الظهير البربري والظاهرة الأمازيغية الحلقة الخامسة: اللغة احمد دخيسي
اللغة وعاء تجربة الإنسان، لكن ولاء الإنسان الشديد للغة قد ينزلق به نحو عصبية متزمتة. كان القوميون العرب -في مقدمتهم المسيحيون- يصطنعون لأنفسهم "قومية ناطقة بلغة الضاد لا بلغة القرآن، ينشدون أمجاد اللغة العربية، ويتيهون هياما بها، ويرفعونها مكانا ساميا." (1) أكيد أن النسب العربي الشريف لخاتم المرسلين لا يحجب إطلاقا عالمية الرسالة التي أتى بها ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:106] لأن الإسلام لحمة جامعة وإطار مرن يحتضن كل الأقوام والأجناس والخصوصيات الثقافية لأن ميزان التفاضل بين الناس ليس هو اللغة بل التقوى. ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾[الحجرات:13]، ونقف هنا عند المخاطب: يا أيها الناس. كما أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف لاستيعاب الاختلافات اللغوية التي كانت موجودة بين المناطق العربية، أما السنة النبوية الشريفة فتؤكد ما ذهب إليه القرآن الكريم، يقول الحبيب المصطفى :"لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى." لا فضل لعربي بعروبته على أعجمي مسلم، لكن المسلم كيفما كانت لغته الأم، يتمسك باللغة العربية ليس لشكلها أو ميزة فيها، ولكن لمضمونها لأن الله تعالى وهو الحكيم العليم اختارها لتكون وعاء لكلامه المحفوظ بحفظه ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتِهِ﴾[الأنعام:125]، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[يوسف:02]، ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾[النحل:103]، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءانًا عَرَبِيًّا﴾[الشورى:105]، وكما تولى الله تعالى حفظ كلامه تولى أيضا حفظ الوعاء من الضياع، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، وبالتالي تكون اللغة العربية هي التي تشرفت بحمل القرآن الكريم الذي مدها بكل مقومات الحياة والصمود حيث أصبحت بذلك لغة عالمية ليس لميزة في ذاتها وإنما بفضل ارتباطها بالقرآن الكريم والرسالة الإسلامية العالمية. هذه العلاقة الوثيقة بين الإسلام واللغة العربية صعَّب كثيرا مسألة ترجمة القرآن إلى لغات أخرى ترجمة دقيقة «فمعانيه الرفيعة ومغازيه العميقة ما كانت لتنقل إلى لغة من دون تعرضها إلى تبديل أو تحوير أو نقص ما، وهو أمر يؤدي إلى تشويه كلام الله وإخراجه عن جوهره ومقاصده»( 2) لأن ترجمة معاني القرآن، وهو كلام الله تعالى ليس بمقالة نثرية أو قصيدة شعرية، تبقي مسيجة بالاجتهاد البشري وأنها ترجمة تقريبية فقط لمعاني القرآن. أما تلاوته والتعبد به كما الصلاة به فلا يصح كل ذلك إلا باللغة التي بها أنزل. هذا يحتم على كل مسلم تعلم اللغة العربية أيا كانت لغته الأم، توسلا إلى فهم دينه بفهم القرآن عقيدة وشريعة نهج حياة،(3 ) لأن ذلك هو الحد الأدنى لضمان ما به تصح الصلاة والتعبد بالقرآن، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إذ لا يمكن فهم كلام الله تعالى ومعرفة محكمه ومتشابهه وعامه وخاصه، مطلقه ومقيده من دون التمكن من اللغة العربية. كيف لذي عقل سليم أن يمنعه نسبه الطيني وافتخاره بأجداده من أن يتعلم لغة هيأها الله تعالى لتحمل رسالته الأخيرة الخالدة إلى الإنسانية كافة، «تلك رسالة الله سبحانه، وأنا العبد شرفني ربي بتلاوة كلامها ما هي تلاوة إلا بكونها نطقا باللفظ المنزل. والعربية