتيك رسالة ، أو حوالة ، فينادون باسمك في أول الغرفة ، إن لم تنتبه ، ضاعت للأبد... ثالثا: الاعتماد على النفس : هنا يا أخي ، لا أمك و لا أختك و لا زوجك قد تعينك على النظافة أو الغسيل... رابعا: إغتنام الفرص : قد تخلو دورة المياه من الزوار ، بمناسبة فُرجةٍ على فلم مثلا ، يجب عليك ان تسرع لاغتنام هذه الفرصة الثمينة، للغسيل مثلا... خامسا : التمويه : هناك الكثير من سجناء الحق العام ، يعملون مخبرين من نوع خاص ، إنهم يكتبون كل ما تقوله، فإذا اشتبهت بأحد يتنصت عليك ، فادخل مباشرة في الحديث عن كرة القدم.... كان ذلك الرجل حكيما ، ولكن هل يكفي هذا لقضاء السجن ؟
صبغة خاصة الجزء 1 الصفحة 13 سجين دائما بغض النظر عن قضيته ، يعيش على حلم ، وهو أن يرى نفسه خارج هذه الاسوار... أن يمشي بلا نهاية .. دون أن يوقفه أحد ... ولذلك قلما تجد من هو صابر .. الكل يتصبّر ، يتماسك ... الكل يتواسى ، يتابع الأخبار ...بل هم أعلم الناس بالأخبار كما قال يوسف( عليه السلام ) ...السجين أيضا ، يلجأ للرؤيا ، يفسرها ، يطوف بها بين أقرانه ، يحاول أن يجعل منها أملا يقنع به غيره... هو لا يرتاح للتآويل المتشائمة ، يصد عنها كأن لم يسمعها ... إن ما يدهشني هو تعلقي بالحياة ، الامل ، ذلك العالم اللامتناهي ... قد يذوي في النفس ، ولكن سرعان ما يتجدد ...يولد شابا ، ثم يشيخ ، لكنه لا يموت ، أبدا يغادر الشيب إلى الشباب في لحظة...له إنتعاشة جميلة تهز القلب كنسيم في ليل قائض ...قضينا أشهرا نتعارف ، و كلما حوكمت مجموعة ، فارقونا ... ذهبوا ،،، هناك من الاشخاص ، من إذا غادر ، غادر قلبك معه... قلوب الممتحنين ، رقيقة ... بعد أن يغادروا يأتي من يعوضهم ، لم تكن الغرف تفرغ من القادمين الجدد ...ما إن يغادر فوج حتى يأتي فوج آخر ...يقضي سنة أو اكثر أو أقل ، يحاكم ... يقف على الحقيقة... ثم يغادرنا .... كانت أزمتنا أشبه شيء ، بحبا ت السبحة... ضُرِب الخط الاول ، انهارت باقي الحبات... لقد تمكنوا من الرأس ، إذا لم يبق الا بقية الجسم ، لسلخه و تقطيعه... في البداية ، كان الضباط يخشون المداهمة ... صورنا أعداءنا بأننا ذلك الوحش الذي يلتهم كل من اقترب منه... هم كذبوا الكذبة ثم صدقوها ... إذن كان كل منهم يدفع غيره للاعتقال ليبقى هو في المكتب....كانوا تماما كدولة العدو ، كبني صهيون ، يقتلون ، ويسكنهم رعب قاهر .. ذكر لي صديق ، كان يعيش في الخليج من عشرين سنة ، لا يهتم بالسياسة ولكنه متدين ، كان ملتحيا ، ويلبس جلبابا ، جاء في زيارة لاهله في تونس ، وصل المطار ،لم يهتد لكيفية النزول إلى العاصمة ...كان من الطبيعي أن يقصد مركز أمن المطار ليستفسر.. ما إن دخل عليهم ، حتى فروا مذعورين ، تركوا مكاتبهم و فروا... هؤلاء هم الذين استأسدوا علينا طوال هذه السنين.... كانت سنة 1992 للميلاد ، سنة إختلال الموازين بلا منازع ، كلٌّ يرقب الاوضاع و يده على الزناد ...صوت الجزائرين أُخمد ، الغي الشعب من المعادلة ، دخل العسكر و من وراءه على الخط... دخلت البلاد في نفق الحرب الاهلية... تفرغ قصر قرطاج للإجهاز على خصومه في مذبحة صامتة...كانت الكفة راجحة تماما ،فقد التوازن... انهارت المعادلة... الاذكياء من المساجين السياسيين ، فهموا أن السنوات القادمة ، ستكون عجافا ،وأن الانفراج بات بعيدا ، فحسموا أمرهم للتعبد ، و قرأوا الفاتحة على أرواحهم ، تحسبا للفناء.....ولكن وإن كان الانفراج بعيدا ، فإن الفرَج قريب..... في هذه المرحلة ، كان يزعجني أمرين اثنين ، أولهما ،أنني لم أحاكم ، تأملت أنني سأغادر يوم المحكمة ، إذ أن التعذيب لم يصادر مني شيئا ذا بال ، ورغم أن المحامي الذي اتصلت به الوالدة ، قال لها بالحرف بعد أن قبل ملفي على مضض : لا أضمن لك شيئا يا خالتي ، في مثل هذه القضايا الاوامر تأتي من فوق .... إلا أن خيطا رفيعا من الثقة في القضاء ، لم ينقطع بعد ...ثانيهما ، أولائك الأصدقاء ، الذين كانوا قساة في استهزائهم بمن يظن أن هناك أفقا قريبا للحل ... كانوا يبتسمون في سخرية مرّة بالحالمين ، بدوا لي كمن يجلد نفسه على وقوعه في مصيدة ... ولم تكن السنون أقل قسوة منهم ، إذ اكدت ما ذهبوا إليه ... كان هذا العام فيصلا بين مرحلتين في السجن ...مرحلة السجن العادي بمقاييس بلادي ، إلى مرحلة السجن الإستثنائي ... لقد كانت العرب تقول : هذا عام له ما بعده ... أو يوم له ما بعده...نعم لقد كان ذلك كذلك.... كان الجناح الذي أسكن الغرفة رقم 1 منه ، أي د.ن.ب، يتكون من سبع غرف ، ولكن عندما ترى الترقيم ، تلاحظ أن الرقم 7 غير موجود ، فتبدأ قراءة الأرقام من جديد ، 8.6.5.4.3.2.1...تسأل عن السر...يجيبك القدماء.. هذا إكرام للسابع من نوفمبر ... البيت رقم سبعة ، مخصص للشواذ ..فأعطوه رقم 8...ذكرتني هذه الأحجية ، بقصة رواها الجاحظ ، لروجل تزوج أربعا وطلق خمسا... كانت أشد عقوبة لشيخ عارف بالله ، أن يوضع مع هذه الفئة ، إمعانا في تعذيبه و إهانته.. كنت ترى هؤلاء الضحايا ، بألبسة نسوية ، خلقا مشوها ، يتنادون بأسماء أنثوية... إنهم جزء آخر من مأساة هذا الوطن ، الذي أنجب الكثير ، ولكنه ضيعهم.... سكت ظافر قليلا ثم قال مستدركا : نسيت أن أحدثك عن أول زيارة لاهلي ، لي ، بالسجن.....!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! يتبع بإذن الله