همزة وصل لينة بين كلام الله وبيني أنا لعبد المشرف»(4 ) هذا دون أن نغفل حقيقة مهمة وهي أن حرف تيفيناغ لا يتقنه عدد كبير من الأمازيغيين بله العرب كما أن الطريقة التي تم إقراره بها غامضة حيث صادقت عليه أقلية قليلة جدا هم أعضاء المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2003 (5 ) هذا بغض النظر عن التفسير الذي يُعطى لهذا الحرف والقداسة التي أحيط بها أكبر من أن يستوعبها العقل، فيقال إن تيفيناغ تعني الخط أو العلامة، وهناك من يأخذ بالتفسير «الظاهري» للكلمة ويقول «تيفي» تعني اكتشاف و«ناغ» تعني لنا أو ملكنا وبالتالي كلمة تيفيناغ تعني مكتشفنا أي أنه لغة أمازيغية خالصة ابتكرها الأمازيغيون لوحدهم قبل 3000 سنة قبل الميلاد، هي نفس الخلاصة التي توصلت إليها «الأكاديمية البربرية» في باريس حيث إنه " إذا كان العرب يدينون للآراميين، والأوروبيون للفينيقيين... فإن البربر لا يدينون لأحد في وضع الحروف التي ترجع إلى عهد ضارب في القدم." هذا الادعاء يحتاج إلى كثير من التمحيص خاصة وأن المنطقة (شمال إفريقيا) في تلك الحقبة المذكورة كانت في مرحلة من البدائية والبساطة بما لا يسمح بظهور لغة منظمة يمكن أن تعبر عن البوتقة الثقافية والحضارية للشعوب كما أن تيفيناغ كانت مجرد نقوش على الحجر عند الطوارق تكتب في كل الاتجاهات (أعلى، أسفل، يمين، يسار) أكثر من كونها لغة. تاريخيا، لا يمكن الجزم بأن الأمازيغية بشكلها الحالي هي التي كانت سائدة في زمن ما قبل الإسلام وذلك بالنظر إلى الحضارات المتعاقبة والاستعمارات المتتالية قبل الفتح الإسلامي، وهذا ما أثر بشكل كبير في حضارة شمال إفريقيا بما في ذلك اللغة. لقد لعبت المدرسة الاستعمارية وما تزال الدور الحاسم في التوجيه الإيديولوجي والمالي للملف الأمازيغي ولم تبذل تلك المدرسة أدنى جهد لتقنع كثير من المناضلين الأمازيغيين بأطروحاتها وجعلها إطاراً نظريا لا يطاله الشك. ليس هناك داء وسم أشد فتكا لوحدة الشعوب والأمم من النعرات العصبية والقومية. فالقومية، عربية كانت أو أمازيغية، بضاعة إيديولوجية مستوردة غريبة عن التاريخ الإسلامي(6 ). لقد دفعت أخطاء القومية العربية القوميين الأمازيغيين إلى اعتبار العروبة، ومعها الإسلام أحيانا كثيرة، رديفا للاستبداد وشريكا مباشرا في سياسات الحذف والتهميش التي تصنعها الأنظمة الحاكمة بكل أطياف المجتمع عربيها وأمازيغيها. اقتضت حكمة الله تعالى، لا يضل ربي ولا ينسى، أن تكون آخر رسالته للبشرية هي القرآن كما اقتضت حكمته تعالى، وهو الحكيم العليم، أن تكون هذه الرسالة باللفظ العربي المبين من دون أن يمنع ذلك دخول العجم إلى الإسلام من ترك وفُرس وأمازيغ... الذين يسر الله لهم الدخول أفواجا إلى هذا الدين العظيم. لا ينازع أصلي غير العربي حبي للقرآن إلا كما ينازع غصن الشجرة جذعها، فرض علي ربي، وهو القاهر فوق عباده خمس صلوات في اليوم والليلة لا تصح إلا بقراءة القرآن فيها باللفظ العربي المبين. كيف لي من كل هذا الفضل الذي به يكتمل إسلامي ويرقى إيماني ويسمو إحساني إن لم أَسْعَ لإتقان اللغة العربية، لغة القرآن. ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ اَقْفَالُهَا﴾[محمد:25]، أحد هذه الأقفال المهمة هو قفل عدم الإلمام باللغة العربية، لا فقه ولا علم ولا عبادة ولا قرآن بدون عربية. المطالب السياسية من حجم المطالبة بدسترة اللغة الأمازيغية بدأت من الاستئناس الثقافي لمكونات الثقافة الأمازيغية، غير أن الحركة الأمازيغية رفعت سقف المطالب السياسية إلى ضرورة توفير الحماية القانونية والدستورية للغة الأمازيغية على اعتبار أن جميع دساتير المغرب السابقة أغفلت هذا المكون، كما أن الدستور الحالي يقوم على «فلسفة إقصائية» تجاه الأمازيغية وبالتالي لن يكون هذا الدستور ديمقراطيا إلا إذا نص على الأمازيغية لغة وطنية ورسمية، (7 ) بحجة أن هناك «دولا متقدمة» كإسبانيا، سويسرا، بلجيكا... تعتبر نموذجا للاقتداء في هذا المجال حيث نصت تلك الدول في دساتيرها على أكثر من لغة رسمية في دساتيرها مع العلم أن تلك الدول لم تفعل ما فعلته بناء على مطالب الهوية والعرقية وإنما بناء على الوظيفة الاقتصادية والإدارية لتلك اللغات، كما أن «الأممالمتحدة»، التي تضم حوالي 200 دولة، اختارت فقط ست لغات للتداول الرسمي بينها اللغة العربية. إذا كان مطلب ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور وتوطينها باعتبارها اللغة الأم ولغة التداول اليومي، فإن ذلك ينطبق تماما على مختلف الدارجات العربية المغربية وعلى الحسانية كذلك، كما أن هذا المطلب يقفز على الواقع المغربي الذي يحفل بأمازيغيات عديدة غير موحدة وغير ممعيرة وكأن الدسترة هي الشرط اللازم لولادة لغة أمازيغية موحدة يتواصل ويكتب بها المغاربة بسهولة. كما أن هذا الواقع المغربي يعطي سيادة للغة الفرنسية في دواليب الدولة (الإدارة، الاقتصاد، الأبناك...) بشكل جعل «الفرنسية هي لغة الدولة المغربية الحقيقية رغم بهتان الدستور، والثالثة والرابعة عربوفونية فاشلة وأمازيغية مفشلة»(8 ). فاللغة العربية، رغم رسميتها ووطنيتها في الدستور المغربي، ليس لها أي امتداد في الواقع والإدارة والاقتصاد، لا نغمط اللغات الأجنبية أهميتها في العصر ولكن لا يجب أن تكون أكثر من عصا يتوكأ عليها الأعرج، فذلك من ضرورات المعاش أن يتوكأ الأعرج ريثما تصح رجلاه»( 9)، هذا هو الواقع الذي فيه صراع بين ثنائية وهمية (عربية مقابل أمازيغية) ليفسح المجال أمام «اللغة الحية القوية الأنيقة» وتنفرد بالريادة وتبقى «العربوفونية والأمازيغوفونية» أرامل متواضعات مهزومات... في مواقع حرب شاملة ووقائع نهب منظم وضرائر في بيت الفاقة والتخلف، يتنازعن عن كسرة خبز قفار ومُزْعَةٍ من لحم البوار والدمار(10 ). فهل تستطيع الأمازيغية بنسختها الحالية أن توطن صناعة أو اقتصادا أو إعلاما هادفا أو تعليما بناء؟ هل تستطيع أن تقاوم الغزو الفرانكفوني الممنهج؟ كيف لها ذلك وهي لا ثقة لها بنفسها بعد، ولا ثقة للمتكلمين بها بها؟ هل بمجرد ترسيمها في الدستور ستحل كل «المسائل العالقة»؟ " فمع يقيني [يقول عبد اللطيف أكنوش] أن دسترة الأمازيغية نصا لن يحل مشكل رسميتها واقعا... فلا يسعني إلا أن أطالب به كمطلب ثقافي وكمطلب سياسي." (11) -------------------------------- الهوامش: ياسين عبد السلام، الإسلام والقومية العلمانية، ص 9. مجلة عالم الفكر، المجلد 37، يوليوز-شتنبر 2008، ص 8. المصدر نفسه، ص 8. ياسين عبد السلام، حوار مع صديق أمازيغي، ص 97-98. جريدة الأيام، عدد 72 الصادر من 06 إلى 12 فبراير 2003. جريدة السبيل، عدد 38، 10 شتنبر 2008. جريدة الصحيفة، عدد 170 الصادر من 07 إلى 13 يوليوز 2004، وجريدة المستقل العدد الصادر من 26 يوليوز إلى 01 غشت 2001. ياسين عبد السلام، حوار مع صديق أمازيغي، ص 103. المصدر نفسه، ص 135. المصدر نفسه، ص 105. جريدة المستقل، العدد الصادر من 26 يوليوز إلى 01 غشت 2001.